الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني درجات الحكمة العملية
الحكمة العملية لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: " أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه ".
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعداها، ولها أوقات لا تتقدم عنها ولا تتأخر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره، ولا تتعدى بها حدها فتكون متعديًا مخالفًا للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعًا وقدرًا، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب (1).
الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكوِنية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا جور، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40](2) وكذلك معرفة بره في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الِإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته.
(1) انظر: مدارج السالكين 2/ 479.
(2)
سورة النساء، الآية 40، وانظر: مدارج السالكين 2/ 481.
الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك والفطنة والعلم والخبرة (1).
والبصيرة هي أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعلى درجات العلماء (2) قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108](3) فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين، وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي (4) والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يدعو الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبًا وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرمًا وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.
الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة في حال المدعو، فلا بد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، والاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية حتى يقدم له ما يناسبه.
(1) المعجم الوسيط، مادة: بصر 1/ 59.
(2)
انظر: مدارج السالكين 2/ 482.
(3)
سورة يوسف، الآية 108.
(4)
انظر: تفسير ابن كثير 2/ 496، وتفسير السعدي 4/ 63.
الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة (1) وقد رسم الله عز وجل طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108](2) وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب: وهي الدعوة إلى الله: بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن (3) قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125](4) قلتَ: والباب الرابع: الدعوة إلى الله باستخدام اَلقوة عند الحاجة إليها كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46](5).
ولا شك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم ودعوته، ومجادلتهم (6).
(1) انظر: زاد الداعية إلى الله للشيخ محمد بن صالح العثيمين ص7.
(2)
سورة يوسف، الآية 108.
(3)
هذا التقسيم الجيد للقاعدة والثلاثة الأبواب، للشيخ عبد القادر شيبة الحمد في محاضرة بعنوان: طرق الدعوة إلى الله، ألقيت بجامع الراجحي بالربوة، بالرياض، عام 1408هـ.
(4)
سورة النحل، الآية 125.
(5)
سورة العنكبوت، الآية 46.
(6)
انظر: فتاوى ابن تيمية 19/ 158 - 173.