الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
مواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة
المسلك الأول: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة السرية:
من المعلوم أن مكة كانت مركز دين العرب، وكان بها سدنة الكعبة، والقوَّام على الأوثان والأصنام المقدسة عند سائر العرب، فالوصول إلى المقصود من الإصلاح فيها يزداد عُسرًا وشدة عما لو كان بعيدًا عنها، فالأمر يحتاج إلى عزيمة قوية لا تزلزلها المصائب والكوارث، ويحتاج إلى موقف حكيم يحل الوضع الراهن، وتنجح الدعوة من خلاله، ولا شك أن الفضل والمنة لأحكم الحاكمين الذي {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] (1) فإنه سبحانه قد أعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم الحكمة ووفقه، وسددَّه، وأعانه.
ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة السرية بعد أن أمره ربه- تبارك وتعالى بإنذار قومه عاقبة ما هم فيه من الشرك، وما هم عليه من الكفر والفساد، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7](2).
ومن هنا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلك طريق الحكمة في حل الحالة الراهنة في قريش، فوقف المواقف العظيمة التي يعجز عنها عظماء الرجال بل البشر جميعًا.
بدأ صلى الله عليه وسلم يعرض دعوته على ألصق الناس به، وأهل بيته، وأصدقائه، ومن توسم فيهم خيرَا ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الخير والحق، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح، فأحاول من هؤلاء جمع عُرِفُوا في
(1) سورة البقرة الآية 269.
(2)
سورة المدثر الآيات 1 - 7.
التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، فكان أول من أسلم زوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم مولاه زيد بن حارثه الكلبي رضي الله عنه، ثم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
ونشط أبو بكر في دعوة رجال كان لهم أثر عظيم في الإسلام، أمثال: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فهؤلاء النفر الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالإضافة إلى علي، وزيد، وأبي بكر، يصبحون ثمانية، هم الذين سبقوا الناس، وهم الرعيل الأولى وطليعة الإسلام.
ودخل الناس في دين الله واحدًا بعد واحد، حتى فشا الإسلام في مكة، وتُحُدِّثَ به، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم ويعلمهم ويرشدهم مختفيًا؛ لأن الدعوة لا تزال فردية وسرية، وكان الوحي قد تتابع، وحمي نزوله بعد نزول أوائل المدثر، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يظهر الدعوة في مجامع قريش العامة، ولم يكن المسلمون الأوائل يتمكنون من إظهار دينهم وعبادتهم، حذرًا من تعصب قريش لجاهليتها وأوثانها، وإنما كانوا يخفون ذلك (1).
ولقد بلغ المسلمون عددًا يقرب الأربعين رجلا، وما زالت الدعوة سرًّا لم يجهر بها بين صفوف قريش؛ لأن الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا العدد غير كافٍ في دفع ما يتوقع من أذى يصيب به قريش المسلمين، وكان من الضروري أن يجتمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على شكل جماعات يرشدهم، ويعلمهم؛ ليكوِّن منهم القاعدة الصلبة التي يمكن أن يواجه بها أولئك
(1) انظر: سيرة ابن هشام1/ 264، وتاريخ الإسلام للِإمام الذهبي- قسم السيرة- ص127، والبداية والنهاية لابن كثير3/ 24 - 37، وزاد المعاد 3/ 19، ومختصر سيرته- صلى الله عليه وسلم للِإمام محمد بن عبد الوهاب ص59، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 57، وهذا الحبيب يا محب ص91.
الذين يقفون في وجه دعوة التوحيد، وقد اختيرت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي فكان يلتقي بهم على شكل أُسَر يعلمهم أمور دينهم، وكان إلى جانب دار الأرقم - المركز الرئيسي- دور أخرى تكون مراكز فرعية حيث يذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانًا دون انتظام، أو ينتظم فيها الصحابة الذين يختارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل دار سعيد بن زيد، ولكن الأرقم بن أبي الأرقم قد فاز بمنقبة عظيمة، وهي اتخاذ داره مركزًا رئيسيًا للدعوة أيام ضعفها واستخفائها، وهي أحرج أوقات مرت بها الدعوة (1).
وهكذا مرت ثلاث سنين، والدعوة لم تزل سرية وفردية، وخلال هذه الفترة تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة، والتعاون، وتبليغ الرسالة، وتمكينها من مقامها.
وبعد أن أسلم عم النبي صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب وبعض وجهاء قريش الذين لهم شأن عظيم، وقويت بهم الجماعة الإسلامية كعمر بن الخطاب رضي الله عنه نزل قوله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ - إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ - الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 94 - 96](2).
وهذا يدل دلالة واضحة على أن الله- عز وجل قد أعطى نبيه الكريم الحكمة؛ ولهذا قام بهذه المواقف الحكيمة المشرفة التي تكون نبراسًا للداعية إلى الله يسير على مقتضاها، وخاصة في دعوة المجتمعات الوثنية الكافرة، أما المجتمعات الإسلامية فلا دليل لمن يرى سرية الدعوة في بلاد المسلمين.
(1) انظر: البداية والنهاية3/ 31، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 62، وهذا الحبيب يا محب ص97.
(2)
سورة الحجر الآيات 94 - 96.