الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الخامس
مواقف مصعب بن عمير رضي الله عنه
-
بعد بيعة العقبة الأولى في سنة إحدى عشرة من البعثة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول داعية وأول سفير في يثرب، ليعلم المسلمين فيها شرائع الإِسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإِسلام بين المشركين. واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا العمل العظيم مصعب بن عمير العبدري رضي الله عنه.
وعندما وصل مصعب إلى يثرب نزل على أسعد بن زرارة، ابن خالة سعد بن معاذ، وأخذ مصعب يؤدي مهمته في الدعوة إلى الله تعالى.
ومن أروع ما يُروَى من نجاحه وحكمته في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا إلى دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخل به حائط بني ظفر على بئر يقال لها: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، فسمع بهما أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وهما يومئذ سيدا بني عبد الأشهل، وكانا مشركين، فقال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا، ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته، وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، فقال مصعب: إن يجلس أكلّمه.
وجاء أسيد فوقف عليهما مُتَشَتِّمًا، فقال: ما جاء بكما إلينا، تُسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كُفّ عنك ما تكره؛ فقال: أنصفت، ثم ركز حربته، وجلس إليهما.
فكلمه مصعب بالإِسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في
وجهه الإِسلام قبل أن يتكلّم، في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتُطهّر ثيابك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تُصلي، فقام واغتسل وطهّر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلًا إن يتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، وهو سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلًا قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، واحتال أسيد على سعد من أجل أن يذهب إلى مصعب، لكي يحدث له ما حدث له، فقام سعد بن معاذ مغضبًا وأخذ الحربة، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا لهما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة، والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟ وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب: جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك ما تخلّف عنك منهم اثنان.
قال مصعب لسعد: أو تقعد فتسمع، فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت. ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإِسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإِسلام قبل أن يتكلم؛ لإِشراقه وتَسهله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبيه، وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدًا
إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلًا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيّدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قالوا: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا أو مسلمة.
ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإِسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية، وخطمة، ووائل، وواقف، وهم من الأوس بن حارثة، فإنهم أطاعوا أبا قيس الشاعر، وهو ابن الأسلت، واسمه صيفي، فوقف بهم عن الإِسلام حتى كان بعد الخندق (1).
وهذه الاستجابة العظيمة بفضل الله ثم بفضل مصعب بن عمير رضي الله عنه، فقد ضُرِبَ به المثل في حكمته وحُسن دعوته وصبره وحلمه ورفقه وأناته عند سماع التهديد من قبل أسيد وسعد رضي الله عنهم، فأثر هذا الموقف الحكيم عليهما وأسلما، وأسلم - بفضل الله ثم بإسلامهما - هذا الجمع الغفير في يوم واحد، فرضي الله عن مصعب، ورضي عن صاحبه أسعد، فقد أنقذ الله بهما مدينة كاملة، ولله الحمد والمنة.
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 3/ 152، وسيرة ابن هشام 2/ 43، والرحيق المختوم ص 140، وهذا الحبيب يا محب ص 145، وانظر: الإِصابة في تمييز الصحابة 3/ 421، وسير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 145، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي 1/ 187 - 189.