الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم، ولهذا قال موسى صلى الله عليه وسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم عندما فرضت عليه الصلاة خمسون صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج:«إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك» . . " فما زال النبي يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمس صلوات كل يوم (1).
فموسى صلى الله عليه وسلم قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أضعف من بني إسرائيل أجسادًا، وأقل منهم قوةً، والعادة أن ما يعجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (2).
[الداعية بكثرة تجاربه يذداد حكمة]
فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى الله، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدعَ مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين» (3) وقال: «كلكم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (4).
وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلا بد له - لِإصلاح المتدينين وتوجيههم- أن يعيش معهم في مساجدهم،
(1) البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج 7/ 202.
(2)
انظر: حاشية السندي على سنن النسائي 1/ 220، وفتح الباري 1/ 463.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين10/ 529، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين4/ 2295.
(4)
الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد4/ 659، وابن ماجه في الزهد باب ذكر التوبة 2/ 1420، والدارمي في الرقاق، باب التوبة، 2/ 213، وانظر: صحيح الترمذي 2/ 305.
ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسياسيين، ويتعرف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى الله، ويحرم الناس من علمه (1) وهذا يؤهله إلى أن يُحَدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدثهم حديثًا لا تبلغه عقولهم، قال علي رضي الله عنه:" حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسوله "(2).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت بِمُحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(3).
وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يمكنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125](4).
(1) انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص41، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن السعدي، ص88.
(2)
البخاري مع الفتح، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن لا يفهموا 1/ 225.
(3)
مسلمْ، في المقدمة، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع 1/ 111.
(4)
سورة النحل، الآية 125.