الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطاع الطريق، ونوَّاب إبليس وشرطه (1).
[أقسام العلم الذي تقوم عليه الحكمة]
وقد قسم الإمام ابن تيمية رحمه الله العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه الله: " والعلم الممدوح الذي دل عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورثه الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافِر» (2).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص وآية الكرسي ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة، فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين.
(1) انظر: مدارج السالكين، للإمام ابن القيم 2/ 464.
(2)
سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم 3/ 317، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة 5/ 49، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم 1/ 80، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني 1/ 43.
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُب رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أوتي القرآن ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترُجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» (1).
فقد يكون الرجل حافظا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنًا، بل يكون منافقًا، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمن حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته (2).
والعلم لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه، فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا - هو ما كان مقرونًا بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين
(1) البخاري مع الفتح، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام 9/ 555، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن 1/ 549.
(2)
انظر: فتاوى ابن تيمية 11/ 396، 397 بتصرف، والفتاوى أيضًا 7 - 25، وقال ابن تيمية رحمه الله:" العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو لواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين، وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه ". انظر: فتاوى ابن تيمية 10/ 145.
من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحسانًا، فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3](1).
وحذرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله عز وجل لا يُكلفّ الله نفسا إلا وسعها، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159](2).
وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما أنزل الله من البينات الدالات على الحق، المظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبين به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزوا من جنس عملهم، كما أن معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فَجوزيَ من جنس عمله (3).
(1) سورة الصف، الآيتان 2، 3.
(2)
سورة البقرة، الآية 159.
(3)
انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي 1/ 186، وتفسير البغوي 1/ 134، وابن كثير 1/ 200.
وقد بين صلى الله عليه وسلم أن «من سئِل عن علمٍ يَعْلمُه فَكتَمَهُ أُلجِمَ يوم القيامة بلجام من نار» (1).
فتبين بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به، ولهذا قال سفيان (2) في العمل بالعلم والحرص عليه:" أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله "(3).
وقال رحمه الله: " يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والِإنصات، والنشر "(4).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: تعلموا، تعلموا فإذا علمتم فاعملوا (5).
وقال رضي الله عنه: إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبخ نفسه (6).
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقواماً يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضا، حتى أن الرجل ليغضب
(1) الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم 5/ 29، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم 3/ 321، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه 1/ 98، وأحمد 2/ 263، 305، وانظر. صحيح ابن ماجه 1/ 49، وصحيح الترمذي 2/ 336.
(2)
سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة 107هـ، في النصف من شعبان، وعاش (91) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 454 - 474.
(3)
أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب في فضل العلم والعالم 1/ 81.
(4)
المصدر السابق 1/ 81.
(5)
أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 195.
(6)
المرجع السابق 2/ 6.
على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل " (1).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا تكون تقيا حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا (2).
ولهذا قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً
…
عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
فإن كنت قد أوتيت علمًا فإنما
…
يصدق قولَ المرء ما هو فاعله (3)
وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل، وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مقرونًا بالعمل، ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم، وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسُلِّطَ على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (4).
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالحكمة، والفقه في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم:«اللهم علمه الحكمة» ، وفي لفظ:«اللهم علمه الكتاب» وفي لفظ: «اللهم فقهه في الدين» (5).
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/ 7.
(2)
المرجع السابق 2/ 7.
(3)
المرجع السابق 2/ 7.
(4)
البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة 1/ 165، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها 1/ 558.
(5)
البخاري مع الفتح، في كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما 7، 13/ 245، 1/ 169، 1/ 244، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس رضي الله عنهما 4/ 1927.