الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع
موقف سعد بن معاذ في حكمه في بني قريظة
كانت بنو قريظة أشدّ اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقضوا العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وتحزّبوا مع الأحزاب، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبّ ونقض العهد.
وبعد أن هُزِمَ الأحزاب رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار - فقال: قد وضعت السلاح؛ والله ما وضعته، اخرج إليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«فأين؟» فأشار إلى بني قريظة (1).
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسًا وعشرين ليلة، وهم في حصونهم، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه الأوس، فقالوا: يا رسول الله! قد فعلت في بني قينقاع ما قد علمت، وهم حلفاء إخواننا الخزرج، وهؤلاء موالينا فأحسن فيهم، فقال:«ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال: «فذلك إلى سعد بن معاذ» . قالوا: قد رضينا. فأرسل إلى سعد بن معاذ (2) وكان في المدينة لم يخرج معهم لجرح كان قد أُصيب به يوم الخندق، رماه رجل من قريش في الأكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم له خيمة في المسجد ليعوده من قريب " (3).
وقد قال سعد عندما أصيب بالجرح: " اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها؛ فإنه لا قوم أحبّ إلي من أن أجاهدهم فيك، آذوا
(1) البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 411.
(2)
انظر: زاد المعاد 3/ 134.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 411، وانظر ترجمة سعد بن معاذ في سير أعلام النبلاء 1/ 279.
نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها في شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة " (1).
ووصل من أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد، فأُركِبَ على حمار، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل بعض الأوس يقول لسعد وهو في طريقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولّاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى سيدكم» فلما أنزلوه، قالوا: يا سعد، إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه إن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم. قال: وعلى من هاهنا؟ في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجْلالًا له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» . قال سعد: فإني أحكم فيهم: أن تُقْتَل الرجال، وتُقسم الأموال، وتسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» (2).
فلما حكم فيهم بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من جرت عليه الموسى منهم، ومن لم ينبت ألحق بالذرية (3) فحفر لهم خنادق في سوق
(1) سيرة ابن هشام عن ابن إسحاق، ورجاله ثقات 3/ 244، وأحمد 6/ 141، وانظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 1/ 282.
(2)
سيرة ابن هشام 3/ 259، وفي البخاري مع الفتح في كتاب المغازي - باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 411، قال:" قضيت فيهم بحكم الله. . . " ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهله للحكم، 3/ 1389.
(3)
أبو داود، كتاب الحدود، باب الغلام يصيب الحد، 4/ 141، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في النزول على الحكم، 4/ 145، والنسائي، كتاب الطلاق، باب متى يقع طلاق الصبي، 6/ 155، وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من لا يجب عليه الحد، 2/ 849، وسنده حسن.
المدينة، وضربت أعناقهم، وكانوا ما بين الستمائة إلى السبعمائة (1).
وقد سأل الله سعد الشهادة إن كان الله قد وضع الحرب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وانفجر جرحه رضي الله عنه ومات شهيدًا (2).
الله أكبر! ما أعظم هذا الرجل وما أحكمه! فقد رَغِبَ في الشهادة، ولكنه سأل الله أن يبقيه إن كان الله لم يضع الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وكذلك سأل الله عز وجل أن لا يميته حتى يقرّ عينه من بني قريظة، فاستجاب الله له، وجعله الذي يحكم فيهم بحكمه، وعندما قال له بعض الأوس: أحسن في مواليك يا أبا عمرو، قال كلمته الحكيمة: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
وصدق رضي الله عنه، فقد حكم فيهم بحكم الله - تعالى - فقُتِلُوا، وأمكن الله المسلمين من أموالهم ونسائهم وذراريهم، فكان ذلك فتحًا ونصرًا للمسلمين على أعداء الله ورسوله، فرضي الله عنه وأرضاه.
ومن فضل الله عليه أن منّ عليه بالشهادة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم موته:«اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» (3).
وقد ظهرت حكمته رضي الله عنه في هذا الموقف الحكيم في النقاط التالية:
1 -
رغبته في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهاد أعداء الله تعالى.
2 -
ردّه الحكيم المسدّد على قومه عندما راجعوه في بني قريظة.
(1) زاد المعاد 3/ 135، وانظر: سيرة ابن هشام 3/ 259، والبداية والنهاية 4/ 122، وفتح الباري 7/ 414، وانظر: صحيح الترمذي، 2/ 114.
(2)
انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب 7/ 412.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب مناقب الأنصار، مناقب سعد بن معاذ رضي الله عنه 7/ 123، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل سعد بن معاذ رضي الله عنه 4/ 1915.
3 -
أخذه عهد الله وميثاقه على قومه أن يقبلوا حكمه، وهذا مما يضبطهم، ويحل الأزمة.
4 -
إعراضه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أخذ العهد إجلالًا له وإكرامًا.
5 -
حكمه بحكم الله من فوق سبع سماوات، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذه، - فرضي الله عنه وأرضاه -، فقد أعز الله بحكمته المسلمين وأذل الكافرين.