المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالثمن مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله - الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى - جـ ١

[سعيد بن وهف القحطاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ أهمية الموضوع وأسباب اختياره:

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ خطة الرسالة:

- ‌ منهجي في الرسالة:

- ‌ الشكر والتقدير:

- ‌الفصل الأولالحكمة مفهومها وضوابطها

- ‌المبحث الأول مفهوم الحكمة

- ‌المطلب الأول تعريف الحكمة

- ‌المطلب الثاني تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي

- ‌المطلب الثالث العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي

- ‌المبحث الثانيأنواع الحكمة ودرجاتها

- ‌المطلب الأول أنواع الحكمة

- ‌المطلب الثاني درجات الحكمة العملية

- ‌المبحث الثالثأركان الحكمة

- ‌المطلب الأول العلم

- ‌[أقسام العلم الذي تقوم عليه الحكمة]

- ‌أسباب وطرق تحصيل العلم:

- ‌المطلب الثاني الحلم

- ‌[الحلم من أعظم أركان الحكمة]

- ‌[الحلم خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة]

- ‌[صورة حسية من حلم النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[علاج الغضب بالأسباب المشروعة]

- ‌[الأسباب التي تدعو إلى الحلم]

- ‌[الغضب لإعلاء كلمة الله]

- ‌المطلب الثالث الأناة

- ‌[أهمية الأناة في الدعوة إلى الله بالحكمة]

- ‌[ذم الإسلام للعجلة ومدح الأناة]

- ‌[النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أناةً وتثبّتًا]

- ‌[أسباب العجلة وعلاجها]

- ‌المبحث الرابعطرق اكتساب الحكمة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول السلوك الحكيم

- ‌المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه

- ‌المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم:

- ‌المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة:

- ‌[الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة]

- ‌المطلب الثانيالعمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

- ‌المطلب الثالث الاستقامة

- ‌المطلب الرابع الخبرات والتجارب

- ‌[الاستفادة من تجارب الأنبياء]

- ‌[الداعية بكثرة تجاربه يذداد حكمة]

- ‌المطلب الخامس السياسة الحكيمة

- ‌المطلب السادسفقه أركان الدعوة إلى الله تعالى

- ‌المسلك الأول: موضوع الدعوة:

- ‌المسلك الثاني: الداعي:

- ‌المسلك الثالث: المدعو:

- ‌المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

- ‌الفصل الثانيمواقف الحكمة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة

- ‌المسلك الأول: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة السرية:

- ‌المسلك الثاني: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة الجهرية بمكة:

- ‌المسلك الثالث: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف:

- ‌المطلب الثانيمواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة

- ‌المسلك الأول: مواقف الحكمة في الإصلاح والتأسيس:

- ‌المسلك الثاني: مواقف الحكمة في حسن الإعداد للقتال، والشجاعة والبطولة:

- ‌المسلك الثالث: مواقف الحكمة الفردية:

- ‌المبحث الثانيمواقف الصحابة رضي الله عنهم

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأولمن مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌ دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بنصرته:

- ‌ تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم والحرص على حمايته:

- ‌ إنفاقه ماله في سبيل الله تعالى:

- ‌ موقف أبى بكر عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ موقفه رضي الله عنه في إنفاذ جيش أسامة بن زيد

- ‌ موقف أبى بكر رضي الله عنه مع أهل الردة ومانعي الزكاة:

- ‌المطلب الثانيمن مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌ موقفه في إظهار إسلامه وهجرته:

- ‌ موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبى بكر رضي الله عنه:

- ‌ موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس:

- ‌ موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه لله تعالى:

- ‌المطلب الثالثمواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌ إنفاقه الأموال العظيمة الكثيرة في سبيل الله تعالى

- ‌ موقفه العظيم في جمع الأمة على قراءة واحدة

- ‌المطلب الرابعمواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌ موقفه رضي الله عنه في تقديم نفسه فداء للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته:

- ‌ موقفه في بدر مع رؤوس الكفر:

- ‌ موقف علي رضي الله عنه في يوم الأحزاب

- ‌ موقف علي رضي الله عنه في غزوة خيبر:

- ‌المطلب الخامسمواقف مصعب بن عمير رضي الله عنه

- ‌المطلب السادسموقف ضمام بن ثعلبة مع قبيلة بني سعد

- ‌المطلب السابعموقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة

- ‌المطلب الثامنموقف الحسن بن علي رضي الله عنهما

- ‌المطلب التاسعمواقف جماعة من الصحابة

- ‌المبحث الثالثمواقف التابعين

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأولمن مواقف سعيد بن المسيب رحمه الله

- ‌المطلب الثانيمن مواقف الحسن البصري

- ‌ موقفه مع الحجاج بن يوسف الثقفي:

- ‌ موقف الحسن مع عمر بن هبيرة:

- ‌ موقفه مع القراء:

- ‌المطلب الثالثمن مواقف عمر بن عبد العزيز

- ‌ مواقفه الحكيمة قبل الخلافة:

- ‌ مواقفه بعد أن ولي الخلافة:

- ‌المطلب الرابعمن مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت

- ‌المبحث الرابعمواقف أتباع التابعين

- ‌المطلب الأولمن مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى

- ‌المطلب الثانيمن مواقف الإمام الشافعي رحمه الله

- ‌المطلب الثالثمن مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله

- ‌المبحث الخامسنماذج من مواقف الحكمة عبر العصور

- ‌المطلب الأولمواقف الإمام منذر بن سعيد البلُّوطي

- ‌المطلب الثانيمواقف سلطان العلماء: العز بن عبد السلام

- ‌المطلب الثالثمن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌ عنايته بالعلم قبل العمل:

- ‌ بث النور ونشر العلم ونفع الأمة:

- ‌ مواقفه الحكيمة مع قازان وقوات التتار:

- ‌ مناظراته الحكيمة:

- ‌ مواقفه في إصلاح أهل السجون:

- ‌المطلب الرابعمواقف الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌ عنايته بالتوحيد وتطبيقه:

- ‌ بدأ بدعوته في عشيرته:

- ‌ بحثه عن دعم قوة الدعوة بالسلطان:

- ‌ غَرْس التوحيد في قلوب الناس وتصحيح عقيدتهم:

- ‌ خطواته الحكيمة في الرجوع بالناس إلى الكتاب والسنة:

- ‌ كتابته الرسائل بأساليب الحكمة والبيان:

- ‌ آخر مواقف الحكمة:

- ‌الفصل الثالثحكمة القول مع المدعوِّين

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولحكمة القول مع الملحدين

- ‌المطلب الأول الأدلة الفطرية

- ‌المطلب الثاني البراهين والأدلة العقلية

- ‌المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم

- ‌المسلك الثاني: العدم لا يخلق شيئا:

- ‌المسلك الثالث: الطبيعة الصماء لا تملك قدرة، وفاقد الشيء لا يعطيه:

- ‌المسلك الرابع: الصدفة العمياء لا تملك حياة:

- ‌المسلك الخامس: المناظرات العقلية الحكيمة:

- ‌المسلك السادس: مبدأ السببية:

- ‌المسلك السابع: التفكر في المصنوع يدل على بعض صفات الصانع:

- ‌المطلب الثالث الأدلة الحسية المشاهدة

الفصل: ‌المطلب الثالثمن مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله

‌المطلب الثالث

من مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله

للإمام أحمد (1) رحمه الله مواقف حكيمة تدل على حكمته وصدقه مع الله، وإخلاصه، ومن مواقفه رحمه الله تعالى:

موقفه الحكيم الذي حفظ الله به القرآن الحكيم: كان الناس أمة واحدة، ودينهم قائمًا، حتى ظهرت الخوارج، وكفَّرَتْ سادات الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب، وفي آواخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمشبهة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها؛ لأن الخلفاء والملوك والولاة لم يكن لهم دور في إظهار البدع والدعوة إليها، إلى ظهور المأمون (2) فاستجلب كتب الأوائل، وعرَّب حكمة اليونان، ورفع الجهمية والمعتزلة والشيعة رؤوسهم، وأظهر المأمون عام 212هـ القول بخلق القرآن، وحمل الأمة على القول بذلك، ثم امتحن العلماء وعذبهم عام 218هـ (3).

وفي آخر حياته قبل موته بأشهر خرج إلى طرطوس لغزو الروم، وكتب إلى نائبه ببغداد يأمره أن يدعو الناس ويلزمهم بالقول بخلق القران، فألزم

(1) الإمام حقًّا، وشيخ الإسلام صدقًا، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد الأئمة الأعلام، ولد ببغداد سنة 164هـ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه، وبدأ بطلب العلم، وحج سنة 187هـ، ثم رحل إلى صنعاء ليأخذ العلم عن عبد الرزاق صاحب المصنف، ثم عاد إلى بغداد، وواصل طلب العلم والتعليم، وتوفي يوم الجمعة 12/ 4 / 241هـ، وحضر جنازته ألف ألف وخمسمائة ألف. انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 177، 11/ 340، والبداية والنهاية 10/ 325، 10/ 342، وتهذيب التهذيب لابن حجر 1/ 62.

(2)

المأمون، هو عبد الله بن هارون الرشيد، ولد سنة 170هـ، وبويع بالخلافة في 25 محرم عام 198هـ، وكان داعية للقول بخلق القران فقصمه الله بدعوة الإمام أحمد، وتوفي في 25 محرم، سنة 218هـ. انظر البداية والنهاية 10/ 274.

(3)

سير أعلام النبلاء 11/ 236، وتاريخ الحلفاء للسيوطي ص 306، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر 5/ 197 - 200.

ص: 289

الناس بذلك، وبعث بجماعة من أهل الحديث إلى المأمون، فامتحنهم بخلق القران، فأجابو وأظهروا موافقته وهم كارهون، فردهم إلى بغداد، وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل نائبه ذلك، وأحضر خلقًا كثيرًا من أئمة الحديث والفقهاء وأئمة المساجد وغيرهم، ودعاهم إلى القول بخلق القرآن عن أمر المأمون، وذكر لهم موافقة أولئك المحدِّثين له على ذلك، فأجاب منهم جماعة (1) وما زال يُهدّد من امتنع منهم بالضرب وقطع الأرزاق، حتى أجابوه إلى ذلك كلهم أجمعون إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح (2) ولا شك أن أكثر المحدثين الذين أجابوا إلى ذلك تأولوا قوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106](3).

ثم قُيِّد الِإمام أحمد ومحمد بن نوح بالحديد، وحملا إلى المأمون، وعندما وصلا إلى جيش الخليفة ونزلا دونه بمرحلة جاء خادم من الجيش وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه، ويقول للِإمام أحمد: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفًا لم يسله قبل ذلك، ويقسم لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنَّك بذلك السيف، فجثى الإمام أحمد على ركبتيه، ورمق بطرفه إلى السماء، وقال: اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤونته. فجاء الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، ففرح أحمد، ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن

(1) انظر: البداية والنهاية 10/ 272، 331.

(2)

محمد بن نوح، قال عنه أحمد: ما رأيت أحدًا على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح، قال لي ذات يوم: يا أبا عبد الله، الله الله، إنك لست مثلي، أنت رجل يقتدى بك، قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك، فاتق الله، واثبت لأمر الله،. . . فمات وصليت عليه ودفنته. انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 242.

(3)

سورة النحل، الآية 106.

ص: 290

أبي دؤاد (1) وأن الأمر شديد، فُرِّد أحمد ومحمد إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى، ومات محمد بن نوح في الطريق، فصلى عليه أحمد (2) ووصل أحمد إلى بغداد في رمضان سنة 218هـ وأُودع السجن نحوًا من ثمانية وعشرين شهرًا، وقيل أكثر من ثلاثين شهرًا، وقد كان في هذه المدة يصلي بأهل السجن والقيود في رجليه (3) وكان المعتصم يوجه إليه من يناظره في السجن فيفوز عليهم الإمام أحمد بحجته ودليله، فيُزَاد في قيوده، ثم طلب المعتصم حضوره لديه، فَحُمِلَ على دابة وعليه الأقياد، ما معه من يمسكه إلا الله، وكاد أن يسقط على وجهه لثقل القيود، ولكن الله سلَّم، ثم دخل على المعتصم وأحمد بن أبي دؤاد حاضر عنده، وقد جمع خلْقًا كثيرًا من أصحابه (4) ثم قال المعتصم لأعوانه: ناظروه، فقيل له: ما تقول في القرآن؛ فقال أحمد: ما تقول في علم الله؛ فسكت المناظر له، فقال أحمد: من زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله. فقالوا: يا أمير المؤمنين كَفَرَ وكَفَّرنا.

فقال بعضهم: أليس قال الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62](5) والقرآن أليس شيئا؟ فقال أحمد: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25](6) فدمرت كل شيء إلا ما أراد الله.

(1) أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك المعتزلي، ولد سنة 160هـ، ولي قضاء القضاة للمعتصم، ثم للواثق، وأعلن مذهب المعتزلة، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين، وحُرِمَ لذة الطعام والشراب والنكاح، وغير ذلك، توفي يوم السبت لسبع بقين من محرم سنة 240هـ. انظر: البداية والنهاية 10/ 319 - 322.

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 242.

(3)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 342، 343، والبداية والنهاية 10/ 332.

(4)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 343، والبداية والنهاية 10/ 332.

(5)

سورة الزمر، الآية 62.

(6)

سورة الأحقاف، الآية 25.

ص: 291

قال أحمد: فكان يتكلم هذا فأرد عليه، ويتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضالّ مُضِلّ مبتدع، فيقول المعتصم: كلِّموه، ناظروه، فيكلمني هذا فأرد عليه، ويكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوٍا قال المعتصم: ويحك يا أحمد ما تقول؛ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به. فيقول أحمد بن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟ (1) فقال أحمد: وهل يقوم الِإسلام إلا بهما؛ وجرت مناظرات طويلة.

قال أحمد: لقد احتجوا علي بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يرغون، يقول الخصم كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42](2) أفهذا منكر عندكم؟ فقالوا: شبَّه يا أمير المؤمنين، شبَّه. وطال المجلس، وقام المعتصم ورُدَّ أحمد إلى حبس في البيت، ثم وجه إليه من يبيت معه ويناظره، ثم أُحضِرَ أحمد في اليوم الثاني وناظروه إلى قرب الزوال، ثم قام المعتصم ورد أحمد إلى مكانه، وفي اليوم الثالث جيء به فناظروه، وفي هذه الأيام كلها يعلو صوته صوتهم، وتغلب حجته حجتهم، فغلبهم بالحجة والبرهان (3) حتى قال عنه صاحب شرطة المعتصم (4) ما رأيت أحدًا لم يداخل السلطان، ولا خالط الملوك كان أثبت قلبًا من أحمد يومئذ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذبان (5).

(1) يعني القرآن والسنة!!.

(2)

سورة مريم، الآية 42.

(3)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 244 - 250، والبداية والنهاية 10/ 333.

(4)

صاحب شرطة المعتصم، هو: محمد بن إبراهيم بن مصعب، وهو أخو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، نائب المأمون على بغداد. انظر: البداية والنهاية 10/ 272، 10/ 331، وسير أعلام النبلاء 11/ 240.

(5)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 240.

ص: 292

وطالت المناظرة، فغضب المعتصم وقال لأحمد: لعنك الله طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واسحبوه، خلِّعوه، فأُخِذَ وسُحِبَ وخُلِّع وجُرِّدَ، ووقف به بين الجمهور؛ لجلده وتعذيبه، فقال أحمد:"يا أمير المؤمنين، اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك ".

فلما رأى المعتصم ثباته وتصميمه وصلابته فكأنه أمسك حتى أغراه أحمد بن أبي داؤد، وقال:"يا أمير المؤمنين، إن تركته قيل: قد ترك مذهب المأمون، وسخط قوله "، فهاجه ذلك على ضربه، ثم بدأ الجلادون يضربون، فيتقدم الرجل منهم فيجلده سوطين، والمعتصم يقول: شد قطع الله يدك.

وأُغمِيَ على أحمد، وذهب عقله مرارًا، ويعيدون الضرب ولم يحس بالضرب، وجاء المعتصم إليه ثلاث مرات وهو يُجْلَد يدعوه إلى القول بخلق القران، فيمتنع، ويعيدون الضرب، ثم أمر المعتصم بإطلاقه، بعد أن ضُرِبَ نيفًا وثلاثين سوطًا، وقيل ثمانين سوطًا، ولكنه كان ضربًا مبرحًا، ولم يشعر الإمام أحمد إلا وهو في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجليه، ثم أمر المعتصم بإطلاقه إلى أهله، وكان ذلك في 25 رمضان سنة 221هـ، ووصل إلى بيته (1) وجاء إليه طبيب في بيته فقال: قد رأيت من ضُرِبَ ألف سوط، ما رأيت ضربًا مثل هذا، وجعل يعالجه ويقطع اللحم الميت من جسده، وأحمد صابر، ويجهر بحمد الله، وبقي أثر الضرب في ظهره حتى مات رحمه الله (2) وجعل كل من آذاه في حل بعد أن شفاه الله إلا أهل البدع، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40](3).

(1) انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 250 - 254، والبداية والنهاية 10/ 332 - 335.

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 256، والبداية والنهاية 10/ 335.

(3)

سورة الشورى، الآية 40.

ص: 293

وبعد أن توفي المعتصم، وولي الخلافة الواثق (1) فأظهر ما أظهر والده من القول بخلق القرآن، ثم جاءت رسالة إسحاق بن إبراهيم إلى أحمد، يقول فيها:"إن أمير المؤمنين قد ذكرك فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكنني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله".

فاختفى أحمد رحمه الله بقية حياة الواثق في غير منزله، ثم عاد إلى منزله عندما طفئ خبره، ولم يزل مختفيًا في البيت لا يخرج إلى صلاة ولا إلى غيرها حتى هلك الواثق (2) ثم ولي المتوكل (3) الخلافة فأظهر الله السنة، وفرج عن الناس، وقمع البدع وأهلها، ونصر أهل السنة (4).

وكتب الإمام أحمد رسالة عظيمة إلى المتوكل، وبيَّن فيها الرد على من قال بخَلْق القرآن، واستدل على أن القران كلام الله بالبراهين القطعية من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة، ودعا للمتوكل بالتوفيق وحسن العاقبة (5).

الله أكبر! ما أعظم هذه المواقف الحكيمة نحو كتاب الله -تعالى- فإن الناس كلهم في الظاهر قد وافقوا المأمون على القول بخلق القرآن راغبين

(1) هو الواثق بالله هارون بن المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 196هـ، وبويع بالخلافة بعد المعتصم في ربيع الأول 227هـ، وتوفي في ذي الحجة سنة 232هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 306.

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 264.

(3)

المتوكل على الله، هو جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، ولد سنة 207هـ، وبويع بالخلافة بعد أخيه الواثق في ذي الحجة سنة 232هـ، ونصر الله به الحق وأهل السنة، وقمع به أهل الباطل وبدعهم، ثم قتله ابنه محمد بمعاونة بعض أعداء الإسلام في شوال سنة 247هـ، فرحمه الله وغفر له. انظر: البداية والنهاية 10/ 349.

(4)

انظر: سير أعلام النبلاء 11/ 268 - 280، والبداية والنهاية 10/ 338 - 340.

(5)

انظر: نص الرسالة في سير أعلام النبلاء 11/ 281 - 286، وهي من أعظم الرد على من قال بخلق القرآن، والبداية والنهاية 10/ 340، وانظر: سير أعلام النبلاء 11/ 177 - 358، والبداية والنهاية 10/ 325 - 342.

ص: 294

وراهبين، ولم يبق مُنكِرٌ لذلك إلا أحمد ومحمد بن نوح، ثم مات ابن نوح، وبقي أحمد وحده، فثبت واستعان بالله، فأثبت للناس أن القرآن كلام الله بقوله ومناظرته وفعله، وصبره على العذاب في عهد المأمون، ثم المعتصم (1) ثم الواثق، ولولا الله وحده ثم الإمام أحمد لساد القول بخلق القرآن بين المسلمين، وخاصة عامة الناس، ولكن الناس ينظرون إلى أحمد وثباته وحججه وبراهينه، فثبتوا على القول بأن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وإن لم يظهروا ذلك للدولة، ولكن يعتقدون ذلك بقلوبهم، فحفظ الله كتابه، وأظهر الحق على يد الِإمام أحمد -رحمه الله تعالى- بهذه المواقف الحكيمة.

(1) المعتصم: هو محمد بن هارون الرشيد، ولد سنة 180هـ، وأمه أم ولد، بويع في عهد المأمون في 14/ 7 / 218هـ، وامتحن الناس بخلق القرآن، وشدد على الإمام أحمد وضربه بالسياط، وكتب إلى الأمصار يأمرهم بالقول بخلق القرآن، وبقي القول بخلق القرآن حتى أزاله المتوكل بعد 14 عامًا. مات المعتصم في 11/ 3 / 224هـ، وله 47 سنة وسبعة أشهر. انظر: سير أعلام النبلاء 10/ 306.

ص: 295