الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كِتَابُ الصِّيَامِ)
الصيام لغة: مجرد الإمساك، يقال للساكت: صائم لإمساكه عن الكلام، ومنه:(إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا)[مريم: 26].
وفي الشرع: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة، في زمن مخصوص، من شخص مخصوص.
وفرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات إجماعاً.
- مسألة: (يَلْزَمُ) صومُ رمضان (كُلَّ):
1 -
(مُسْلِمٍ)، فلا يجب على كافر وجوب أداء بلا خلاف، ولا يصح منه؛ لقول الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)[البقرة: 183]، فتوجه الخطاب للمسلم دون الكافر؛ ولأنه عبادة بدنية محضة تفتقر إلى النية، فكان من شرطه الإسلام كالصلاة.
لكن الكافر يتوجه إليه خطاب وجوب التكليف؛ لأن الكفار مخاطبون
بفروع الشريعة.
2 -
(مُكَلَّفٍ)، وهو البالغ العاقل؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّغِيرِ حَتَّى يَكْبَرَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ أَوْ يُفِيقَ» [أحمد 24694، وأبو داود 4403، والنسائي 3432، وابن ماجه 2041].
ولا يخلو غير المكلف من ثلاثة أقسام:
أمجنون: فلا يصح الصوم منه؛ لعدم النية، ولا يجب عليه؛ للحديث السابق.
ب صغير غير مميز: فلا يصح الصوم منه؛ لعدم النية، ولا يجب عليه؛ للحديث السابق.
ت صغير مميز: فيصح الصوم منه؛ كصلاته، ولا يجب عليه.
- فرع: يجب على ولي المميز أمرُه به إذا أطاقه، وضربه حينئذ على الصوم إذا تركه؛ ليعتاده كالصلاة، إلا أن الصوم أشق فاعتبرت له الطاقة؛ لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصيام.
3 -
(قَادِرٍ)، لا مريض يَعْجِزُ عنه؛ لقوله تعالى:(فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[البقرة: 183].
4 -
مقيمٍ، فلا يجب على مسافر، ويقضي إجماعاً؛ للآية السابقة.
5 -
ألا تكون المرأة حَائِضاً أو نفساء، فلا يجب عليهما الصيام بالإجماع؛ لحديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً:«أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» [البخاري 304]، وتقضيانه وجوباً بعد الطهر إجماعاً؛ لقول عائشة رضي الله عنها:«كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ» [مسلم 335].
- مسألة: يجب الصوم بواحد من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: (بِرُؤْيَةِ الهِلَالِ) أي: هلال رمضان، إجماعاً؛ لقوله تعالى:(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)[البقرة: 185]، ولما روى ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً:«إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» [البخاري 1900، ومسلم 1080].
- فرع: يُشترط فيمن يخبر برؤية الهلال شرطان:
الشرط الأول: أن يكون مكلفاً، فلا يقبل خبر صغير ولا مجنون؛ لعدم الثقة بقولهما.
الشرط الثاني: أن يكون عدلاً، فلا يقبل خبر الفاسق ولا مستور الحال في رؤية الهلال؛ لحديث الحارث بن حاطب رضي الله عنه:«عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ نَنْسُكَ لِلرُّؤْيَةِ، فَإِنْ لَمْ نَرَهُ، وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا» [أبو داود 2338، وصححه الألباني].
- فرع: لا تشترط الذكورية والحرية في رؤية الهلال، فيقبل خبر الأنثى والعبد؛ للعموم، ولأن الأصل التساوي بين الرجال والنساء، وبين الأحرار والأرقاء إلا لدليل.
- فرع: لا يشترط تعدد الرائين في ثبوت شهر رمضان، فيثبت (وَلَوْ) كانت الرؤيا (مِنْ عَدْلٍ) واحد؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:«تَرَاءى النَّاسُ الْهِلَالَ، فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ» [أبو داود 2338، وصححه الألباني]، وأما حديث الحارث بن حاطب السابق فهو مفهوم، وحديث ابن عمر منطوق، فيقدم عليه.
- فرع: لا يقبل في بقية الشهور، كشوال وغيره إلا رجلان عدلان بلفظ الشهادة؛ لحديث الحارث بن حاطب السابق، ولأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالباً وليس بمال ولا يُقصد به المال؛ أشبه القصاص، وإنما تُرك ذلك في رمضان احتياطاً للعبادة.
الأمر الثاني: (أَوْ بِإِكْمَالِ شَعْبَانَ) ثلاثين يوماً إذا كانت السماء صحواً، فيجب الصيام بعده بلا خلاف.
الأمر الثالث: (أَوْ) عند (وُجُودِ مَانِعٍ مِنْ رُؤْيَتِهِ) أي: الهلال (لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْهُ) أي: من شعبان، (كَغَيْمٍ وَجَبَلٍ وَغَيْرِهِمَا)، كقَتَر ودخان، فيجب صوم اليوم الذي بعده بنية رمضان حكماً ظنيًّا بوجوبه احتياطاً لا يقيناً، وهو
من المفردات؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» [البخاري 1900، ومسلم 1080]، ومعنى:«فَاقْدُرُوا» أي: ضيقوا؛ لقوله تعالى: (ومن قدر عليه رزقه)[الطلاق: 7] أي: ضُيِّق، وهو أن يجعل شعبان تسعة وعشرين يوماً، ولأنه مروي عن: عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة، وأسماء بنتي أبي بكر رضي الله عنهم [رواها الفضل بن زياد في مسائله، كما في زاد المعاد 2/ 41 - 43].
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: أنه لا يجب صوم ذلك اليوم قبل رؤية هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين (1)، وقال:(لا أصل للوجوب في كلام أحمد، ولا في كلام أحد من الصحابة)، ويدل لذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» [البخاري 1909]، وأما حديث ابن عمر رضي الله عنهما:«فَاقْدُرُوا لَهُ» ، فالمراد به: التقدير، أي: قدِّروا شعبان ثلاثين، لرواية البخاري [1970]:«فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثَلاثِينَ» ، وفي مسلم [1080]:«فَاقْدُرُوا لَهُ ثَلَاثِينَ» .
وأما ما روي عن الصحابة، فعنه جوابان:
(1) واختلف النقل عن شيخ الإسلام بعد قوله بعدم وجوب الصوم، قال في الإنصاف (3/ 270):(فعلى هذه الرواية: يباح صومه. قال في الفائق: اختاره الشيخ تقي الدين، وقيل: بل يستحب. قال الزركشي: اختاره أبو العباس. انتهى، قال في الاختيارات: وحكي عن أبي العباس أنه كان يميل أخيراً إلى أنه لا يستحب صومه. انتهى).
1 -
أن صيامه كان احتياطاً، لا إيجاباً له، ولذلك كان غالب الناس لا يصومون، ولم ينكروا عليهم الترك، وقد صرح أنس رضي الله عنه بأنه إنما صامه كراهة للخلاف على الأمراء.
2 -
أنه خالفهم غيرهم من الصحابة، كعمر [مصنف عبد الرزاق 7748]، وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنه[مصنف ابن أبي شيبة 2/ 284 - 285].
- مسألة: (وَإِنْ رُئِيَ) الهلال (نَهَاراً)، قبل الزوال أو بعده (فَهُوَ لِـ) لَّيلة ا (لمُقْبِلَةِ)؛ لما روى شقيق بن سلمة، قال: أتأنا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونحن بخانقين: «إِنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَعْظَمُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ» [الدارقطني 2197، وصحح إسناده الحافظ].
- تنبيه: مراد الأصحاب بقولهم: (إنه لليلة المقبلة) دفع ما قيل: إن رؤيته تكون لليلة الماضية، فلا أثر لرؤية الهلال نهارًا، وإنما يعتد بالرؤية بعد الغروب.
- مسألة: (وَإِنْ صَارِ) من ليس أهلاً لوجوب الصيام عليه (أَهْلًا لِوُجُوبِهِ فِي أَثْنَائِهِ) أي: أثناء ذلك اليوم، ككافر أسلم في أثناء النهار، أو بلغ صغير مفطراً، أو عقل مجنون، أو قامت البينة في أثناء النهار، (أَوْ قَدِمَ مُسَافِرٌ
مُفْطِراً)، أو صحّ مريض، (أَوْ طَهَرَتْ حَائِضٌ؛ أَمْسَكُوا) عن مفسدات الصوم؛ لحرمة الوقت، ولتعذر إمساك الجميع، فوجب أن يأتوا بما يقدرون عليه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [البخاري 7288، ومسلم 1337]، (وَقَضَوْا) ذلك اليوم؛ لأنهم لم يأتوا فيه بصوم صحيح، وفي بعض ألفاظ حديث سلمة رضي الله عنه الآتي:«فَأَتِمُّوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ وَاقْضُوهُ» [أبو داود 2447، وضعفه ابن عبد الهادي].
واختار ابن عثيمين: أنه لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يوجد شرط الوجوب، كما لو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو قامت البينة في أثناء النهار: فيجب عليهم الإمساك، دون قضاء، وإن أفطروا أول النهار، واختاره شيخ الإسلام؛ لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه:«أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ: أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ: أَنَّ مَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ، فَإِنَّ اليَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ» [البخاري 2007، ومسلم 1135]، وصيام عاشوراء كان واجباً، ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، ولأنهم لم يُدركوا وقتاً يمكنهم من التلبس فيه، فأشبه ما لو زال عذرهم بعد الوقت.
الأمر الثاني: أن يزول مانع الوجوب، كمسافر يقدم، أو حائض تطهر: فيجب القضاء إجماعاً، ولا يجب الإمساك، وهي رواية عن أحمد؛ لما ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه:«مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ» [مصنف ابن أبي شيبة
9343]، ولأنه أبيح له الفطر أول النهار، فله أن يستديمه إلى آخره، وحرمة الزمن قد زالت بفطرهم المباح لهم أول النهار، ولم نعلل ذلك في وجود شرط الوجوب؛ لحديث سلمة السابق.
- مسألة: (وَمَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ: أَطْعَمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِيناً)؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)[البقرة: 184]: «لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالمَرْأَةُ الكَبِيرَةُ لا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا، فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا» [البخاري 4505].
وقال شيخ الإسلام: إن تبرع بصومه عمن لا يطيقه لكبر ونحوه، وهو معسر، يتوجه جوازه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة من المال.
- فرع: مقدار الإطعام: ما يجزئ في الكفارة، مد من برّ، أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير أو أقط؛ لما روى نافع: أَنَّ ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن المرأة الحَامل إِذا خافت على ولدها، قَالَ:«تُفْطِرُ، وَتُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» [الموطأ 1/ 308]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما:«إِذَا عَجَزَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ عَنِ الصِّيَامِ أَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا مُدًّا» [الدارقطني 2347، وصححه].
واختار ابن عثيمين: أنه يرجع فيه إلى العرف، فيخرج من أوسط ما
يطعم أهله؛ للإطلاق في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)[البقرة: 184]، والقاعدة:(أن ما لم يرد تحديده في الشرع ولا في اللغة يرجع في تحديده إلى العرف)، ويدل لذلك قوله تعالى في كفارة اليمين:(فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم)[المائدة: 89].
وذكر شيخ الإسلام: أن الإطعام إذا لم يقدَّر في الشرع، فإنه يرجع فيه إلى العرف، كالإطعام في كفارة اليمين.
- فرع: الإطعام له كيفيتان:
1 -
التمليك، وذلك بأن يعطي كل مسكين مقدار الطعام الواجب، على ما سبق بيانه.
2 -
الإطعام بدون تمليك، وذلك بأن يطبخ طعاماً ويطعمه المساكين: فلا يجزئ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة رضي الله عنه في فدية الأذى: «فَصُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ» [البخاري 1816، ومسلم 1201]، ولقول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم في كفارة اليمين:«مُدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ» [مصنف ابن أبي شيبة 3/ 71]، فيقاس عليه الإطعام في الصيام.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: الإجزاء؛ لقول علي رضي الله عنه في كفارة اليمين: «يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ خُبْزًا وَزَيْتًا، أَوْ خُبْزًا وَسَمْنًا، أَوْ خَلًّا وَزَيْتًا» [تفسير الطبري 8/ 626، وضعفه ابن حزم]، ولقول الحسن: «أَطْعَمَ أَنَسٌ رضي الله عنه بَعْدَ مَا كَبِرَ
عَامًا أَوْ عَامَيْنِ، كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأَفْطَرَ» [البخاري معلقًا مجزومًا 6/ 25]، ولأن الله تعالى أمر بالإطعام، ولم يوجب التمليك، وهذا إطعام حقيقة، وما ورد في التمليك لا ينفي جواز الإطعام.
- فرع: إن كان فطر الكبير، والمريض الذي لا يُرجى برؤه مع عذرٍ معتادٍ؛ بأن سافر مثلًا؛ فلا فدية عليه ولا قضاء؛ لعجزه عنه.
واختار ابن عثيمين: أنه تلزمه الفدية؛ لأنَّ الصَّوم لم يكن واجبًا عليه أصلًا، وإنَّما تجب الفدية، ولا فرقَ فيها بين الحضر والسَّفر.
- مسألة: حكم الصوم للمريض مرضاً يرجى برؤه لا يخلو من ثلاثة أقسام:
1 -
أن يشق عليه الصوم، ولا يضره: وأشار إليه بقوله: (وَسُنَّ الفِطْرُ لِمَريضٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ) الصيام، وكره له الصوم؛ لقوله تعالى:(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)[البقرة: 184] أي: فليفطر وليقض عدد ما أفطره؛ ولأن فيه قبول الرخصة مع التلبس بالأخف.
2 -
أن يضره الصوم، بزيادة مرضه، أو تأخر برئه، أو تلفه: فيسن له الفطر أيضاً، واختاره شيخ الإسلام، ويكره له الصيام؛ لما سبق.
واختار ابن عثيمين: أنه يجب الفطر؛ لقول الله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)[النساء: 29].
3 -
أن يكون المرض يسيراً، لا يشق عليه الصوم ولا يضره، كوجع الضرس أو الصداع اليسيرين: فيجب عليه الصوم؛ لقدرته عليه، واليسير ملحق بالعدم.
- مسألة: (وَ) سن الفطر لـ (مُسَافِرٍ يَقْصُرُ)، واختاره شيخ الإسلام، وكره له الصوم ولو بلا مشقة، وهو من المفردات؛ لحديث جابر رضي الله عنه مرفوعاً:«لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» [البخاري 1946، ومسلم 1115]، بل قال شيخ الإسلام:(يجب الفطر إن منعه من واجب آخر).
واختار ابن عثيمين: أن المسافر له ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون الصوم والفطر عنده سواء: فالأفضل الصوم؛ لقول أبي الدرداء رضي الله عنه: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَابْنِ رَوَاحَةَ» [البخاري 1945، ومسلم 1122]، والصوم لا يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم هنا؛ لأنه لا يفعل إلا الأرفق والأفضل، ولأنه أسرع في إبراء الذمة.
الثانية: أن يكون الفطر أرفق به، فالفطر أفضل: وإذا شق عليه بعض الشيء صار الصوم في حقه مكروهاً؛ لأن ارتكاب المشقة مع وجود الرخصة يشعر بالعدول عن رخصة الله عز وجل.
الثالثة: أن يشق عليه مشقة شديدة غير محتملة: فالصوم في حقه حرام؛
لحديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم، فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر، فرفعه، حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال:«أُولَئِكَ الْعُصَاةُ، أُولَئِكَ الْعُصَاةُ» [مسلم 1114].
- فرع: جوّز شيخ الإسلام الفطر في الحضر إن أحاط العدو ببلد وكان الصوم يضعفهم، وفعله وأمر به، وهي رواية في المذهب؛ قياساً على فطر الحامل والمرضع.
- مسألة: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما جاز لهما الفطر اتفاقاً، وكره لهما الصوم؛ كالمريض.
- مسألة: (وَإِنْ أَفْطَرَتْ حَامِلٌ، أَوْ) أفطرت (مُرْضِعٌ) لم يخلُ ذلك من ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن تفطرا (خَوْفاً عَلى أَنْفُسِهِما) فقط: (قضَتَا) الصيام (فَقَطْ) من غير فدية؛ لأنهما بمنزلة المريض، والله تعالى يقول:(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)[البقرة: 184]، وأما حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله تَعَالَى وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ الصَّوْمَ، وَشَطْرَ الصَّلاةِ، وَعَنِ الحَامِلِ أَوِ المُرْضِعِ الصَّوْمَ» [مسلم 1114]، فيدل أنهما كالمسافر، والمسافر يفطر ويقضي.
القسم الثاني: أن تفطرا خوفاً على أنفسهما وخوفاً على ولديهما: قضتا الصيام فقط، ولا فدية؛ لما سبق في القسم الأول.
القسم الثالث: وأشار إليه بقوله: (أَوْ) أن تفطرا خوفاً (عَلَى وَلَدَيْهِمَا) فقط: فيجب القضاء، (مَعَ الإِطْعَامِ) لكل يوم مسكيناً، على ما تقدم في إطعام المريض الذي لا يرجى برؤه، جنساً وقدراً وكيفيةً؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:(وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)[البقرة: 184]: «رُخِّصَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ فِي ذَلِكَ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ أَنْ يُفْطِرَا إِنْ شَاءَا، وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة: 185]، وَثَبَتَ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ إِذَا كَانَا لَا يُطِيقَانِ الصَّوْمَ، وَالحُبْلَى وَالمُرْضِعِ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا» ، ونحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما [البيهقي 8078، 8079]، وأما ما ورد عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم في الإطعام وعدم القضاء، فقال أحمد:(إذا أفطرت تقضي وتطعم، أذهب فيه إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال ابن قدامة: (يعني: ولا أقول بقول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم في منع القضاء).
واختار ابن باز وابن عثيمين: وجوب القضاء دون الإطعام؛ لظاهر حديث أنس بن مالك الكعبي السابق إذ جعل المسافر والحامل والمرضع في حكم واحد، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما:«تُفْطِرُ الحَامِلُ وَالمُرْضِعُ فِي رَمَضَانَ، وَتَقْضِيَانِ صِيَامًا، وَلَا تُطْعِمَانِ» [مصنف عبد الرزاق 7564]، ولأنه فطرٌ أبيح لعذر، فلم يجب به كفارة؛ كالفطر لمرض.
- فرع: يجب الإطعام عند فطر الحامل والمرضع خوفاً على الولد (مِمَّنْ يَمُونُ) أي: على من يقوم بكفاية (الوَلَدِ)؛ لأن الإرفاق للولد، فكان واجباً على من يقوم بكفايته.
- مسألة: (وَمَنْ) نوى الصوم ليلاً، ثم (أُغْمِيَ عَلَيْهِ، أَوْ جُنَّ) فلا يخلو من حالين:
1 -
أن يكون ذلك (جَمِيعَ النَّهَارِ: لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ)؛ لأن الصوم الشرعي عبارة عن الإمساك مع النية، والمجنون والمغمى عليه لم يوجد منهما الإمساك مع النية.
- فرع: (وَيَقْضِي المُغْمَى عَلَيْهِ) الصوم فقط، دون المجنون؛ لأن مدته لا تطول غالباً، فلم يَزُل به التكليف، بخلاف المجنون.
2 -
أن يفيق جزءاً من النهار: سواء أفاق أول النهار أو وسطه أو آخره: صح صومه؛ لقصد الإمساك في جزء من النهار، كما لو نام بقية يومه.
- فرع: إذا نام جميع النهار صح صومه بلا خلاف؛ لأن النوم عادة، ولا يزول به الإحساس بالكلية.
- مسألة: لا يصح صومٌ إلا بنية إجماعًا؛ لحديث عمر رضي الله عنه مرفوعًا: " إنما الأعمال بالنيات "[البخاري: 1، ومسلم: 1907].
- مسألة: (وَلَا يَصِحُّ صَوْمُ فَرْضٍ إِلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ)، بأن يعتقد أنه يصوم من رمضان، أو قضائه، أو نذر، أو كفارة؛ للحديث السابق، ولأن التعيين مقصود بنفسه.
واختار شيخ الإسلام: إن نوى نذرًا أو نفلًا ثم بان من رمضان أجزأه إن كان جاهلاً؛ كمن دفع وديعة رجل إليه على طريق التبرع، ثم تبين أنها كانت حقة، فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثانٍ.
- فرع: ويجب أن تكون نية صوم الفرض (بِجُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ)، ولا فرق بين أول الليل ووسطه وآخره؛ لحديث حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» [أحمد 26457، وأبو داود 2454، والترمذي 730، والنسائي 2330، وابن ماجه 1700]، فلو نسي النية أو أغمي عليه قبل الغروب حتى طلع الفجر لم يصح صومه؛ لعدم نية الصيام ليلاً.
- فرع: تجب نية مفردة لكل يوم من رمضان؛ لأن كل يوم من رمضان عبادة مفردة، لا يفسد صومه بفساد صوم يوم آخر، وكقضاء رمضان.
وعنه، واختاره ابن عثيمين: أنه تجزئ نية واحدة في أول رمضان للشهر كله، ما لم يفسخها، أو يقطع الصيام بعذر؛ كمرض وسفر، أو بغيره؛ لأنها عبادة تجب في العام مرة واحدة، فجاز أن تشملها نية واحدة كالزكاة فإن قطع الصيام وجب أن ينوي نية أخرى لما بقي.