المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسلك الثالث: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف: - الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى - جـ ١

[سعيد بن وهف القحطاني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌ أهمية الموضوع وأسباب اختياره:

- ‌ الدراسات السابقة:

- ‌ خطة الرسالة:

- ‌ منهجي في الرسالة:

- ‌ الشكر والتقدير:

- ‌الفصل الأولالحكمة مفهومها وضوابطها

- ‌المبحث الأول مفهوم الحكمة

- ‌المطلب الأول تعريف الحكمة

- ‌المطلب الثاني تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي

- ‌المطلب الثالث العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي

- ‌المبحث الثانيأنواع الحكمة ودرجاتها

- ‌المطلب الأول أنواع الحكمة

- ‌المطلب الثاني درجات الحكمة العملية

- ‌المبحث الثالثأركان الحكمة

- ‌المطلب الأول العلم

- ‌[أقسام العلم الذي تقوم عليه الحكمة]

- ‌أسباب وطرق تحصيل العلم:

- ‌المطلب الثاني الحلم

- ‌[الحلم من أعظم أركان الحكمة]

- ‌[الحلم خلق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة]

- ‌[صورة حسية من حلم النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[علاج الغضب بالأسباب المشروعة]

- ‌[الأسباب التي تدعو إلى الحلم]

- ‌[الغضب لإعلاء كلمة الله]

- ‌المطلب الثالث الأناة

- ‌[أهمية الأناة في الدعوة إلى الله بالحكمة]

- ‌[ذم الإسلام للعجلة ومدح الأناة]

- ‌[النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس أناةً وتثبّتًا]

- ‌[أسباب العجلة وعلاجها]

- ‌المبحث الرابعطرق اكتساب الحكمة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول السلوك الحكيم

- ‌المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه

- ‌المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم:

- ‌المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة:

- ‌[الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة]

- ‌المطلب الثانيالعمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص

- ‌المطلب الثالث الاستقامة

- ‌المطلب الرابع الخبرات والتجارب

- ‌[الاستفادة من تجارب الأنبياء]

- ‌[الداعية بكثرة تجاربه يذداد حكمة]

- ‌المطلب الخامس السياسة الحكيمة

- ‌المطلب السادسفقه أركان الدعوة إلى الله تعالى

- ‌المسلك الأول: موضوع الدعوة:

- ‌المسلك الثاني: الداعي:

- ‌المسلك الثالث: المدعو:

- ‌المسلك الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:

- ‌الفصل الثانيمواقف الحكمة

- ‌توطئة

- ‌المبحث الأولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة

- ‌المسلك الأول: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة السرية:

- ‌المسلك الثاني: مواقفه صلى الله عليه وسلم في مرحلة الدعوة الجهرية بمكة:

- ‌المسلك الثالث: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف:

- ‌المطلب الثانيمواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة

- ‌المسلك الأول: مواقف الحكمة في الإصلاح والتأسيس:

- ‌المسلك الثاني: مواقف الحكمة في حسن الإعداد للقتال، والشجاعة والبطولة:

- ‌المسلك الثالث: مواقف الحكمة الفردية:

- ‌المبحث الثانيمواقف الصحابة رضي الله عنهم

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأولمن مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه

- ‌ دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بنصرته:

- ‌ تصديقه للنبي صلى الله عليه وسلم والحرص على حمايته:

- ‌ إنفاقه ماله في سبيل الله تعالى:

- ‌ موقف أبى بكر عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ موقفه رضي الله عنه في إنفاذ جيش أسامة بن زيد

- ‌ موقف أبى بكر رضي الله عنه مع أهل الردة ومانعي الزكاة:

- ‌المطلب الثانيمن مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه

- ‌ موقفه في إظهار إسلامه وهجرته:

- ‌ موقفه الحكيم في تثبيته الناس على بيعة أبى بكر رضي الله عنه:

- ‌ موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس:

- ‌ موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه لله تعالى:

- ‌المطلب الثالثمواقف عثمان بن عفان رضي الله عنه

- ‌ إنفاقه الأموال العظيمة الكثيرة في سبيل الله تعالى

- ‌ موقفه العظيم في جمع الأمة على قراءة واحدة

- ‌المطلب الرابعمواقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌ موقفه رضي الله عنه في تقديم نفسه فداء للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته:

- ‌ موقفه في بدر مع رؤوس الكفر:

- ‌ موقف علي رضي الله عنه في يوم الأحزاب

- ‌ موقف علي رضي الله عنه في غزوة خيبر:

- ‌المطلب الخامسمواقف مصعب بن عمير رضي الله عنه

- ‌المطلب السادسموقف ضمام بن ثعلبة مع قبيلة بني سعد

- ‌المطلب السابعموقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة

- ‌المطلب الثامنموقف الحسن بن علي رضي الله عنهما

- ‌المطلب التاسعمواقف جماعة من الصحابة

- ‌المبحث الثالثمواقف التابعين

- ‌توطئة

- ‌المطلب الأولمن مواقف سعيد بن المسيب رحمه الله

- ‌المطلب الثانيمن مواقف الحسن البصري

- ‌ موقفه مع الحجاج بن يوسف الثقفي:

- ‌ موقف الحسن مع عمر بن هبيرة:

- ‌ موقفه مع القراء:

- ‌المطلب الثالثمن مواقف عمر بن عبد العزيز

- ‌ مواقفه الحكيمة قبل الخلافة:

- ‌ مواقفه بعد أن ولي الخلافة:

- ‌المطلب الرابعمن مواقف أبي حنيفة النعمان بن ثابت

- ‌المبحث الرابعمواقف أتباع التابعين

- ‌المطلب الأولمن مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى

- ‌المطلب الثانيمن مواقف الإمام الشافعي رحمه الله

- ‌المطلب الثالثمن مواقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله

- ‌المبحث الخامسنماذج من مواقف الحكمة عبر العصور

- ‌المطلب الأولمواقف الإمام منذر بن سعيد البلُّوطي

- ‌المطلب الثانيمواقف سلطان العلماء: العز بن عبد السلام

- ‌المطلب الثالثمن مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌ عنايته بالعلم قبل العمل:

- ‌ بث النور ونشر العلم ونفع الأمة:

- ‌ مواقفه الحكيمة مع قازان وقوات التتار:

- ‌ مناظراته الحكيمة:

- ‌ مواقفه في إصلاح أهل السجون:

- ‌المطلب الرابعمواقف الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

- ‌ عنايته بالتوحيد وتطبيقه:

- ‌ بدأ بدعوته في عشيرته:

- ‌ بحثه عن دعم قوة الدعوة بالسلطان:

- ‌ غَرْس التوحيد في قلوب الناس وتصحيح عقيدتهم:

- ‌ خطواته الحكيمة في الرجوع بالناس إلى الكتاب والسنة:

- ‌ كتابته الرسائل بأساليب الحكمة والبيان:

- ‌ آخر مواقف الحكمة:

- ‌الفصل الثالثحكمة القول مع المدعوِّين

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولحكمة القول مع الملحدين

- ‌المطلب الأول الأدلة الفطرية

- ‌المطلب الثاني البراهين والأدلة العقلية

- ‌المسلك الأول: التقسيم العقلي الحكيم

- ‌المسلك الثاني: العدم لا يخلق شيئا:

- ‌المسلك الثالث: الطبيعة الصماء لا تملك قدرة، وفاقد الشيء لا يعطيه:

- ‌المسلك الرابع: الصدفة العمياء لا تملك حياة:

- ‌المسلك الخامس: المناظرات العقلية الحكيمة:

- ‌المسلك السادس: مبدأ السببية:

- ‌المسلك السابع: التفكر في المصنوع يدل على بعض صفات الصانع:

- ‌المطلب الثالث الأدلة الحسية المشاهدة

الفصل: ‌المسلك الثالث: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف:

محمدًا قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا كفرًا إلى كفرهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب بعد عشرة أعوام من البعثة، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل غير ذلك (1) ولما نُقِضَت الصحيفة وافق موت أبي طالب وموت خديجة وبينهما زمن يسير، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه فكاشفوه بالأذى، فازدادوا غمًّا على غم حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه أو ينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصرًا، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه (2).

‌المسلك الثالث: مواقف النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروجه إلى الطائف:

في شوال، من السنة العاشرة من النبوة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف لعله يجد في ثقيف حسن الإِصغاء لدعوته والانتصار لها، وكان معه زيد بن حارثة مولاه، وكان في طريقه كلما مر على قبيلة دعاهم إلى الإِسلام، فلم تُجِبْه واحدة منها.

1 -

موقفه الحكيم في دعوته لأهل الطائف: عندما وصل الطائف عمد إلى رؤسائها فجلس إليهم، ودعاهم إلى الإسلام، فردوا عليه ردًّا قبيحًا، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من

(1) انظر: زاد المعاد3/ 30، وسيرة ابن هشام1/ 371، البداية والنهاية3/ 64، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر2/ 109، 127، 128، وتاريخ الإِسلام للذهبي- قسم السيرة ص126، 137، والرحيق المختوم ص112.

(2)

انظر: زاد المعاد 3/ 31، والرحيق المختوم ص113.

ص: 154

بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما أراد الخروج تبعه هؤلاء السفهاء واجتمعوا عليه صَفَّيْنِ يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى مكة محزونًا، كسير القلب، وفي طريقه إلى مكة أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبَيْن على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان هي بينهما (1).

2 -

حكمته العظيمة في جوابه لملك الجبال: عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: "لقد لقيت من قومك [ما لقيت]، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال (2) فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أسْتَفِق إلا بقرن الثعالب (3) فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني؛ فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت (4)؟ إن شئت أن أُطْبِق عليهم

(1) انظر: زاد المعاد3/ 31، والرحيق المختوم ص122، وهذا الحبيب ص132، والبداية والنهاية 3/ 135.

(2)

ابن عبد يا ليل بن كلال من أكابر أهل الطائف من ثقيف. الفتح 6/ 315.

(3)

وهو ميقات أهل نجد، ويقال له: قرن المنازل، ويعرف الآن بالسيل الكبير. انظر الفتح: 6/ 115.

(4)

استفْهام، أي: فأمرني بما شئت. انظر: فتح الباري6/ 316.

ص: 155

الأخشبَيْن. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا» (1).

وفي هذا الجواب الذي أدلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي أمده الله به.

وفي ذلك بيان شفقته على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهذا موافق لقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159](2) وقوله تعالى؛ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107](3). فصلوات الله وسلامه عليه (4).

وأقام صلى الله عليه وسلم بنخلة أيامًا، وصمم على الرجوع إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة، بنشاط جديد، وجد وحماس، وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؛ فَرُويَ عنه (5) أنه قال: «يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه» .

3 -

حكمته في دخوله إلى مكة في جوار المطعم بن عدي: ثم سار حتى وصل مكة فأرسل رجلًا من خزاعة إلى مطعم بن عدي ليدخل في جواره، فقال مطعم: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، فدخل رسول

(1) البخاري مع الفتح في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه 6/ 312، ومسلم بلفظه في كتاب الجهاد والسير باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين 3/ 1420 وما بين المعكوفين من البخاري دون مسلم. .

(2)

سورة آل عمران الآية 159.

(3)

سورة الأنبياء الآية 107.

(4)

انظر: البخاري مع الفتح6/ 316، والرحيق المختوم ص124.

(5)

انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 3/ 33.

ص: 156

الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المُطْعمُ بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن، فاستلمه وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته (1).

وفي هذه المواقف العظيمة التي وقفها النبي صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى الطائف دليل واضح على تصميمه الجازم في الاستمرار في دعوته وعدم اليأس من استجابة الناس لها، وبَحَثَ عن ميدان جديد للدعوة، بعد أن قامت الحواجز دونها في ميدانها الأول.

وفي ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أستاذًا في الحكمة، وذلك لأنه حينما قدم الطائف اختار الرؤساء وسادة ثقيف في الطائف وقد علم أنهم إذا أجابوه أجابت كل قبائل أهل الطائف وفىِ سيل الدماء من قدمي النبي صلى الله عليه وسلم وهو النبي الكريم- أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد.

وفي عدم دعائه على قومه، وعلى أهل الطائف، وعدم موافقة ملك الجبال في إطباق الَأخْشَبَيْن على أهل مكة أكبر مثل لما يتحمله الداعية في صبره على من رد دعوته، وعدم اليأسِ من هدايتهم، فربما يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا.

ومن حكمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يدخل مكة إلا بعد أن دخل في جوار اْلمُطْعم بن عدي، وهكذا ينبغي للداعية أن يبحث عمن يحميه من كيد أعدائه؛ ليقوم بدعوته على الوجه المطلوب (2).

(1) انظر: زاد المعاد3/ 33، وسيرة ابن هشام 2/ 28، والبداية والنهاية3/ 137، والرحيق المختوم ص 125.

(2)

انظر: السيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص58، وهذا الحبيب يا محب ص134.

ص: 157

4 -

من مواقفه الحكيمة في الأسواق والمواسم: باشر النبي صلى الله عليه وسلم دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز وغيرها، التي تحضرها القبائل العربية للتجارة والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى الله- تعالى-، وجاء موسم الحج لهذه السنة فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة.

ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضًا.

وكان صلى الله عليه وسلم يرغب جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال له: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليًا، قال:«رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا عمه أبو لهب» (1).

وقد كانت الأوس والخزرج يحجون كما كانت تحج العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله صلى الله عليه وسلم ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة، ورجعوا إلى المدينة (2).

(1) أخرجه أحمد4/ 341، 3/ 492، وسنده حسن، وله شاهد عند ابن حبان برقم1683 (موارد) من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، والحاكم في المستدرك بإسنادين، وقال عن الإسناد الأول. صحيح على شرط الشيخين، رواته كلهم ثقات أثبات، 1/ 15.

(2)

انظر: زاد المعاد3/ 43، 44، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 136، والرحيق المختوم ص 129، والبداية والنهاية3/ 149، وابن هشام 2/ 31.

ص: 158

وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل، وبينما الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج سنة 12 من النبوة، وكان بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى، وأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء (2).

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: "تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب منْ ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئَا فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه " فبايعناه على ذلك» (3).

وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء مصعب بن عمير رضي الله عنه ليعلم المسلمين شرائع الإسلام، وليقوم

(1) انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 137، وهذا الحبيب يا محب2/ 145، والرحيق المختوم ص 132، وزاد المعاد 3/ 45، وسيرة ابن هشام 2/ 38، والبداية والنهاية 3/ 149.

(2)

انظر: زاد المعاد3/ 46، والرحيق المختوم ص139، والتاريخ الإسلامي2/ 139، وهذا الحبيب ص 145، وسيرة ابن هشام 2/ 38.

(3)

البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، باب وفود الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة 7/ 219، وكتاب الإيمان، باب حدثنا أبو اليمان1/ 64.

ص: 159

بنشر الإِسلام، وقد قام بذلك- رضي الله عنه أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان، وكلهم قد أسلموا.

فلما قدموا مكة واعدوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا:«يا رسول الله، علام نبايعك؟ فقال: "تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة» (1) فقاموا إليه فبايعوه.

وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر زعيمًا، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع الله بهم في الدعوة إلى الله تعالى (2).

وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي صلى الله عليه وسلم في تأسيس وطن للِإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيرًا، وثبت لقريش أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في يوم 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر عليًّا أن يبيت في فراشه تلك الليلة،

(1) أحمد في المسند3/ 322، والبيهقي9/ 9، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي2/ 624، وحسن إسناده الحافظ في الفتح 7/ 117.

(2)

انظر: سيرة ابن هشام 2/ 49، والبداية والنهاية3/ 158، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 142، والرحيق المختوم ص143.

ص: 160

فبقي المشركون ينظرون إلى عليّ من صِير الباب (1) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومر بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة (2).

وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل واضح على حكمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى صبره، وشجاعته، وأنه صلى الله عليه وسلم حينما علم بأن قريشًا قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين: بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر جبنًا، ولا فرارًا من الموت؛ ولكن يعتبر أخذًا بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم وإمامهم (3)

(1) صير الباب: هو شق الباب. انظر: المعجم الوسيط، مادة. صار1/ 531.

(2)

انظر: سيرة ابن هشام2/ 95، والبداية والنهاية3/ 175، وزاد المعاد3/ 54، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي ص61، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر2/ 148، وهذا الحبيب يا محب ص156.

(3)

انظر: السيرة النبوية دروس وعبر ص68.

ص: 161