الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها، فقد قيل: إن سليمان حج فرأى الخلائق بالموقف فقال لعمر: أما ترى هذا الخلق الذي لا يُحصِي عددهم إلا الله؟ قال: هؤلاء اليوم رعيتك، وهم غدًا خصماؤك، فبكى سليمان بكاءً شديدًا (1) فرحم الله عمر، فقد كان حكيمًا في مواعظه وترقيقه للقلوب، وربطها بخالقها، وتخويفها من عقابه، وترغيبها في ثوابه، ويستخدم ذلك في الوقت المناسب، في الحال المناسب.
وله رحمه الله مواقف كثيرة مع الخلفاء، ولولا الإِطالة لذكرتها (2).
(ب)
مواقفه بعد أن ولي الخلافة:
بعد أن مات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سنة ستين للهجرة النبوية، بدأ الظلم، واتسع الخرق والخلاف بين العلماء والخلفاء، فصار بعض الناس في وادٍ، وبعض حكامهم في وادٍ آخرَ، ثم ازدادت الأحوال سوءًا بتسلُّم بعض الولاة الظلمة الحكم أمثال الحجاج، وصاروا يجمعون الأموال وينفقونها في غير حلها بلا حساب ولا نظام، وقد كان الشاعر يدخل على الخليفة أو الوالي فيمدحه، فيكيل له بلا حساب، وقد كان سليمان بن عبد الملك أمثل الخلفاء (3).
وعندما تسلَّم عمر بن عبد العزيز الخلافة قام بالمواقف الحكيمة لإِنقاذ الأمة مما حل بها، فكانت مواقفه الحكيمة لإِصلاح ما فسد من أمور الناس كالتالي:
(1) انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي ص 53، وسير أعلام النبلاء 5/ 121.
(2)
انظر بقية مواقفه مع الولاة في مناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي ص 46 - 53، والبداية والنهاية 9/ 195، وسير أعلام النبلاء 5/ 114 - 147.
(3)
انظر: البداية والنهاية 8/ 146 - 345، 9/ 2 - 177، وسير أعلام النبلاء 5/ 125.
1 -
بدأ بالتغيير مع نفسه، فغير طريق حياته حتى أنكره من عرفه من قبل، فعندما رجع من قبر سليمان أُوتي بمراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مَراكب الخلافة. فقال: ما لي ولها، نَحُّوها عنِّي، قربوا مني بغلتي، فقُرِّبت إليه بغلته، وأمر بمراكب الخلافة أن تُباع ويجعل ثمنها في بيت مال المسلمين، وقال: تكفيني بغلتي هذه الشهباء (1).
وكان دخله قبل الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله إلا أربعمائة دينار في كل سنة، ونظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه، حتى إنه رّد فصّ خاتم في يده إلى بيت المال، وقال: هذا مما أعطانيه الوليد بن عبد الملك من غير حقه (2).
2 -
بعد أن بدأ بنفسه بدأ بأهله، فسأل زوجته فاطمة بنت عبد الملك عن الجوهر الذي عندها، من أين صار إليها؟ فقالت: أعطانيه أمير المؤمنين، فقال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذنيني في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت، قالت: لا، بل أختارك على أضعافه لو كان لي، فوضعته في بيت المال (3).
3 -
بعد أن أصلح عمر نفسه وأهله، بدأ بإصلاح أوضاع بني أمية، فأخذ ما بأيديهم من المظالم وردها إلى أهلها، وإلى بيت المال إن لم يكن لها أهل، وسمى أموالهم مظالم، وأمر مناديه أن يُنادي في الناس: من كانت له
(1) انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز، لابن الجوزي ص 62، 65، وسير أعلام النبلاء 5/ 126، وتاريخ الخلفاء للسيوطي ص 231.
(2)
انظر: طبقات ابن سعد 5/ 341 - 344، ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 132، والبداية والنهاية 9/ 208، وسير أعلام النبلاء 5/ 128.
(3)
انظر: طبقات ابن سعد 5/ 393، وسيرة عمر لابن الجوزي، ص 127، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129، والبداية والنهاية، 9/ 208.
مظلمة فليرفعها، وجاء كل من كانت له مظلمة فجعل يرد المظالم مظلمة مظلمة (1) وأخذ جميع الأموال التي أخذها بنو مروان بغير استحقاق، فوضعها في بيت مال المسلمين (2).
4 -
كتب إلى الولاة على الأمصار الإِسلامية يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، ويخوفهم من عقابه، ويرغبهم في ثوابه، ويزهدهم في الدنيا، ويضرب لهم الأمثال بمن مضى ممن كان قبلهم من الخلفاء والولاة، وأنهم قد ذهبوا إلى ما قدموا من أعمال، فمنهم الرابح، ومنهم الخاسر، وأمرهم بالعدل مع الرعية، ونهاهم عن الظلم، وأمرهم برد جميع المظالم إلى أهلها، وعزل بعضهم عن الولاية وَوَلَّى من هو أصلح منه، واستدعى بعضهم إلى الحضور لديه ليحاسبه على جوره وظلمه، وحذر الولاة من أخذ الرشوة والهدية من الرعية (3) وأمر الولاة بوضع الجزية عمن أسلم من اليهود والنصارى، حيث كان بنو أمية لا يضعون الجزية عمن أسلم، فأسلم بذلك خلق كثير، ومن هؤلاء أهل خراسان، فقد أسلم منهم أربعة آلاف في وقت قصير بسبب هذه الحكمة العظيمة (4).
5 -
من أعظم مواقفه الحكيمة في إصلاح الأوضاع في الدولة الأموية ما أحياه في النفوس من خوف الله ومراقبته، وغرس ذلك في نفوس الناس، ومن ذلك أنه في يوم الجمعة يخطب الناس، فبكى يومًا، وبكى الناس معه
(1) انظر: طبقات ابن سعد 5/ 341 - 344، ومناقب عمر لابن الجوزي، ص 125 - 127، والبداية والنهاية، 9/ 200 - 213.
(2)
انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، ص 133 - 141، وطبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، والبداية والنهاية، 9/ 213، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129.
(3)
انظر: مناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي، 133 - 141، وطبقات ابن سعد، 5/ 341 - 344، والبداية والنهاية، 9/ 213، وسير أعلام النبلاء، 5/ 129.
(4)
انظر: طبقات ابن سعد 5/ 341 - 344، وسيرة عمر لابن الجوزي ص 100 - 124، 206، 222، وسير أعلام النبلاء، 5/ 126 - 137، 5/ 147، والبداية والنهاية، 9/ 188.
حتى ارتج المسجد بالبكاء، وصار لحيطانه صوت بالبكاء (1).
6 -
فقَّه الناس في دين الله، وغرس في قلوبهم حب الكتاب والسنة، وكان يرسل المرشدين إلى البادية؛ ليُفقِّهوا الناس في الدين (2).
7 -
لم يكتف عمر بن عبد العزيز بالخطوات الحكيمة السابقة في إصلاح أوضاع المسلمين في الدولة الأموية، بل اهتم بأمور غير المسلمين، فأرسل الدعاة إلى الله عز وجل؛ ليبلغوا الناس دعوة الإِسلام، ومن ذلك أنه أرسل إلى أفريقيا مجموعة من الدعاة، فأسلم على أيديهم أمم هائلة من البربر وغيرهم.
وبتوفيق الله ثم بهذه الخطوات الحكيمة السبع، ظهرت مواقف عمر الحكيمة في إصلاح الأمة وتجديد الدين، ونفع الله به البلاد والعباد، وأنقذ الله به من الظلم (3).
(1) انظر: سيرة عمر لابن الجوزي ص 218، 222، 225، وسير أعلام النبلاء 5/ 137، 138، والبداية والنهاية 9/ 204.
(2)
انظر: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ص 92.
(3)
انظر: تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 238، والتاريخ الإسلامي، لمحمود شاكر 4/ 246.