الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول الأدلة الفطرية
الفطر: الشق، والجمع منه فطور (1) قال تعالى:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3](2) وفطر الله العالم. أوجده ابتداءً (3) وفطر الخلق: خلقهم وبدأهم (4){إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79](5) والفطرة: الخلقة التي خلق عليها كل موجود أول خلقه (6) والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه، والدين (7) والطبيعة السليمة التي لم تُشَبْ بِعَيْب (8) قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (9) هل تحسون فيها من جدعاء؟» (10) ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه:. . {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30](11).
(1) انظر: المعجم الوسيط، مادة: فطر 2/ 694، ومختار الصحاح مادة: فطر ص212.
(2)
سورة الملك، الآية 3.
(3)
انظر: المعجم الوسيط، مادة فطر 2/ 694.
(4)
انظر: القاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء ص587.
(5)
سورة الأنعام، الآية 79.
(6)
انظر: المعجم الوسيط، مادة فطر 2/ 694.
(7)
القاموس المحيط، فصل الفاء، باب الراء ص587.
(8)
انظر: المعجم الوسيط، مادة فطر 2/ 694.
(9)
يعني أن البهيمة تلد الولد كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل وهو تشبيه واقع ووجه واضح. انظر: فتح الباري 3/ 249.
(10)
البخاري مع الفتح، كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلى عليه وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ 3/ 219، وأخرجه في عدة مواضع انظرها: 3/ 219، 249، 8/ 512، 11/ 493، وأخرجه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين 4/ 2047.
(11)
سورة الروم، الآية 30.
فمن حكمة القول مع الملحدين أن يستخدم الداعية إلى الله -تعالى- في دعوته لهم الأدلة الفطرية، فيوضح ويبين لهم أن المولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل؛ لآفة من آفات الشر والتقليد. . وكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقر بأن له صانعًا وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره (1).
والمقصود بفطرة الله التي فطر الناس عليها: فطرة الإسلام (2) والسلامة من الاعتقادات الباطلة، والقبول للعقائد الصحيحة؛ فإن حقيقة الإسلام هو الاستسلام لله وحده.
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: «كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟» .
فأوضح أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حادث طارئ (3). قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى:«إني خلقت عبادي حُنَفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجْتَالَتْهُم عن دينهم، وحرَّمَت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا» . . . " (4).
وقد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية الفطرة مع الحق بمثل يوضح ذلك، فقال: "ومثل الفطرة مع الحق مثل ضوء العين مع الشمس، وكل ذي عين لو ترك بغير حجاب لرأى الشمس، والاعتقادات الباطلة العارضة من
(1) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/ 457، وفتح الباري 3/ 248 - 250.
(2)
وقد جزم بذلك البخاري فقال: والفطرة الإسلام. انظر: البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب لا تبديل لخلق الله 8/ 512.
(3)
انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 245، وفتح الباري 4/ 245.
(4)
مسلم، كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار 4/ 2197.
تَهَوُّدٍ وتنصّر وتمجّس مثل حجاب يحول بين البصر ورؤية الشمس، وكذلك كل ذي حس سليم يحب الحلو، إلا أن يعرض في طبيعته فساد يحرفه حتى يجعل الحلو في فمه مُرًّا" (1).
وليس المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «يولد على الفطرة» أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين ويعتقد الإسلام بالفعل؟ لأن الله يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78](2).
ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإسلام ومحبته، وقبوله وإرادته للحق، وإقراره بالربوبية، فلو خلّي من غير معارض ومن غير مغيِّر لما كان إلا مسلمًا ولم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه صارف، ومن ثم شُبِّهت الفطرة باللبن، فهي تستلزم معرفة الله ومحبته وتوحيده (3).
ويدل على ذلك رواية مسلم: «ما من مولود يولد إلا وهو على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه» (4).
وقد أخبر الله عز وجل أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف: 172] الآية (5).
(1) درء تعارض العقل والنقل 9/ 375، والفتاوى لابن تيمية 4/ 247.
(2)
سورة النحل، الآية 78.
(3)
انظر: شرح النووي على مسلم 16/ 208، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/ 247، 16/ 344، 4/ 249، وفتح الباري 3/ 248 - 250.
(4)
مسلم، كتاب القدر، باب معنى: كل مولود يولد على الفطرة 4/ 2048.
(5)
سورة الأعراف، الآية 172.
وهذا يدل دلالة قاطعة على أن كل إنسان قد فطر على الإيمان بخالقه من غير سبق تفكير أو تعليم (1).
ومما يبين ذلك ويوضحه أن العاقل إذا رجع إلى نفسه وعقله أدنى رجوع عرف افتقاره إلى الخالق-تعالى- في تكوينه وبقائه وتقلبه في أحواله (2) وإذا نظر إلى الخلائق علم فقرهم كلهم إلى الخالق في كل شيء؛ فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفي البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع ودفع المضار.
فانظر إلى حالة الناس إذا كربتهم الشدائد، ووقعوا في المهالك، وأشرفوا على الأخطار، كيف تجد قلوبهم معلقة بالله، وأصواتهم مرتفعة بسؤاله، وأفئدتهم تنظر إلى إغاثته، لا تلتفت يمنةً ولا يسرةً إلا إليه (3).
ومما يزيد ذلك وضوحًا أن الخلق متى شاهدوا شيئًا من الحوادث المتجددة كالرعد والصواعق، والبرق والزلازل، والبراكين المتفجرة الثائرة، والريح الشديدة، وانهمار الأمطار الغزيرة، وفيضانات الأنهار، واضطراب الأمواج في البحار والمحيطات، متى شاهدوا ذلك دعوا الله وسألوه، وافتقروا إليه، لأنهم يعلمون أن هذه الحوادث المتجددة لم تتجدّد بنفسها، بل لها محدث أحدثها، وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات؛ لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفًا لهم، بخلاف المتجدّد، ولو لم يكن إلا خلق الإنسان، فإنه من أعظم الآيات، فكل يعلم أنه لم يحدث نفسه، ولا أبواه أحدثاه، ولا أحد من البشر أحدثه، ويعلم أنه لا بد له من خالق خلقه،
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 262، 3/ 433، ودرء تعارض العقل والنقل 8/ 487، وجامع الرسائل لابن تيمية 1/ 11، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي 2/ 337.
(2)
انظر. كتاب الداعي إلى الإسلام لعبد الرحمن الأنباري ص211، ودرء تعارض العقل والنقل 3/ 113.
(3)
انظر: الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة ص251، 252.
وأن هذا الخالق موجود، حي، عليم، قدير، سميع، بصير، حكيم، حفيظ (1) {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] (2) وقال -سبحانه- تذكيرًا لهذا الإنسان الجاحد: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67](3){وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53](4).
فبين هذا أن الناس إذا غفلوا عن هذه الفطرة في حال السراء فلا شك أنهم يلوذون إليها في حال الضراء، لعلمهم الفطري أن الله الذي يكشف الشدائد، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيسألونه بلسان المقال ولسان الحال، فهل هذه الأمور تحصل إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بربوبية الله ووحدانيته، وأنه النافع الضار وملكوت كل شيء بيده، إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة (5).
(1) انظر: درء تعارض العقل والنقل 3/ 122، 129، 131، 137.
(2)
سورة الذاريات، الآية 21.
(3)
سورة الإسراء، الآية 67.
(4)
سورة النحل، الآية 53.
(5)
انظر: الرياض الناضرة ص252، وعقيدة المسلمين للبليهي 1/ 70، وشرح أصول الإيمان للشيخ محمد بن عثيمين ص15.