الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
من مواقف الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى
للإِمام مالك (1) رحمه الله مواقف حكيمة مشرفة، منها على سبيل المثال ما يلي:
1 -
من أعظم مواقف الحكمة التي وقفها: موقفه مع من سأله عن الاستواء. فقد جاء إليه رجل وقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5](2) كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض، وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء (3) ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال:" الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة " وأمر به فأُخْرِجَ (4).
وهذا موقف حكيم مُسدّد؛ لأنه أجاب بالإِجابة الصحيحة بعد التأمل والتفكر، فكانت هذه الإِجابة قاعدة ثابتة لأهل السنة والجماعة، تُجْرَى عليها صفات الله - تعالى - كلها، فالكيف للصفة مجهول لنا لا نعرف كيفيتها؛ لأن الله لم يخبرنا بالكيفية، والصفة معلومة بدليلها من الكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما، والإِيمان بالصفة - التي تثبت بالدليل - واجب، والسؤال عن كيفية الصفة بدعة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات، بل كل صفة من صفات الله - تعالى -
(1) الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو، إمام دار الهجرة، ولد سنة 93 هـ عام موت أنس بن مالك بن النضر، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب العلم بصدق وإخلاص، فكان أًحد الأئمة الأربعة، فنفع الله به المسلمين، وتوفي عام 179 هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 49 - 135، والبداية والنهاية 10/ 174، وتهذيب التهذيب 10/ 5.
(2)
سورة طه، الآية 5.
(3)
العرق إثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثرة. انظر: المعجم الوسيط، مادة (رحض) 1/ 334.
(4)
أبو نعيم في الحلية 6/ 325، وانظر: سير أعلام النبلاء 8/ 100، 101، 106، ومجموع فتاوى ابن تيمية 5/ 26، 5/ 144.
تدل على معنى حقيقي نؤمن به ونثبته لله كما يليق بجلاله (1).
2 -
من مواقفه الحكيمة ما ردّ به على بعض العُبَّاد حينما كتب إليه يعظه ويحضه على الانفراد والعزلة عن الناس، ويحضه على العمل، فكتب إليه مالك:" إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فربّ رجل فُتحَ له في الصلاة ولم يُفتَحْ له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتحَ لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر "(2).
وهذا الرد الحكيم المسدد مما يدل على فقه الإِمام مالك وحكمته، فإن نشر العلم خير أعمال البر، وأفضل من نوافل الصلاة والصوم والصدقة وغير ذلك من نوافل العبادات، لقوله صلى الله عليه وسلم:«من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله» (3).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» (4).
فرحم الله مالكًا فقد نطق بالحكمة، وطبق ما كان يقوله ويُرغِّبُ فيه الناس، فكان هو أولى به حيث قال:" بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى إلا نطق بالحكمة "(5).
(1) انظر: فتاوى ابن تيمية 5/ 5 - 121.
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 114.
(3)
مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله 3/ 1506.
(4)
البخاري مع الفتح 7/ 476، ومسلم 4/ 1871، وتقدم تخريجه.
(5)
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 109.
ولهذا قال الإِمام الذهبي (1)" إلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسددة "(2).
ولكن الإِمام مالكًا قد أنصف حينما رسم للناس قاعدة يسيرون عليها، حيث قال:" كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم "(3).
وهذا كلام حكيم وعظيم يدل على أن جميع الناس ليسوا معصومين من الخطأ، إنما الذي قد عُصِمَ في تبليغ الشريعة هو محمد صلى الله عليه وسلم.
3 -
والإِمام مالك كان يصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم، ومن ذلك قول الإِمام الشافعي:" كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء، قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه "(4).
وهذا الكلام من الدعوة إلى الله بالحكمة؛ لأن من الناس من يحتاجون إلى الغلظة أحيانًا، ولا يخرج ذلك عن الحكمة؛ لأن الله - تعالى - وهو أحكم الحاكمين - قال لأحكم الناس أجمعين:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم: 9](5) وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46](6).
(1) هو الإِمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ولد رحمه الله في شهر ربيع الآخر سنة 673 هـ، بدأ بطلب العلم مبكرًا، ورحل في طلبه، وبرع فيه، ثم عمي قبل موته بأربع سنين أو أكثر بماء نزل في عينيه، وتوفي رحمه الله ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة قبل نصف الليل سنة 748 هـ، وله آثار علمية بلغت نحوًا من 215 مؤلفًا رحمه الله. انظر: البداية والنهاية 14/ 225، ومقدمة سير أعلام النبلاء 1/ 12 - 140.
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء 8/ 92.
(3)
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي 8/ 93.
(4)
انظر: حلية الأولياء 6/ 324، وسير أعلام النبلاء 8/ 99.
(5)
سورة التحريم، الآية 9.
(6)
سورة العنكبوت، الآية 46.
وللإمام مالك مواقف حكيمة كثيرة لا يتسع المقام لذكرها (1).
(1) انظر: مواقف له حكيمة في: حلية الأولياء 6/ 325، وسير أعلام النبلاء، 8/ 94، 98، 99، وانظر: مواقفه مع بني أمية وحكمه في طلاق المكره وعدم وقوعه في سير أعلام النبلاء 8/ 80، 95، 96.