الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملا إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلا إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل (1) والحكيم هو المتيقظ المنتبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها (2).
والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنية على المران والتجارب، ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخًا في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم (3).
وبهذا يعلم أن الداعية إلى الله إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جربهم، فالتجارب تنمي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصرًا، والحليم حلمًا، وتجعل العاقل حكيمًا، وقد تشجع الجبان، وتسخي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمى إلى عماه فهو من الحمقى الذين قد طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون (4).
[الاستفادة من تجارب الأنبياء]
وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله ورباهم، ثم أرسلهم لِإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى
(1) انظر: فتح الباري 10/ 530، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي6/ 182.
(2)
انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير6/ 424.
(3)
انظر: الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية للدكتور /صبحي محمصاني ص140.
(4)
انظر: هكذا علمتني الحياة، القسم الأول، للدكتور مصطفى السباعي ص47.
الغنم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم "، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: "نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» (1) وفي رواية: «قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: "وهل من نبي إلا وقد رعاها؟» (2).
والحكمة من ذلك- والله أعلم- أن الله- عز وجل يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال، صلى الله عليه وسلم:«أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوبًا. الإِيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإِبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم» (3) ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدة تفرقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإِبل والبقر، لإِمكان ضبط الإِبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادًا من غيرها (4).
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الإِجارة، باب رعي الغنم على قراريط 4/ 441.
(2)
البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم 6/ 438، وكتاب الأطعمة، باب الكباث 9/ 575، ومسلم في الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث 3/ 1621، وهو النضيج من ثمر الأراك، انظر. شرح النووي14/ 6.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن 8/ 98، ومسلم في الإِيمان، باب تفاضل أهل الإِيمان1/ 71.
(4)
انظر. فتح الباري4/ 441، وشرح النووي على مسلم14/ 6.