المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول: في المقبولة - نهاية السول شرح منهاج الوصول

[الإسنوي]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمات

- ‌ترجمة البيضاوي صاحب منهاج الوصول إلى علم الأصول

- ‌ترجمة الإسنوي: صاحب نهاية السول شرح منهاج الوصول

- ‌خطبة الكتاب:

- ‌تعريفات:

- ‌الباب الأول في الحكم:

- ‌الفصل الأول: تعريفه

- ‌الفصل الثاني: تقسيماته

- ‌التقسيم الأول:

- ‌التقسيم الثاني:

- ‌التقسيم الثالث:

- ‌التقسيم الرابع:

- ‌التقسيم الخامس:

- ‌التقسيم السادس:

- ‌الفصل الثالث: في أحكام الحكم الشرعي

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌المسألة السادسة:

- ‌المسألة السابعة:

- ‌الباب الثاني: فيما لا بد للحكم منه وهو الحاكم والمحكوم عليه وبه

- ‌الفصل الأول: في الحكم

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفصل الثاني: في المحكوم عليه

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسألة الرابعة:

- ‌الفصل الثالث: في المحكوم به

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الكتاب الأول: في الكتاب والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في اللغات

- ‌الفصل الأول:

- ‌الفصل الثاني:

- ‌الفصل الثالث

- ‌مدخل

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌الفصل الرابع:

- ‌الفصل الخامس:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسالة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المسالة الرابعة:

- ‌المسألة الخامسة:

- ‌الفصل السادس

- ‌مدخل

- ‌الفرع الأول:

- ‌الفرع الثاني:

- ‌الفرع الثالث:

- ‌الفرع الرابع:

- ‌الفرع الخامس:

- ‌الفرع السادس:

- ‌الفصل السابع:

- ‌الفصل الثامن:

- ‌الفصل التاسع:

- ‌الباب الثاني: في الأوامر والنواهي

- ‌الفصل الأول: في لفظ الأمر

- ‌الفصل الثاني: في صيغته

- ‌الفصل الثالث: في النواهي

- ‌الباب الثالث: في العموم والخصوص

- ‌الفصل الأول: في العموم

- ‌الفصل الثاني: في الخصوص

- ‌الفصل الثالث: في المخصص

- ‌الباب الرابع: في المجمل والمبين

- ‌الفصل الأول: في المجمل

- ‌الفصل الثاني: في المبين

- ‌الفصل الثالث: في المبين له

- ‌الباب الخامس: في الناسخ والمنسوخ

- ‌الفصل الأول: في النسخ

- ‌الفصل الثاني: في الناسخ والمنسوخ

- ‌خاتمة في النسخ:

- ‌الكتاب الثاني: في السنة

- ‌الباب الأول: الكلام في أفعاله

- ‌الباب الثاني: في الأخبار

- ‌الفصل الأول: فيما علم صدقه

- ‌الفصل الثاني: فيما علم كذبه

- ‌الفصل الثالث: فيما ظن صدقه وهو خبر العدل الواحد

- ‌الكتاب الثالث: في الإجماع

- ‌الباب الأول: في بيان كونه حجة

- ‌الباب الثاني: في أنواع الإجماع

- ‌الباب الثالث: في شرائطه

- ‌الكتاب الرابع: في القياس

- ‌مدخل

- ‌الباب الأول: في بيان أنه حجة

- ‌الباب الثاني: في أركانه

- ‌الفصل الأول: في العلة

- ‌الفصل الثاني: في الأصل والفرع

- ‌الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها

- ‌الباب الأول: في المقبولة

- ‌الباب الثاني: في المردودة

- ‌الكتاب السادس: في التعادل والتراجيح:

- ‌الباب الأول: في تعادل الأمارتين في نفس الأمر

- ‌الباب الثاني: في الأحكام الكلية للتراجيح

- ‌الباب الثالث: في ترجيح الأخبار

- ‌الباب الرابع: في ترجيح الأقيسة

- ‌الكتاب السابع: في الاجتهاد والإفتاء

- ‌الباب الأول: في الاجتهاد

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الاجتهاد

- ‌الفصل الثاني: في حكم الاجتهاد

- ‌الباب الثاني: في الإفتاء

- ‌فهرس المحتويات

الفصل: ‌الباب الأول: في المقبولة

‌الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها

‌الباب الأول: في المقبولة

" الكتاب الخامس: في دلائل اختلف فيها، وفيه بابان، الباب الأول: في المقبول وهي ستة الأول: الأصل في المنافع الإباحة لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] وفي المضار التحريم لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" 1 قيل: على الأول اللام تجيء لغير النفع، كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [البقرة: 284] قلنا: مجاز؛ لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك، ومعناه الاختصاص النافع بدليل قولهم: الجل للفرس. قيل: المراد الاستدلال. قلنا: هو حاصل من نفسه فيحمل على غيره". أقول: لما فرغ من الكتب الأربعة المعقودة للأدلة الأربعة المتفق عليها شرع في كتاب آخر لبيان الأدلة المختلف فيها، وجعله مشتملا على بابين، الأول: في المقبول منها، والثاني: في المردود، فأما المقبول فستة، الأول: الأصل في الأشياء النافعة هو الإباحة، وفي الأشياء الضارة أي: مؤلمات القلوب هو الحرمة، وهذا إنما هو بعد ورود الشرع بمقتضى الأدلة الشرعية، وأما قبل وروده فالمختار الوقوف كما تقدم، ثم استدل المصنف على إباحة المنافع بثلاث آيات: الآية الأولى: "قوله تعالى": {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ووجه الدلالة أن البارئ تعالى أخبر بأن جميع المخلوقات الأرضية للعباد؛ لأن موضوعه للعموم، لا سيما وقد أكدت بقوله:{جَمِيعًا} واللام في {لَكُمْ} تفيد الاختصاص على جهة الانتفاع للمخاطبين، ألا ترى أنك إذا قلت: الثوب لزيد فإن معناه أنه مختص بنفعه، وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون الانتفاع بجميع المخلوقات مأذونا فيه شرعا وهو المدعي. الثانية:"قوله تعالى": {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ووجه الدلالة أن هذا الاستفهام ليس على حقيقته بل هو للإنكار، وحينئذ فيكون البارئ تعالى قد أنكر تحريم الزينة التي يختص بنا الانتفاع بها لمقتضى اللام كما تقدم، وإنكار التحريم يقتضي انتفاء التحريم، وإلا لم يجز الإنكار، وإذا انتفت الحرمة تعينت الإباحة، وفيه نظر، فقد تقدم في أوائل الكتاب أن انتفاء الحرمة لا يوجب الإباحة. الآية الثالثة: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} ووجه الدلالة أن اللام في {لَكُمْ} تدل على الطيبات مخصوصة بناء على جهة الانتفاع كما تقدم، وليس المراد بالطيبات هو المباحات، وإلا يلزم التكرار بل المراد بها ما تستطيعه النفس؛ لأن الأصل عدم معنى ثالث، وأما المضار فاستدل المصنف على تحريمها بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" ووجه الدلالة أن الحديث يدل على نفي الضرر مطلقا؛ لأن النكرة المنفية تعم، وهذا النفي ليس واردا على الإمكان ولا الوقوع قطعا، بل على الجواز، وإذا انتفى الجواز ثبت التحريم وهو المدعى. قوله:"قيل: على الأول" أي: اعترض الخصم على بيان الأصل وهو إباحة المنافع بوجهين أحدهما: لا نسلم أن اللام في اللغة للاختصاص النافع، فإنها قد تجيء لغير النفع كقوله تعالى:{وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أما في الآية الأولى؛ فلأنها لاختصاص الضرر لا لاختصاص النفع، وأما في

1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية "4/ 384".

ص: 360

الآية الثانية فلتنزيهه تعالى عن الانتفاع به، وأجاب المصنف بأن استعمال اللام في غير النفع مجاز، لاتفاق أئمة اللغة على أن اللام موضوعة للملك، ومعنى للملك هو الاختصاص النافع لا حقيقته المعروفة، وإلا يصح قولهم: الجل للفرس، فيلزم منه أن تكون اللام حقيقة في الاختصاص النافع، وحينئذ فيكون استعمالها في غيره مجازا؛ لأنه خير من الاشتراك، ولقائل أن يقول: هذا ينافي ما ذكره في القياس، من كون اللام حقيقة في التعليل، وأيضا فإن أهل اللغة يخصونها بالملك ولا بالاختصاص النافع، بل قالوا: إنها للملك وما يشبه الملك وهو الاختصاص، ولم يقيدوا الاختصاص بكونه نافعا، وأما قولهم: الجل للفرس فهو إنما يدل على صحة استعمالها فيه، لا على نفي استعمالها في الاختصاص الذي لا ينفع، فإنه يحتمل أن تكون موضوعة لمطلق الاختصاص، ودعواه أولى لما فيه من عدم الاشتراك والمجاز. الاعتراض الثاني: سلمنا أن اللام للاختصاص النافع، ولكن ذلك الاختصاص الذي أفادته ليس بعام بل هو مطلق، والمطلق يصدق بصورة، وتلك الصورة حاصلة هنا، فإن الاستدلال بالمخلوقات على وجود الصانع نفع عظيم، وأجاب المصنف بأن الاستدلال على الصانع حاصل لكل عاقل من نفسه، فإنه يصح أن يستدل من نفسه على خالقه، فينبغي حمل الانتفاع الوارد في الآيات على غير الاستدلال تكثيرا للفائدة، وفرارا من تحصيل الحاصل. قال:"الثاني: الاستصحاب حجة خلافا للحنفية والمتكلمين، لنا أن ما ثبت ولم يظهر زواله ظن بقاؤه، ولولا ذلك لما تقررت المعجزة لتوقفها على استمرار العادة ولم تثبت الأحكام الثابتة في عبده عليه الصلاة والسلام لجواز النسخ ولكان الشك في الطلاق كالشك في النكاح، ولأن الباقي يستغني عن سبب أو شرط جديد، بل يكفيه دوامهما دون الحادث، ونقل عدمه، الصدق عدم الحادث على ما لا نهاية له فيكون راجحا".

أقول: الدليل الثاني من الأدلة المقبولة: استصحاب الحال، وهو عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول، والسين فيه للطلب على القاعدة، ومعناه أن المناظر يطلب الآن صحة ما مضى كاستدلال الشافعية على أن الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء بأن ذلك الشخص كان على الوضوء قبل خروجه إجماعا، فيبقى على ما كان عليه وهو حجة عند الإمام والآمدي وأتباعهما خلافا لجمهور الحنفية والمتكلمين. قوله:"لنا" أي: الدليل على أنه حجة وجهان أحدهما: أن ما ثبت في الزمان الأول من وجود أمر أو عدمه ولم يظهر زواله لا قطعا ولا ظنا، فإنه يلزم بالضرورة أن يحصل الظن ببقائه كما كان والعمل بالظن واجب، قال المصنف: ولولا ذلك أي: ولولا أن ما ثبت في الزمان الأول على وجه المذكور يكون مظنون البقاء في الزمان الثاني لكان يلزم منه ثلاثة أمور باطلة بالاتفاق، أحدها: أن لا تقرر معجزة أصلا؛ لأن المعجزة أمر خارق للعادة متوقف على استمرار العادة فإنه لو

ص: 361

لم يتوقف على استمرارها لجاز تغيرها فلا تكون المعجزة خارقة للعادة، واستمرار العادة متوقف على أن الأصل بقاء ما كان على ما كان فإنه لا معنى للعادة إلا أن تكرر وقوع الشيء على وجه مخصوص يقتضي اعتقاد أنه لو وقع لم يقع إلا على ذلك الوجه، فلو كان اعتقاد وقوعه على الوجه المخصوص يساوي اعتقاد وقوعه على خلاف ذلك الوجه لم تكن المعجزة خارجة للعادة. الثاني: أن لا تثبت الأحكام الثابتة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلينا لجواز النسخ، فإنه إذا لم يحصل الظن من الاستصحاب يكون بقاؤها مساويا لجواز نسخها وحينئذ فلا يمكن الجزم بثبوتها وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح. الثالث: أن يكون الشك في الطلاق كالشك في النكاح؛ لتساويهما في عدم حصول الظن بما مضى، وحينئذ فيلزم أن يباح الوطء فيهما أو يحرم فيهما وهو باطل اتفاقا، بل يباح للشك في الطلاق دون الشك في النكاح. الدليل الثاني: أن بقاء الباقي راجح على عدمه، وإذا كان راجحا وجب العمل به اتفاقا وهو المدعى، ووجه رجحانه من وجهين، أحدهما: أن الباقي يستغني عن السبب والشرط الجديدين؛ لأن الاحتياج إليهما إنما هو لأجل الوجود، والوجود قد حصل لهذا الباقي، فلا يحتاج حينئذ إليهما، وإلا يلزم تحصيل الحاصل، بل يكفيه دوامها بخلاف الأمر الذي يحدث، فإنه لا بد له من سبب وشرط جديدين فيكون عدم الباقي كذلك؛ لأنه من الأمور الحادثة، وما لا يفتقر أرجح من المفتقر، فيكون البقاء أرجح من العدم وهو المدعى، وإنما قيد السبب والشرط بكونهما جديدين؛ لأن الباقي يحتاج في استمرار وجوده إلى دوام سببه وشرطه. والثاني: أن عدم الباقي يقل بالنسبة إلى عدم الحادث؛ لأن عدم الحادث يصدق على ما لا نهاية له، وأما عدم الباقي مشروط فمتناه؛ لأن عدم الباقي مشروط بوجود الباقي، والباقي متناه، وإذا كان عدم الباقي أقل من عدم الحادث كان وجوده أكثر من وجوده فيكون راجحا. "فرع" مذكور في المحصول هنا لتعلقه بالاستصحاب، وهو أن نافي الحكم هو عليه دليل أم لا، فقال بعضهم: هو مطالب به، واختاره ابن الحاجب، وقيل: لا وقيل: إن كان في العقليات فهو مطالب، وإن كان في الشرعيات فلا. وفصل الإمام فقال: إن أرادوا بقولهم: لا دليل عليه، هو أن العلم بذلك العدم الأصلي يوجب ظن دوامه في المستقبل، فهذا حق، وإن أرادوا به غيره فهو باطل؛ لأن العلم بالنفي أو الظن لا يحصل إلا بمؤثر، وللآمدي تفصيل يطول ذكره. قال:"الثالث: الاستقراء، مثاله الوتر يؤدى على الراحلة فلا يكون واجبا لاستقراء الواجبات، وهو يفيد الظن، والعمل به لازم، لقوله عليه الصلاة والسلام: "نحن نحكم بالظاهر" 1.

أقول: قد تقدم الكلام على لفظ الاستقراء في الكلام على التكليف بالمحال،

1 أخرجه الشوكاني في الفوائد المجموعة "200".

ص: 362

وهو ينقسم إلى تام وناقص، فالتام إثبات حكم كلي في ماهية لأجل ثبوته في جميع جزئياتها، والناقص وهو مقصود المصنف، وهو إثبات حكم كلي في ماهية لثبوته في بعض أفرادها، هذا لا يفيد القطع لجواز أن يكون حكم ما لم يستقرأ من الجزئيات، على خلاف ما استقرئ منها، قال في المحصول: وكذا لا يفيد أيضا الظن على الأظهر، وخالفه صاحب الحاصل فجزم بأنه يفيد وتبعه عليه المصنف، وعلى هذا فيختلف الظن باختلاف كثرة الجزئيات المستقرأة وقلتها، ويجب العمل به لقوله عليه الصلاة والسلام:"نحن نحكم بالظاهر" ومثال ذلك استدلال بعض الشافعية على عدم وجوب الوتر، بأن الوتر يؤدى على الراحلة وكل ما يؤدى على الراحلة لا يكون واجبا، أما المقدمة الأولى فبالإجماع، وأما الثانية فباستقراء وظائف اليوم والليلة أداء وقضاء، فإن قيل: الوتر كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك فإنه كان يصليه على الراحلة، فالجواب ما قاله القرافي وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في السفر، والوتر لم يكن واجبا عليه إلا في الحضر. قال:"الرابع: أخذ الشافعي رضي الله عنه بأقل ما قيل، إذا لم يجد دليلا، كما قيل: دية الكتابي الثلث وقيل: النصف وقيل: الكل بناء على الإجماع والبراءة الأصلية، قيل: يجب الأكثر ليتيقن الخلاص، قلنا: حيث يتيقن الشغل والزائد لم يتيقن". أقول: الدليل الرابع من الأدلة المقبولة: الأخذ بأقل ما قيل، وقد اعتمد عليه الشافعي رضي الله عنه في إثبات الحكم إذا كان الأقل جزءا من الأكثر، ولم يجد دليلا غيره، كما في دية الكتابي، فإن العلماء اختلفوا فيها على ثلاثة أقوال، فقال بعضهم: إنها ثلث دية المسلم، وقالت المالكية: نصف ديته، وقالت الحنفية: مثل ديته، فاختار الشافعي المذهب الأول وهو أنها الثلث، بناء على أن المجموع من الإجماع البراءة الأصلية، أما الإجماع فإن كل واحد من المخالفين يوجبه، فإن الإيجاب الأكثر يستلزم إيجاب الأقل، حتى لو فرضنا أن بعضهم قال: لا يجب فيه شيء أصلا لم يكن إيجاب الثلث مجمعا عليه، لكونه قول بعض الأمة، وأما البراءة الأصلية فإنها تقتضي عدم وجوب الزيادة إذ هي دالة على عدم الوجوب مطلقا، لكن ترك العمل بها في الثلث للإجماع فبقي ما عداه على الأصل، فتلخص أن الحكم بالاقتصار على الأقل مبني على مجموع هذين الشيئين كما قرره الإمام والآمدي، لا على الإجماع وحده كما ظنه ابن الحاجب، بل الإجماع وحده إنما هو دليل على إيجاب الثلث خاصة، فقول المصنف: بناء الإجماع والبراءة، تعليل لقوله: أخذ الشافعي، وقوله إذا لم يجد دليلا سواه أي: فإن وجده الشافعي لم يتمسك بالأقل؛ لأن ذلك الدليل إن دل على إيجاب الأكثر فواضح، ولذلك لم يأخذ الشافعي بالثلاثة في انعقاد الجمعة وفي الغسل من ولوغ الكلب لقيام الدليل على الأكثر، وإن دل على الأقل كان الحكم بإيجابه لأجل هذا الدليل، لا لأجل الرجوع إلى أقل ما قيل، هكذا

ص: 363

قاله في المحصول؛ فلذلك أطلق المصنف هذا الشرط. وفي القسم الثاني منه نظر؛ لأنه يقتضي امتناع اجتماع الدليلين وليس كذلك. قوله: "قيل: يجب الأكثر" أي: اعترض بعضهم على الشافعي في أخذه بالأقل فقال: ينبغي إيجاب الأكثر ليتيقن المكلف الخلاص عما وجب عليه، وأجاب المصنف بأنه إنما يجب ذلك حيث تيقنا شغل الذمة به، والزائد على الأقل لم يتيقن فيه؛ ذلك لأنه لم يثبت عليه دليل. قال:"الخامس: المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية، كتترس الكفار الصائلين بأسارى المسلمين، اعتبر وإلا فلا. وأما مالك فقد اعتبره مطلقا؛ لأن اعتبار جنس المصالح يوجب ظن اعتباره، ولأن الصحابة رضي الله عنهم قنعوا بمعرفة المصالح".

أقول: سبق في الباب الثاني من كتاب القياس أن المناسب قد يعتبره الشارع وقد يلغيه وقد لا يعلم حاله، وهذا الثالث هو المسمى بالمصالح المرسلة، ويعبر عنه بالمناسب المرسل، وسبق هناك حكم القسمين الأولين، وأما الثالث فسبق تعريفه دون تفصيل حكمه، وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: أنه غير معتبر مطلقا، قال ابن الحاجب: وهو المختار، وقال الآمدي: إنه الحق الذي اتفق عليه الفقهاء، والثاني: أنه حجة مطلقا وهو مشهور عن مالك، واختاره إمام الحرمين، وقال ابن الحاجب: وقد نقل أيضا عن المعتبرة، والثالث وهو رأي الغزالي، واختاره المصنف: أنه إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية اعتبرت وإلا فلا، فالضرورية هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب، وأما القطعية فهي التي يجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية هي التي تكون موجبة لفائدة بأننا لو امتنعنا عن التترس لصدمونا، واستولوا على ديارنا وقتلوا المسلمين كافة حتى التترس، ولو رمينا التترس لقتلنا مسلما من غير ذنب صدر منه، فإن قتل التترس والحالة هذه مصلحة مرسلة؛ لكونه لم يعهد في الشرع جواز قتل مسلم بلا ذنب، ولم يقم أيضا دليل على عدم جواز قتله عند اشتماله على مصلحة عامة للمسلمين، لكنها مصلحة ضرورية قطعية كلية؛ فلذلك يصح اعتباره أي: يجوز أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى أن يقول: هذا الأسير مقتول بكل حال، فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ مسلم واحد، فإن لم تكن المصلحة ضرورية بل كانت من المصلحيات أو التتمات فلا اعتبار بها، كما إذا تترس الكفار في قلعة بمسلم فإنه لا يحل رميه إذ لا ضرورة فيه، فإن حفظ ديننا غير متوقف على استيلائنا على تلك القاعدة، وكذلك إن لم تكن قطعية كما إذا لم تقطع بتسليط الكفار علينا عند عدم رمي الترس، أو لم تكن كلية كما لو أشرفت السفينة على الغرق، وقطعنا بنجاة الذين فيها لو رمينا واحدا منهم بالبحر، فإنه لا يجوز الرمي لأن نجاة أهل السفينة ليست مصلحة كلية، وكذلك لا يجوز لجماعة وقعوا في مخمصة أكل واحد منهم بالقرعة لكون المصلحة جزئية. قوله:"لأن اعتبار" أي: احتج مالك بوجهين، أحدهما: أن الشارع اعتبر جنس

ص: 364