الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكان عمر رضي الله عنه يذود ويقوي، ويشجع الناس على بيعة أبي بكر حتى جمعهم الله عليه، وأنقذهم الله من الاختلاف والفرقة والفتنة.
فهذا الموقف الذي وقفه عمر مع الناس من أجل جمعهم على إمامة أبي بكر، موقف عظيم من أعظم مواقف الحكمة التي ينبغي أن تسجل بماء الذهب من مواقف عمر الحكيمة.
3 -
موقفه الحكيم في إصلاح الأهل قبل الناس:
كان عمر رضي الله عنه مع أهله قويًّا، فكان إذا أراد أن يأمر المسلمين بشيء أو ينهاهم عن شيء مما فيه صلاحهم ونجاحهم وفلاحهم، بدأ بأهله، وتقدم إليهم بالوعظ لهم، والوعيد على خلافهم أمره، فعن سالم بن عبد الله بن عمر، قال:" كان عمر إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء جمع أهله، فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة "(1).
وهذا من أعظم مواقف الحكمة؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية ومدى تطبيقه العملي والقولي لما يدعو إليه، كما ينظرون إلى تطبيقه ذلك على أهله ومن تحت يده.
4 -
موقفه الحكيم في دعوته بتواضعه لله تعالى:
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه - مع قوته في دين الله، وشجاعته، وشدته، على أعداء الله، وهيبة الناس له، وفرار الشياطين منه، كان مع
(1) انظر: تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري 2/ 68، والكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 31، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 404، وأعلام المسلمين للبيطار 2/ 54.
ذلك كلّه متواضعًا، وقَّافًا عند حدود الله، وقد كان يقول: أحبّ الناس إلَي من أهدى إلي عيوبي (1) ومن ذلك ما يلي:
(أ) عندما مرَّ بالجابية على طريق إيلياء وجلس عندهم، قيل له: أنت ملك العرب، وهذه بلاد لا تصلح بها الإِبل، فلو لبست شيئًا غير هذا - يعنون قميصه المرقع - وركبت برذونًا (2) لكان ذلك أعظم في أعين الروم، فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإِسلام، فلا نطلب بغير الله بديلًا.
ثم سار عمر من الجابية إلى بيت المقدس، وقد تعبت دابته، فأتوه ببرذون فجعل يهملج به، فقال لمن معه: احبسوا، احبسوا، فنزل عنه، وضرب وجهه، وقال: لا علّم الله من علّمَك، هذا من الخيلاء، ما كنت أظن الناس يركبون الشياطين، هاتوا جملي، ثم نزل وركب الجمل، ثم لم يركب برذونًا قبله ولا بعده (3).
(ب) ولما قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام عرضت له مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خُفَّيه، وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعًا عظيمًا عند أهل الأرض، صنعت كذا وكذا، فصك عمر في صدره، وقال: أَؤَّه، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس، وأحقر الناس، وأقل الناس، فأعزكم الله بالإِسلام، فمهما تَطلُبوا العزة بغيره يُذلّكم الله (4).
(1) انظر: مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 154، وأعلام المسلمين لخالد البيطار ص 59.
(2)
البرذون: الدابة، ويطلق على غير العرب من الخيل والبغال. انظر: القاموس المحيط، باب النون، فصل الباء ص 1522، والمعجم الوسيط، مادة: برذن 1/ 48، ومختار الصحاح، مادة (برذن) ص 18.
(3)
انظر: البداية والنهاية 7/ 57، 7/ 60، 7/ 135، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 150، 151.
(4)
انظر: البداية والنهاية لابن كثير 7/ 60، وأعلام المسلمين لخالد البيطار ص 59، ومناقب أمير المؤمنين عمر بن الحطاب لابن الجوزي ص 150.
وله مواقف حكيمة في دعوته إلى الله - تعالى -، لا يتسع المقام لذكرها (1).
وهذه المواقف العظيمة يبين فيها للناس بقوله وفعله أن العزة والرفعة والتمكين لا تأتي عن طريق الكبر، والغطرسة، والإِعجاب بالنفس أو الجاه أو السلطان، وإنما يأتي ذلك كله لمن تمسك بالإِسلام، ولهذا قال لأبي عبيدة في الخبر السابق:" إنكم كنتم أذلّ الناس، وأحقرَ الناس، وأقلّ الناس، فأعزّكم الله بالإِسلام، فمهما تطلبوا العزة من غيره يذلّكم الله ".
رضي الله عن الفاروق وأرضاه، وجزاه عن أمة محمد خيرَ الجزاء، فقد قام بالأعمال العظيمة، وسلك مسلك الحكمة التي من أُوتيها فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ونفّذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين، من: يهود، ونصَارى، ومجوس، وغيرهم من المشركين، حيث قال صلى الله عليه وسلم قُبيَل موته:«أخرجوا المشركين من جزيرة العرب» (2).
فطهَّر رضي الله عنه جزيرة العرب من المشركين، ولم يترك أحدًا منهم فيها، طبقًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) ومن حرصه على التواضع أنه كان يدرب نفسه عليه، ولذلك إذا أنكر نفسه أدبها وجازاها وخاطبها يخوفها بالله، فعن أنس رضي الله عنه قال كنت مع عمر، فدخل حائطًا لحاجته فسمعته يقول: - وبيني وبينه جدار الحائط -: " عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك ".
وقيل: إنه حمل قربة على عاتقه فقيل له في ذلك، فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها وكان يسمع الآية من القرآن فيغشى عليه فيحمل صريعًا إلى منزله، فيعاد أياما ليس به مرض إلا الخوف من الله عز وجل. انظر: البداية والنهابة 7/ 135. وانظر مواقف له أخرى في: تاريخ الطبري 2/ 567، 568، والكامل في التاريخ لابن الأثير 3/ 30، ومناقب عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 69، والبداية والنهاية 3/ 135، وحياة الصحابة للعلامة الكاندهلوي 2/ 97.
(2)
البخاري مع الفتح، كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 6/ 271.