الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
مدخل
…
الفصل السادس:
قال: "الفصل السادس: في الحقيقة والمجاز، الحقيقة فعيلة من الحق الثابت أو المثبت، نقل إلى العقد المطابق ثم إلى القول المطابق، ثم اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية، والمجاز مفعل من الجواز بمعنى العبور وهو المصدر أو المكان، نقل إلى الفاعل ثم إلى اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح، وفيه مسائل". أقول: ذكر في هذا الفصل مقدمة وثماني مسائل؛ أما المقدمة ففي الكلام على لفظتي الحقيقة والمجاز على معناهما لغة واصطلاحا، ومقصوده الأعظم بيان أن إطلاق لفظتي الحقيقة والمجاز على المعنى المعروف عند الأصوليين إنما هو على سبيل المجاز، فأما الحقيقة فوزنها فعيلة وهي مشتقة من الحق، والحق لغة: الثبوت، قال الله تعالى:{وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] أي: ثبتت، ومن أسمائه تعالى الحق؛ لأنه الثابت، ثم إن فعيلا قد يكون بمعنى فاعل الفاعل، فمعناها الثابتة من قولهم: حق الشيء يحق -بالضم والكسر- إذا وجب وثبت، وإن كانت بمعنى المفعول فمعناها المثبتة بفتح الباء من قولهم: حققت الشيء أحقه إذا أثبته، ثم نقلت الحقيقة من الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع مجازا كاعتقاد وحدانية الله تعالى، قال في المحصول: لأنه أولى بالوجود من الاعتقاد الفاسد، وقد يقال: إنما كان مجازا لاختصاصه ببعض أفراد الثابت فصار كإطلاق الدابة على ذوات الأربع، ثم نقل من الاعتقاد المطابق إلى القول الدال على المعنى المطابق أي: الصدق لعين هذه العلة كما قال في المحصول1، ثم نق من القول المطابق إلى المعنى المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب، قال في المحصول: لأن استعماله فيما وضع له تحقيق لذلك الوضع. قال: فظهر أن إطلاق لفظ الحقيقة على هذا المعنى المعروف ليس حقيقة لغوية بل مجاز واقع في المرتبة الثالثة، لكنه حقيقة عرفية خاصة، ولقائل أن يقول: يجوز أن يكون لفظ الحق موضوعا للقدر المشترك بين الجمع وهو الثبوت، سلمنا لكن لا نسلم أن كل مجاز مأخوذ مما قبله بل الجميع مأخوذ من الحقيقة، وأما معنى الحقيقة في الاصطلاح فهو ما أشار إليه المصنف بقوله: اللفظ المستعمل
…
إلخ فقوله: اللفظ جنس، لكنه جنس بعيد فالتعبير بالقول أصوب، وقوله: المستعمل خرج
1 انظر المحصول، ص133، جـ1.
عنه المهمل واللفظ الموضوع قبل الاستعمال، فإنه ليس بحقيقة ولا مجاز كما سيأتي، وقوله: فيما وضع له يخرج به المجاز، وقوله: في اصطلاح التخاطب يتناول اللغوية والشرعية والعرفية، فإن الصلاة مثلا في اصطلاح اللغة حقيقة في الدعاء، مجاز في الأركان المخصوصة، وفي اصطلاح الشرع بالعكس. واعلم أن المراد بالوضع في الحقيقة الشرعية والعرفية هو غلبة الاستعمال، وفي اللغوية هو تخصيصه به وجعله دليلا عليه، وإرادة المصنف لهما لا تستقيم إلا باستعمال المشترك في معنييه فافهمه. وهذا الحد يرد عليه الإعلام فإن الحد صادق عليها مع أنها ليست بحقيقة ولا مجاز كما سيأتي، وأيضا فالمجاز موضوع عنده؛ لأن المراد من وضعه هو اعتبار العرب لنوعه، وقد جزم باشتراط ذلك كما سيأتي فلا بد فيه من قيد في الحد لإخراجه؛ لأن المذكور هنا صادق عليه. قوله:"والتاء لنقل اللفظ" اعلم أن الفعيل إن كان بمعنى الفاعل فإنه يفرق بين مذكره ومؤنثه بالتاء، فتقول: مررت برجل عليم وامرأة عليمة، وكريم وكريمة، وإن كان بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث فتقول: مررت برجل قتيل وامرأة قتيل، ويستثنى من ذلك ما إذا سمي به أو استعمل استعمال الأسماء كما لو استعمل بدون الموصوف، كقوله تعالى:{النَّطِيحَةُ} أي: والبهيمة النطيحة فإنه لا بد من التاء للفرق، فالحقيقة إن كانت بمعنى الفاعل فتاؤها على الأصل، وإن كانت بمعنى المفعول فهي إنما دخلت لانتقال الحقيقة من الوصفية إلى الاسمية؛ لأنا بينا أنها نقلت إلى اللفظ المستعمل بالشروط وجعلت اسما له، ويجوز أن يكون المراد أن دخولها للإعلال بالنقل. قوله: "المجاز مفعل
…
إلخ" يريد أن إطلاق لفظ المجاز على معناه المعروف عند العلماء بالمجاز اللغوي حقيقة عرفية؛ وذلك لأن المجاز مشتق من الجواز الذي هو التعدي والعبور تقول: جزت المكان الفلاني أي: عبرته ووزن المجاز مفعل؛ لأن أصله: مجوز فقلبوا واوه ألفا بعد نقل حركتها إلى الجيم؛ لأن المشتقات تتبع الماضي المجرد في الصحة والإعلال، وهم قد أعلوا فعله الماضي وهو جاز لتحرك واوه وانفتاح ما قبلها فلذلك أعلوا المجاز، والفعل يستعمل حقيقة في الزمان والمكان والمصدر تقول: قعدت مقعد زيد وتريد: قعود زيد أو زمان قعوده أو مكان قعوده، فيكون لفظ المجاز في الأصل حقيقة، إما في المصدر وهو الجواز وإما في مكان التجوز أو زمانه، وأهمل المصنف الزمان لما ستعرفه، ثم إن لفظ المجاز نقل من ذلك إلى الفاعل وهو الجائز أي: المنتقل لما بينهما من العلاقة؛ لأنه إن نقل من المجاز المستعمل في المصدر فالعلاقة هي الجزئية؛ لأن المشتق منه جزء من المشتق، فصار كإطلاقهم لفظ العدل وهو مصدر على فاعل العدالة فقالوا: رجل عدل أي: عادل، وإن نقل من المجاز المستعمل في المكان فالعلاقة هي إطلاق اسم المحل وإرادة الحال ويعبر عنه بالمجاوزة، وأما المجاز المستعمل في الزمان فإنه ليس بينه وبين الجائز علاقة معتبرة، فلا يصح أن يكون مأخوذا منه فلذلك أهمله المصنف فافهمه، فإنه
من محاسن كلامه، ثم إن الجائز يطلق حقيقة على الأجسام؛ لأن الجواز هو الانتقال من حيز إلى حيز، وأما اللفظ فعرَض يمتنع عليه الانتقال، فنقل لفظ المجاز من معنى الجائز إلى المعنى المصطلح عليه عند الأصوليين، وهو اللفظ المستعمل في معنى غير موضوع له يناسب المصطلح عليه، وإطلاقه على هذا المعنى على سبيل التشبيه، فإن تعدية اللفظ من معنى إلى معنى كالجائز من مكان إلى مكان آخر، فيكون إطلاق لفظ المجاز على المعنى المصطلح عليه مجازا لغويا في المرتبة الثانية حقيقة عرفية، فأما قوله: اللفظ المستعمل فقد عرفت شرحه مما تقدم، وأما قوله: في معنى غير موضوع له فاحترز به عن الحقيقة، ويؤخذ منه أن المجاز عند المصنف لا يستلزم الحقيقة؛ لأنه شرط تقدم الوضع لا تقدم الاستعمال، وهو اختيار الآمدي وجزم باستلزامه في المحصول في الكلام على إطلاق اسم الفاعل بمعنى الماضي، ونقله في الكلام على الحقيقة اللغوية عن الجمهور، ثم قال: وهو ضعيف على عكس ما جزم به أولا ولم يصحح ابن الحاجب شيئا، وأما قوله: يناسب المصطلح فأتى به لثلاثة أمور، أحدها: للاحتراز عن العلم المنقول كبكر وكلب، فإنه ليس بمجاز؛ لأنه لم ينقل لعلاقة. الثاني: اشتراط العلاقة. الثالث: ليكون الحد شاملا للمجازات الأربعة: المجاز اللغوي والشرعي والعرفي العام والعرفي الخاص، فأتى بالاصطلاح الذي هو أعم من كونه لغويا أو شرعيا أو عرفيا، وهذا الحد يرد عليه المجاز المركب، وذلك لأن شرط المجاز أن يكون موضوعا لشيء، ولكن يستعمل في غيره لعلاقة كما تقرر، والمركب عن المصنف غير موضوع فإنه قد قال في التخصيص: قلنا: المركب لم يوضع وقد وقعت للشارحين في هذا الفصل مواضيع ينبغي اجتنابها. واعلم أن هذه الأعمال كلها ما عدا الحدين لم يتعرض لها الآمدي ومن تابعه كابن الحاجب.
قال: "الأولى: الحقيقة اللغوية موجودة وكذا العامة كالدابة ونحوها، والخاصة كالقلب والنقض والجمع والفرق، واختلف في الشرعية كالصلاة والزكاة والحج؛ فمنع القاضي مطلقا واثبت المعتزلة مطلقا، والحق أنها مجازات لغوية اشتهرت لا موضوعات مبتدأة وإلا لم تكن عربية، فلا يكون القرآن عربيا وهو باطل لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113] ونحوه قليل المراد بعضه، فإن الحالف على أن لا يقرأ القرآن يحنث بقراءة بعضه قلنا: معارض بما يقال: إنه بعضه قيل: تلك كلمات قلائل فلا تخرجه عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية، قلنا: تخرجه وإلا لما صح الاستثناء قيل: كفى في عربيتها استعمالها في لغتهم، قلنا: تخصيص الألفاظ باللغات بحسب الدلالة قيل: منقوض بالمشكاة والقسطاس والإستبرق وسجيل قلنا: وضع العرب فيها وافق لغة أخرى". أقول: لما فرغ من الكلام على الحقيقة لغة واصطلاحا شرع في بيان وجودها، والحقيقة تنقسم إلى أربعة أقسام أحدها: اللغوية ولا شك في وجودها؛ لأنا نقطع باستعمال بعض اللغات في موضوعاتها كالحر والبرد والسماء والأرض، وبدأ المصنف
باللغوية؛ لأن ما عداها فرع عنها. الثاني: العرفية العامة وهي التي انتقلت من مسماها اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول، قال في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم اللغوي إلى غيره للاستعمال العام بحيث هجر الأول، قال في المحصول: وذلك إما بتخصيص الاسم ببعض مسمياته كالدابة فإنها وضعت في اللغة لكل ما يدب كالإنسان، فخصصها العرف العام بما له حافر، وإما باشتهار المجاز بحيث يستنكر معه استعمال الحقيقة كإضافتهم الحرمة إلى الخمر وهي في الحقيقة مضافة إلى الشرب. الثالث: العرفية الخاصة وهي ما لكل طائفة من العلماء من الاصطلاحات التي تخصهم كاصطلاح الفقهاء على القلب والنقص والجمع والفرق الآتي بيانها في القياس، واصطلاح النحاة على الرفع والنصب والجر. الرابع: الشرعية وهي اللفظة التي استفيد من الشارع وضعها كالصلاة للأفعال المخصوصة، والزكاة للقدر المخرج. قال في المحصول: سواء كان اللفظ والمعنى مجهولين عند أهل اللغة كأوائل السور عند من يجعلها اسما، أو كان معلوما لهم لكنهم لم يضعوا ذلك الاسم لذلك المعنى كلفظة الرحمن لله تعالى، فإن كلا منهما كان معلوما لهم، ولم يضعوا اللفظ لله تعالى ولذلك قالوا حين نزل قوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء: 110] : إنا لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة، أو كان أحدهما مجهولا والآخر معلوما كالصوم والصلاة، إذا علمت ذلك فقد اختلفوا في وقوعها، فمنعه القاضي أبو بكر وقال ابن الشارع: لم يستعملها إلا في الحقائق اللغوية فالمراد بالصلاة المأمور بها هو الدعاء، ولكن أقام الشارع أدلة أخرى على أن الدعاء لا يقبل إلا بشرائط مضمومة إليه، وأثبته المعتزلة فقالوا: نقل الشارع هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية، وابتدأ وضعها لهذه المعاني لا للمناسبة فليست حقائق لغوية ولا مجازات عنها. وقوله: مطلقا أي: سواء كان فيها مناسبة أم لا، بخلاف مذهبنا كما سيأتي أو سواء كانت أسماء للفعل كالصوم والصلاة، أو للفاعل كالصائم وهي المسماة عندهم بالدينية كما سيأتي في فروع النقل، واختار إمام الحرمين والإمام المصنف أنها لم تستعمل في المعنى اللغوي، ولم يقطع النظر عنه حالة الاستعمال بل استعملها الشارع في هذه المعاني لما بينها وبين المعاني اللغوية من العلاقة، فالصلاة مثلا لما كانت في اللغة موضوعة للدعاء والدعاء جزء من المعنى الشرعي أطلقت على المعنى الشرعي مجازا تسمية للشيء باسم بعضه، ولا تكون هذه الألفاظ بذلك خارجة عن لغة العرب لانقسام اللغة إلى حقيقة ومجاز، فتلخص أن هذه الألفاظ مجازات لغوية ثم اشتهرت فصارت حقائق شرعية، وهذا هو اختيار ابن الحاجب أيضا، وتوقف الآمدي فلم يختر شيئا، وأشار إلى أنه الحق وهذا الخلاف في الوقوع، وأما الإمكان فقال في المحصول: إنه متفق عليه، وقال في الأحكام: لا شك فيه، وما قالاه فممنوع، فقد نقل أبو الحسن في المعتمد عن قوم أنهم منعوا بإمكانه، ونقله عنه الأصفهاني في شرح المحصول. قوله:"وإلا لم تكن عربية"
أي: لو لم تكن هذه الألفاظ مجازات عرفية ابتدأ الشارع وضعها لهذه المعاني، لكانت غير عربية؛ لأن العرب لم تضعها لها لا حقيقة ولا مجازا، وإذا لم تكن عربية فلا يكون القرآن عربيا، لكن القرآن عربي لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113] وقوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 38] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] وهذا الدليل لا يثبت فيه المدعى؛ لأنه لا يبطل المذهبين الآخرين بل مذهب المعتزلة فقط. قوله: "قيل: المراد بعضه
…
إلخ" أي: اعترضت المعتزلة على هذا الدليل بأربعة أوجه، أحدها: أن هذه الآية لا تدل على أن القرآن كله عربي بل على أن بعضه عربي؛ لأن القرآن يطلق على مجموعه وعلى كل جزء منه؛ ولهذا لو حلف: لا يقرأ القرآن حدث بقراءة بعضه، وجوابه: أن استدلالكم بالحلف وإن دل على أن المراد بالقرآن البعض فهو معارض لقولنا للسورة والآية: إنه بعض القرآن فإنه لو أطلق عليه بعض القرآن حقيقة لما كان لإدخال البعض معنى، وأيضا فلأن بعض الشيء غير الشيء، وإذا تعارضا تساقطا، وسلم ما قلناه أولا. واعلم أن ما ذكره من الحنث ممنوع، فقد نص الشافعي على ما حكاه الرافعي في أبواب العتق أنه لو قال لعبده: إن قرأت القرآن فأنت حر، لا يعتق إلا بقراءة الجميع. الثاني: أن هذه الألفاظ وإن كانت غير عربية، لكنها قلائل فلا يخرج القرآن عن كونه عربيا كقصيدة فارسية فيها ألفاظ عربية، فإنها لا تخرج بذلك عن كونها فارسية، والجواب: أنا لا نسلم بل يخرج عن كونه عربيا قطعا بدليل صحة الاستثناء فنقول: القرآن عربي إلا كذا وكذا، ومثله القصيدة أيضا. الثالث: أنه يكفي في كون هذه الألفاظ عربية استعمال العرب لها من حيث الجملة، وحينئذ فاستعمال الشارع لها في غير المعنى اللغوي لا يخرجه عن ذلك، وجوابه: أن تخصيص الألفاظ بكونها عربية أو فارسية ليس حكما حاصلا بذات الألفاظ من حيث هي هي، بل بحسب دلالتها على تلك المعاني في تلك اللغة، فلا يصير اللفظ عربيا إلا إذا دل على المعنى الذي وضعه العرب له، وفيما قال نظر، بل الحق أن العربي لا يخرج عن عربيته باستعماله في معنى آخر، ويدل على هذا أن الأعجمي كإبراهيم لا يخرج عن العجمة باستعمال العرب له في معنى آخر كما صرح به النحاة، ولهذا منعوا صرفه، وهذا إذا قلنا: إن اللغات اصطلاحية، فإن قلنا: توقيفية، ففي الحكم بتخصيص البعض بالعربي بحث يتقوى به جواب المصنف. الرابع: أنه منقوض بألفاظ واقعة في القرآن ليست عربية بل معربة، فإن المشكاة حبشية كما قال في المحصول، وهندية كما قال الآمدي وابن الحاجب، وهي الكوة والقسطاس رومية، وهي الميزان والإستبرق فارسية، وهي الديباج الغليظ وسجيل أيضا فارسية، وهي الحجر من الطين، وأجاب المصنف بأنا لا نسلم أن هذه الألفاظ ليست عربية، بل غايته أن وضع العرب لها وافق وضع غيرهم كالصابون والتنور، فإن اللغات متفقة فيهما. قال في المحصول: ولئن سلمنا خروج
هذه الألفاظ عن مقتضى الدليل، فيبقى ما عداها على الأصل، وهذا الذي صححه المصنف والإمام من كون المعرب لم يقع في القرآن، نقله ابن الحاجب عن الأكثرين، ونص عليه الشافعي في أوائل الرسالة فقال ما نصه: وقد تكلم في القرآن من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه، لكان الإمساك أولى به وأقرب من السلامة إن شاء الله تعالى، فقال منهم قائل: إن في القرآن عربيا وأعجميا، هذا لفظه بحروفه، ومن الرسالة نقلته، ثم إنه أطال الاستدلال في الرد على قائله، ثم قال: والله تعالى يغفر له ولهم ولم يصحح الآمدي شيئا، وصحح ابن الحاجب وقوعه مستدلا بإجماع النحاة على أن إبراهيم ونحوه لا ينصرف للعلمية والعجمية. واعلم أن المصنف لم يرتب هذه الاعتراضات على الوجه اللائق فإن اللائق الابتداء بالثالث، ثم بالثاني، ثم بالأول، فيقول أولا: لا نسلم أنها غير عربية بل يكفي فيها استعمالها عندهم، سلمنا لكن لا يخرج القرآن عن كونه عربيا؛ لأنها قلائل سلمنا خروجه، فليس بممتنع لأن المراد من قوله تعالى:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [طه: 113] هو البعض.
قال: "وعورض بأن الشارع اخترع معاني، فلا بد لها من ألفاظ، قلنا: كفى التجوز بأن الإيمان في اللغة هو التصديق، وفي الشرع فعل الواجبات لأنه الإسلام، وإلا لم يقبل من مبتغيه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا} [آل عمران: 85] فلن يقبل منه، ولم يجز استثناء المسلم من المؤمن وقد قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36] والإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} والدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} قلنا: الإيمان في الشرع تصديق خاص، وهو غير الإسلام والدين فإنهما الانقياد والعمل الظاهر؛ ولهذا قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وإنما جاز الاستثناء لصدق المؤمن على المسلم بسبب أن التصديق شرط صحة الإسلام". أقول: إن المعتزلة طعنوا أولا في مقدمات دليلنا فأجبناهم، فانتقلوا إلى النقض بالمشكاة وشبهها، فأجبناهم فانتقلوا إلى المعارضة فقالوا: ما ذكرتم وإن دل على أن الشارع ما ابتدأ وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني لكنه معارض بوجهين، أحدهما: إجمالي والآخر: تفصيلي، الأول وهو الإجمالي: أن الشارع اخترع معاني لم تكن معقولة للعرب فلا بد لها من ألفاظ تدل عليها، ويستحيل أن يكون الواضع لها هم العرب لأنهم لا يعقلونها فيكون الواضع لها وهو الله تعالى، فيكون شرعية وجوبه أنا لا نسلم أنه يجب إحداث وضع لها، بل يكفي التجوز بما وضعته العرب لحصول المقصود وهو الإفهام، وقد تقدم إيضاحه عند حكاية المذاهب. الدليل الثاني وهو التفصيلي: أن الإيمان يستعمل في غير معناه اللغوي فيكون شرعيا، بيانه أن الإيمان في اللغة هو التصديق، قال الله تعالى:{وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] وفي الشرع فعل الواجبات؛ وذلك لأن الإيمان هو الإسلام، والإسلام هو الدين، والدين فعل الواجبات، ينتج أن الإيمان
فعل الواجبات، وإنما قلنا: إن الإيمان هو الإسلام لوجهين، أحدهما: أنه لو كان غيره لما كان مقبولا ممن ابتغاه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] الآية. الثاني: لو كان مغايرا له لامتنع استثناؤه منه؛ لأن الاستثناء إخراج بعض الأول ولكنه لا يمتنع لقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36، 36] ووجه الاستدلال أن غير هنا بمعنى إلا، إذ لو كانت على ظاهرها لكان التقدير فما وجدنا فيها المغاير لبيت المؤمنين، فيكون المنفي هو بيوت الكفار وهو باطل، فتقرر أنه استثناء، ثم إن هذا الاستثناء مفرغ فلا بد له من تقدير شيء عام منفي يكون هو المستثنى منه، وذلك العام لا بد من تقييده بكونه من المؤمنين، وإلا لزم انتفاء بيوت الكفار وهو باطل لما قلناه، فيكون التقدير: فما وجدنا فيها أحدا من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين أي: منهم وأوقع الظاهر موقع المضمر، وذلك استثناء المسلمين من المؤمنين، فثبت أن الإيمان هو الإسلام، وإنما قلنا: إن الإسلام هو الدين لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} وإنما قلنا: الدين فعل الواجبات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي: دين الملة المستقيمة، فقوله: وذلك إشارة إلى كل ما تقدم من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بتأويل المذكور فيكون دينا، ولك أن تقول في تقرير المصنف لهذا الدليل: إشكال لأن من جملة مقدماته، أن الإسلام هو الدين، وأن الدين هو فعل الواجبات وقد استدل عليهما بما ينتج العكس، والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها وقد قرره غيره على الصواب، فقالوا: إن فعل الواجبات هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان، واستدلوا عليه بما ذكره المصنف فينتج أن فعل الواجب هو الإيمان، وهو المطلوب، وهكذا قرره الإمام وأتباعه كصاحب الحاصل والآمدي ومن تبعه كابن الحاجب. قوله: "لنا: الإيمان في الشرع
…
إلخ" شرع رحمه الله في الجواب عن هذا الدليل فقال: الإيمان في الشرع أيضا هو التصديق كما هو في اللغة، لكنه تصديق خاص وهو تصديق محمد صلى الله عليه وسلم في كل أمر ديني علم بالضرورة مجيئه به فيكون مجازا لغويا من باب تخصيص العام ببعض مفهوماته كالدابة، والإيمان بهذا التفسير غير الإسلام وغير الدين، فإن الإسلام والدين في اللغة هما الانقياد، وفي الشرع هما الأعمال الظاهرة كالصلاة والصوم؛ ولهذا قال تعالى:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} فأثبت لهم الإسلام ونفى عنهم الإيمان فدل على المغايرة، وبهذا يظهر الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا} فإن مدلول الآية إن ابتغى دينا يغاير الإسلام فهو غير مقبول، فإذا لم يكن الإيمان دينا كما بينا لم يلزم عدم قبوله، ولقائل أن يقول: يجوز أن يكون المراد في الآية هو المفهوم اللغوي، والمعنى أن الأعراب ما صدقوا محمدا، ولكن انقادوا له ضرورة وحينئذ فلا يلزم تغاير المفهوم اللغوي أن يكون المفهوم الشرعي متغايرا،