الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذم الإسلام للعجلة ومدح الأناة]
والداعية إلى الله - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبر جميع الأمور التي تعرض له، ويواجهها، فإذا كانت رشدًا، وحقًّا، وصوابًا فليمض، وإذا كانت غيًّا، وضلالًا، وظنًّا خاطئًا، فليقف وينته حتى يتضح له الحق.
والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤديان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبرًا، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو محرفًا، أو مزورًا، أو مبالغًا فيه، أو مرادًا به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.
وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتهم هذا، أو يسب ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنى، وتبين، وتثبت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء له، ولا يضيف إلى أعدائه عدوًا جديدًا منهم.
ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف (1) {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11] (2).
(1) انظر: موسوعة أخلاق القرآن الكريم 3/ 26، وفي ظلال القرآن 6/ 3342.
(2)
سورة الإسراء، الآية 11.
ولعظم أمر الأناة والتبين أمر الله بهما حتى في جهاد الكفار في سبيل الله الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فقال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94](1).
ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.
فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين، فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعْرَف دين العبد وعقله ورزانته (2).
ومما يزيد الآية السابقة وضوحًا ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء: 94] قال: كان رجل في غُنَيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله:{عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النساء: 94] تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام (3).
«وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل
(1) سورة النساء، الآية 94.
(2)
انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي 2/ 132.
(3)
البخاري مع الفتح، باب التفسير، سورة النساء، باب: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا 8/ 258.