الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي اليوم الثاني - يوم الثلاثاء - خطب أبو بكر الناس، وبين، عليهم، وما لهم، فقام رضي الله عنه وأرضاه - فحمد الله وأثنى بالذي هو أهله، ثم قال: أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم وليست بخيركم، فإن أحسنت فأعينُوني، وإن أسأت فَقَوِّمُوني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه (1) حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قطّ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (2).
وقوله رضي الله عنه: ولِّيتُ عليكم ولست بخيركم: من باب التّواضع، وإلا فإن الصحابة كلهم مُجمِعُون على أنه أفضلهم وخيرهم، رضي الله عنهم أجمعين (3).
5 -
موقفه رضي الله عنه في إنفاذ جيش أسامة بن زيد
رضي الله عنهما:
ظهرت حكمة الصديق رضي الله عنه أثناء تنفيذ جيش أسامة زيد رضي الله عنهما من عدة وجوه:
(أ) تنفيذه بعث أسامة رضي الله عنه على الرغم من شدة الأحوال ومعارضة بعض الصحابة، وذلك امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) والمعنى: حتى أرُدَّ عليه حقه. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، باب الراء مع الواو، 2/ 273.
وانظر: التاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 57، وفي البداية والنهاية قال: حتى أزيح علته إن شاء الله، 5/ 248.
(2)
انظر: سيرة ابن هشام 4/ 340، وابن كثير في البداية والنهاية 5/ 248، قال: وهذا إسناد صحيح.
(3)
انظر: البداية والنهاية 5/ 248.
بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما في مرضه الذي توفي فيه (1) وندب الناس إلى غزو الروم، وكان تجهيز جيش أسامة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بيومين، وكان ذلك يوم السبت، وقد كان ابتداء ذلك قبل مرض النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اشتد به مرضه، فأمر بإنفاذ جيش أسامة، وتوفي صلى الله عليه وسلم فَعَظُم الخطب، واشتد الحال، وظهر النفاق بالمدينة، وارتدت أحياء من العرب حول المدينة، وامتنع آخرون من دفع الزكاة، ولم يبق للجمعة مقام في بلد سوى مكة والمدينة، وكانت جواثا من البحرين أول قرية أقامت الجمعة بعد رجوع الناس إلى الحق؛ وثبتت ثقيف بالطائف على الإِسلام لم يرتدوا.
وعندما وقعت هذه الأمور أشار كثير من الناس على أبي بكر الصديق ألَّا ينفذ جيش أسامة لاحتياجه إليه فيما هو أهم؛ لأن ما جُهِّز بسببه في حال السلامة.
وكان من جملة من أشار بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فامتنع الصديق من ذلك، وأَبى أشد الإِباء إلا أن ينفذ جيش أسامة، وقال كلمته العظيمة الحكيمة: والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا والسّباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين، لأُجَهِّزَنّ جيش أسامة، وأمر الحرس أن يكونوا حول المدينة.
(ب) ثم إن بعض الناس أشار على أبي بكر أن يولي أمر الجيش رجلًا أقدم سنًّا من أسامة؛ فغضب رضي الله عنه لذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هوَ الذي أَمَّرَ أسامة على هذا الجيش، فلا يريد رضي الله عنه أن يغير شيئًا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر: البخاري مع الفتح، كتاب المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنهما -8/ 151 - 152.
(جـ) وخرج أبو بكر رضي الله عنه يشيع الجيش ويودع أسامة وجيشه، وأبو بكر يسير على قدميه، وأسامة راكبًا، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله، إما أن تركب، وإما أن أنزل، فقال أبو بكر: والله لست براكب ولست بنازل، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله.
(د) واستأذن أبو بكر رضي الله عنه من أسامة لعمر بن الخطاب وقد كان عمر من ضمن الجنود في جيش أسامة، فَأَذِنَ أسامة لعمر بن الخطاب - رضي الله عن الجميع - وأرضاهم.
فكان خروج أسامة إلى الروم بأرض الشام في ذلك الوقت من أكبر المصالح، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب إلا أُرعبوا منهم وأخذهم الخوف والفزع، وقالوا: ما خرج هؤلاء القوم إلا وبهم شديدة، وسنتركهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم وبقوا أربعين يومًا - وقيل سبعين يومًا - ثم أتوا سالمين غانمين، وعندما رجعوا جهزهم أبو بكر مع الجيش لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة (1).
الله أكبر ما أعظم هذا الموقف، وما أحكمه! فقد ظهرت حكمته وشجاعته وطاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سبب النصر والفلاح، وبتنفيذ هذا الجيش أدخل الله الرُّعب في قلوب المرتدين، واليهود، والنصارى وهذا كله بفضل الله، ثم بامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنفاذ جيش أسامة زيد {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] (2).
(1) انظر: تاريخ الإِمام الطبري 2/ 246، والكامل في التاريخ لابن الأثير 2/ 226، وتاريخ الإسلام للإِمام الذهبي - عهد الخلفاء الراشدين ص 19، والبداية والنهاية 6/ 304، 305، وفتح الباري 8/ 152، وتاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي ص 74، وحياة الصحابة للعلامة محمد يوسف الكاندهلوي 1/ 423، 425، 427، والتاريخ الإِسلامي لمحمود شاكر 3/ 64.
(2)
سورة النور، الآية 63.