الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159](1).
[صورة حسية من حلم النبي صلى الله عليه وسلم]
وقد بلغ صلى الله عليه وسلم في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1 -
وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقسم تلك الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه (3).
2 -
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال «بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة (4) في أديم مقروظ (5) لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن
(1) سورة آل عمران، الآية 159.
(2)
البخاري مع الفتح بلفظه، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس 6/ 251، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه 2/ 739.
(3)
انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري 8/ 49.
(4)
أي: ذهب. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(5)
مدبوغ بالقرظ. انظر: فتح الباري 8/ 68.
بدر (1) وأقرع بن حابس، وزيد الخيل (2) والرابع إما علقمة (3) وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟ " قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتق الله، قال:" ويلك، أو لست أحقُّ أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: " لا، لعله أن يكون يصلي " فقال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ولا أشق بطونهم ". قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍ، فقال: " إنه يخرج من ضئضىء هذا قوم يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» (4).
وهذا من مظاهر حلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخذ بالظاهر ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتله، لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ولا سيما من صلى (5). .
(1) وهو عيينة بن حصن بن حذيفة، نسب لجده الأعلى. الفتح 8/ 68.
(2)
زيد الخيل بن مهلهل الطائي، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير، بالراء بدل اللام. انظر. فتح الباري 8/ 68.
(3)
ابن علاثة العامري، أسلم وحسن إسلامه، واستعمله عمر على حوران، فمات بها في خلافته. انظر: فتح الباري 8/ 68.
(4)
البخاري، مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث علي بن أبي طالب، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما إلى اليمن 8/ 67، ومسلم في كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 741.
(5)
انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 8/ 69.
3 -
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة حتى نظرت صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء» (1). .
وهذا من روائع حلمه صلى الله عليه وسلم وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسى به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخلقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن (2). .
4 -
وفي هذا دلالة واضحة على قوة يقينه، وصبره على الأذى، وحلمه على الجهال، وشدة رغبته في استئلاف الكفار؛ ليدخلوا في الإسلام، ولهذا ذُكِرَ أن هذا الأعرابي رجع إلى قومه وأسلم، واهتدى به خلق كثير (4). .
(1) البخاري مع الفتح، كتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه 6/ 251: ومسلم، كتاب الزكاة: باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة 2/ 730.
(2)
انظر: فتح الباري 10/ 506، وشرح النووي على مسلم 7/ 146، 147.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب الجهاد، باب من علق سيفه بالشجر بالسفر عند القائلة 6/ 96، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة الخوف 1/ 576، 4/ 1786.
(4)
انظر: فتح الباري 7/ 427، 428.
وهذا مما يؤكد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها.
5 -
ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ويدمرهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم، ولهذا «قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًّا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (1). .
ومما يدل على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوتهم إلى الله تعالى.
فهذا إبراهيم أبو الأنبياء، عليه وعليهم الصلاة والسلام، قد بلغ من الحلم مبلغًا عظيمًا حتى وصفه الله بقوله:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114](2). فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليمًا عمن ظلمه، وأناله مكروهًا، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا - قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا - وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 46 - 48](3). .
(1) البخاري مع الفتح، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا أبو اليمان 6/ 514، ومسلم، في كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد 3/ 1417.
(2)
سورة التوبة، 114.
(3)
سورة مريم، 46 - 48.
فحلم عنه مع أذاه له، ودعا له، واستغفر (1). ولهذا قال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114](2). .
وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلمًا مع أقوامهم في دعوتهم إلى الله - تعالى - (3). .
ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى الله والصالحون من أتباعهم، وإذا كان الله عز وجل قد جعل محمدًا صلى الله عليه وسلم مثلاً عاليًا في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء. {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] (4). .
فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيرًا، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا (5). .
فعن النعمان بن مقرن المزني، قال:«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبّ رجل رجلًا عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إن ملكاً بينكما يذب عنك كلما يشتمك هذا، قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قال له: عليك السلام، قال. بل لك، أنت أحق به» (6). .
فهؤلاء الدعاة إلى الله والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صوابًا
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 396، والبغوي 2/ 332، والأخلاق الإسلامية للميداني 2/ 332.
(2)
سورة التوبة، الآية 114.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 114، وموسوعة أخلاق القرآن للشرباصي 1/ 185.
(4)
سورة الفرقان، الآية 63.
(5)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/ 310، والإصابة في تمييز الصحابة 1/ 556، ومجمع الزوائد 8/ 240.
(6)
رواه الإمام أحمد في المسند 5/ 445، وقال ابن كثير في تفسيره: إسناده حسن 3/ 326.
وسدادًا، ويردون المعروف من القول على من جهل عليهم (1)؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم ينفذوه.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37](2) فترتب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير (3) كما قال تعالى:{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34](4).
ومما يبين حلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن ابن حذيفة فنزل على أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولًا كانوا أو شبانا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم به، فقال له الحر. يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199](5) وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزَها عمر حين تلاها عَليه، وكان وقَّافا عند كتاب الله (6).
(1) انظر: تفسير ابن كثير 3/ 326.
(2)
سورة الشورى، الآية 37.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 4/ 118، وتفسير العلامة السعدي 6/ 621.
(4)
سورة فصلت، الآية 34.
(5)
سورة الأعراف، الآية 199.
(6)
البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الأعراف، باب:" خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "، 8/ 304.
وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب.
أول هذه الأمور، قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين.
والثاني: قوله: والله ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير.
والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل.
ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح عندما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية، ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها، رضي الله عنه وأرضاه (1) وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخلقه.
وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«ليس الشديد بالصُّرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (2).
ولا شك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليمًا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن قال أوصني:«لا تغضب» (3).
والداعية إلى الله يستطيع أن يتصف بالحلم، ليكون حكيمًا، وذلك بعلاج الغضب إذا حل به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه الله. وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية وفعلية عملية حتى يكونوا حلماء، حكماء.
(1) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري 13/ 259، 8/ 305، 13/ 250.
(2)
البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 518، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شئ يذهب الغضب 4/ 2014.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب 10/ 518، والحديث فيه: فردد مرارا، قال:" لا تغضب ".