الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الاستحباب فلحديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ» ، ثم قال له:«أَفْطِرْ، وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ» [البيهقي 8362]، (والله أَعْلَمُ).
(فَصْلٌ) في الاعتكاف
الاعتكاف لغةً: لزوم الشيء، ومنه قوله تعالى:{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138].
واصطلاحاً: لزوم مسجدٍ لطاعة الله تعالى.
- مسألة: (وَالاعْتِكَافُ سُنَّةٌ) كل وقت إجماعاً؛ لفعله صلى الله عليه وسلم ومداومته عليه، فعن عائشة رضي الله عنها:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ» [البخاري: 2026، ومسلم: 1172].
- فرع: الاعتكاف له وقتان:
الأول: وقت استحباب مطلق: وذلك كل وقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف
في رمضان كما تقدم، واعتكف في شوالٍ كما حديث عائشة رضي الله عنها:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ مِنْ شَوَّالٍ» . [البخاري: 2033، ومسلم: 1172].
الثاني: وقت استحباب مؤكد: وذلك في رمضان، فهو آكد من غيره إجماعاً، وآكده في عشره الأخير؛ لحديث عائشة السابق.
- مسألة: أقل مقدار للاعتكاف ما يُسمى به معتكفاً لابثاً؛ لأنه يصدق عليه اسم الاعتكاف لغةً، ولقول يعلى بن أمية رضي الله عنه " إِنِّي لَأَمْكُثُ في المَسْجِدِ السّاعَةَ، وَمَا أَمْكًثُ إلَاّ لِأَعْتَكِفَ "[عبد الرزاق: 8006]، قال ابن حزم:(لا يعرف ليعلى في هذا مخالف من الصحابة)، ولا يكفي عبوره المسجد من غير لبث، لأنه لا يسمى معتكفاً.
وقيل: أقله يوم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» [البخاري: 2032، ومسلم: 1656]، وفي رواية لمسلم:«إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام» ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يأتون المسجد، ولو كان الاعتكاف مشروعاً لنووا الاعتكاف عند دخولهم المسجد، فدل على أن مجرد اللبث مع النية لا يعتبر اعتكافاً شرعيًّا.
ولم ير شيخ الإسلام لمن قصد المسجد للصلاة أو غيرها أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه.
- مسألة: يشترط لصحة الاعتكاف شروط:
الشرط الأول: أن يكون الاعتكاف في مسجد؛ لقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)[البقرة: 187]، فلا يصح اعتكاف الرجل في غير مسجد إجماعاً، وكذا المرأة، ولو مسجد بيتها؛ لأنه ليس بمسجد حقيقة، ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما:«إِنَّ أَبْغَضَ الْأُمُورِ إِلَى الله الْبِدَعُ، وَإِنَّ مِنَ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافَ فِي المَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ» [البيهقي: 8573، وفيه ضعف].
- فرع: لا يخلو المعتكف من حالين:
1 -
أن تجب عليه صلاة الجماعة حال اعتكافه، كمن يتخلل اعتكافه صلاة: فلا يصح اعتكافه إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، وأشار إليه المؤلف بقوله:(وَلَا يَصِحُّ) الاعتكاف (مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الجَمَاعَةُ)، وهو المسلم الذكر الحر القادر، (إِلَّا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ) الجماعة (إِنْ أَتَى عَلَيْهِ صَلَاةٌ)؛ لأن الاعتكاف في غيره يفضي إما إلى ترك الجماعة، أو تكرار الخروج إليها كثيراً، مع إمكان التحرز منه.
2 -
ألا تجب عليه صلاة الجماعة حال اعتكافه: كالمرأة، والمعذور، أو من لا يتخلل اعتكافه صلاة: فيصح اعتكافه في كل مسجد ولو كان المسجد لا تُقام فيه الجماعة؛ لإطلاق الآية، ولأن الجماعة غير واجبة إذاً.
(وَ) الـ (ـشَّرْطُ) الثاني (لَهُ) أي: للاعتكاف: (طَهَارَةٌ مِمَّا يُوجِبُ غُسْلاً) من نحو جنابة أو حيض أو نفاس؛ لأنه يحرم على الجنب والحائض والنفساء اللبث في المسجد، كما تقدم في كتاب الطهارة.
والشرط الثالث: النية، فلا يصح اعتكافه بغير نية؛ لحديث عمر رضي الله عنه:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
- فرع: لا يشترط لصحة الاعتكاف أن يكون المعتكف صائماً؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، وهذا يشمل كل وقت من ليل أو نهار، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال:«فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» [البخاري: 2032، ومسلم: 1656]، ولو كان الصوم شرطاً لما صح الاعتكاف في الليل، ولحديث عائشة رضي الله عنها:«أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَكَفَ فِي الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَوَّالٍ» ، وفيها يوم العيد المحرَّم صومُه إجماعاً، ولكن الاعتكاف مع الصوم أفضل؛ خروجاً من الخلاف.
وعنه، واختاره شيخ الإسلام: يُشترط الصوم لصحة الاعتكاف؛ لأن الله سبحانه لم يذكر الاعتكاف في القرآن إلا مع الصوم، ولا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مع الصوم، ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «السُّنَّةُ عَلَى الْمعْتَكِفِ: أَلَّا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا
اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» [أبو داود: 2473].
- مسألة: يلزم الاعتكافُ بالنذر إجماعاً، كسائر التطوعات؛ لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ» [البخاري: 6696].
- فرع: (وَإِنْ نَذَرَهُ) أي: الاعتكافَ، (أَوْ) نذر (الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدٍ) من المساجد، فلا يخلو من حالين:
الحالة الأولى: أن يكون النذر في (غَيْرِ) المساجد (الثَّلَاثَةِ) وهي: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى: (فَلَهُ فِعْلُهُ) أي: فعل الاعتكاف المنذور أو الصلاة المنذورة (فِي غَيْرِهِ) أي: في غير المسجد المنذور من سائر المساجد، ولا يلزمه فعل النذر في المسجد الذي عينه، ولا كفارة عليه؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» [البخاري: 1189، ومسلم: 1397]، فلو تعين غيرُها بتعيينه لزمه المضي إليه، واحتاج لشد الرحال إليه، وهو محرم، ولأن الله تعالى لم يعيِّن لأداء الفرض موضعاً، فلم يتعين بالنذر.
لكن إن نذر الاعتكاف في مسجد جامع؛ لم يجزئه الاعتكاف في مسجد لا تقام فيه الجمعة؛ لأنه إن اعتكف في غير الجامع فخرج منه للجمعة يكون قد ترك لبثًا مستحقًا التزمه بنذره.
واختار شيخ الإسلام: أن من نذر الاعتكاف في مسجد له مزية - غير المساجد الثلاثة؛ كقِدَم وكثرة جَمْع؛ تعين ذلك المسجد؛ لأن نذره تضمن طاعةً، فوجب أن يفي به.
- فرع: لو نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة واحتاج إلى شد رحل؛ لم يفِ بنذره باتفاق الأئمة، واختاره شيخ الإسلام، ولو كان هذا المسجد له مزية من قدم أو كثرة جمع؛ لحديث أبي هريرة السابق.
(وَ) الحالة الثانية: أن يكون النذر (فِي أَحَدِهَا) أي: في أحد المساجد الثلاثة: (فَلَهُ فِعْلُهُ) أي: فعل النذر (فِيهِ) أي: في المسجد الذي عينه، (وَ) له فعل النذر (فِي) المسجد (الأَفْضَلِ) من المسجد الذي نذر فيه الصلاة؛ لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رجلاً قام يوم الفتح، فقال: يا رسول الله، إني نذرت لله إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، قال:«صَلِّ هَهُنَا» ، ثم أعاد عليه، فقال:«صَلِّ هَهُنَا» ، ثم أعاد عليه، فقال:«شَأْنُكَ إِذَنْ» [أحمد: 14919، وأبو داود: 3305].
وليس له أن يوفي بنذره في المسجد المفضول، فمن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئه في مسجد المدينة؛ لفضل العبادة فيها على غيرها، فتتعين بالتعيين.
- فرع: (وَأَفْضَلُهَا) أي: أفضل المساجد: (المَسْجِدُ الحَرَامُ)؛ لحديث
جابر رضي الله عنه مرفوعاً: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمسْجِدَ الحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمسْجِدِ الحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» [أحمد: 14694، وابن ماجه: 1406].
(ثُمَّ) يليه: (مَسْجِدُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ) الصلاة و (السَّلَامُ)؛ لحديث جابر السابق، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ» [البخاري: 1190، ومسلم: 1394].
ثم يليهما: المسجد الأَقْصَى؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «فَضْلُ الصَّلاةِ فِي المسجد الحرام على غيره مائَة أَلْفِ صَلاةٍ، وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلاةٍ، وَفِي مسجد بيت المقدس خمسمِائَة صَلاةٍ» [مسند البزار: 4142، وحسنه، وضعفه غيره]، قال شيخ الإسلام:(وأما في المسجد الأقصى فقد روي: «أنها بخمسين صلاة»، وقيل: «بخمسمائة صلاة» وهو أشبه).
- مسألة: مبطلات الاعتكاف:
المبطل الأول: الخروج من المسجد؛ لأنه تركٌ لركن الاعتكاف، وهو اللبث في المسجد.
وخروج المعتكف من المسجد لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون اعتكافه بغير نذر: فله الخروج ولو من غير عذر؛ لأنه مستحب، والنوافل - ما عدا الحج والعمرة - لا تلزم بالشروع.
الثانية: أن يكون اعتكافه بنذر: فلا يخلو من حالين:
1 -
أن يكون خروجه لعذر: فلا شيء عليه؛ للعذر، ويلزمه الرجوع عند زوال العذر، فإن أخَّر الرجوع إلى معتكفه مع إمكانه؛ فسد اعتكافه؛ لارتكابه المفسد.
2 -
أن يكون خروجه لغير عذر: فلا يجوز له الخروج؛ لشروعه في الواجب وهو النذر، وأشار إليه بقوله:(وَلَا يَخْرُجُ) من معتكفه (مَنِ اعْتَكَفَ) اعتكافاً (مَنْذُوراً).
- فرع: لا يخلو الاعتكاف المنذور من أمرين:
الأول: أن ينذر اعتكافاً (مُتَتَابِعاً) بلفظه أو بنيته: فيجب عليه التتابع؛ لأنه وصفٌ في النذر معتبرٌ، فوجب اعتباره.
الثاني: أن ينذر اعتكافاً مطلقاً، كما لو نذر يوماً أو أياماً مطلقة: فلا يجب فيه التتابع؛ لانتفاء وصف التتابع فيه.
- فرع: خروج المعتكِف من المسجد على أقسام:
1 -
إخراج بعض البدن: فلا يبطل الاعتكاف؛ لحديث عائشة رضي الله عنها: «أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ» [البخاري: 2046، ومسلم: 297].
2 -
أن يخرج لأمر لا بد منه طبعاً، كقضاء الحاجة، وأكل إذا لم يكن
هناك من يأتيه به، ونحوه: فلا يبطل اعتكافه إجماعاً، وأشار إليه المؤلف بقوله:(إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ)؛ لحديث عائشة السابق، وفي لفظ:«وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» .
3 -
أن يخرج لأمر لا بد له منه شرعاً، كالوضوء وصلاة الجمعة: فلا يبطل اعتكافه؛ لحديث عائشة رضي الله عنها، وفيه:«وَلَا يَخْرُج لِحَاجَةٍ، إِلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ» [أبو داود: 2473]، ولأنه خروج لواجب، فلم يبطل اعتكافه، كمن خرج لما لابد منه طبعاً، وكالخارج لإنقاذ غريق، أو إطفاء حريق.
4 -
أن يخرج لأمر له منه بُدٌّ؛ كمبيت في بيته والعشاء في منزله: فيبطل اعتكافه، سواء طال الخروج أو قصر؛ لمفهوم حديث عائشة السابق، ولأنه خروج لغير حاجة فأبطله.
وأما خروج النبي صلى الله عليه وسلم من معتكفه مع صفية رضي الله عنها لِيَقْلِبَها إلى بيتها [البخاري: 2038، ومسلم: 2175]، فيحتمل أنه لم يكن له بدٌّ؛ لأنه كان ليلاً، فلم يأمن عليها، ويحتمل أنه فعل ذلك لكون اعتكافه تطوعاً له تركه.
إلا إذا اشترط ذلك في ابتداء اعتكافه لم يبطل الاعتكاف؛ لأنه إذا شرط الخروج فكأنه نذر القدر الذي أقامه، ولتأكد الحاجة إليه وامتناع النيابة فيه، ولورود الشرط في الحج واللعان.
وعنه، واختاره المجد: لا يجوز الخروج وإن شرطه؛ لمنافاته الاعتكاف، كشرط ترك الإقامة في المسجد والنزهة والفرجة، بخلاف
اشتراط الخروج للقُربة، ويأتي.
5 -
أن يخرج لقربة من القرب، كطلب علم وعيادة مريض ونحوه: فيبطل اعتكافه بذلك، وأشار إليه المؤلف بقوله:(وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدُ جِنَازَةً)؛ لحديث عائشة السابق، وفيه:«السُّنَّةُ عَلَى الْمعْتَكِفِ: أَلَّا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً» .
(إِلَّا بِشَرْطٍ)؛ لما سبق في القسم الرابع.
6 -
أن يخرج لأمر ينافي الاعتكاف، كالخروج للوطء والنزهة والبيع والشراء والتكسب: فيبطل اعتكافه ولو اشترطه؛ لأن ذلك ينافي الاعتكاف صورةً ومعنًى، كشرط ترك الإقامة بالمسجد، وكالوقف لا يصح فيه شرط ما ينافيه.
7 -
أن يخرج سهواً أو إكراهاً: فلا يبطل اعتكافه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: «إِنَّ الله وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» [ابن ماجه: 2045]، وللقاعدة:(المحظورات يُعذر فيها بالجهل والنسيان والإكراه).
8 -
أن يخرج لضرورة، كاحتراق مسجد: فلا يبطل اعتكافه؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات.
(وَ) المبطل الثاني: (وَطْءُ) المعتكف في (الفَرَجِ): فـ (يُفْسِدُهُ) أي: يفسد الاعتكاف إجماعاً؛ لقول الله عز وجل: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)[البقرة: 187]، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما:«إِذَا جَامَعَ المُعْتَكِفُ أَبْطَلَ اعْتِكَافَهُ، وَاسْتَأْنَفَ» [ابن أبي شيبة: 9680]، ولأن الوطء إذا حرُم في العبادة أفسدها، كالصوم والحج.
المبطل الثالث: وأشار إليه بقوله: (وَكَذَا إِنْزَالٌ) بمني (بِمُبَاشِرَةٍ).
وخروج المني من المعتكف على أقسام:
1 -
أن يخرج بمباشرةٍ؛ كتقبيل، ولمس، وتكرار نظر، واستمناء: فيفسد اعتكافه؛ لقول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)[البقرة: 187]، والمباشرة تشمل الجماع وما دون الجماع.
2 -
أن يخرج باحتلام: فلا يفسد اعتكافه بالاتفاق؛ لأن النائم غير مؤاخذ.
3 -
أن يخرج بالتفكير أو بالنظرة الأولى: فلا يفسد اعتكافه؛ لأنه غير مؤاخذ شرعاً، وتقدم نحوه في مفطرات الصائم.
- فرع: المباشرة للمعتكف على قسمين:
الأول: مباشرة لغير شهوة، مثل أن تغسل رأسه، أو تناوله شيئاً: فلا بأس بها؛ لحديث عائشة السابق: «أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ
حَائِضٌ، وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي المَسْجِدِ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُهَا رَأْسَهُ».
الثاني: مباشرة لشهوة: فتحرم إجماعاً؛ لقول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)[البقرة: 187]، ولقول عائشة السابق:«السُّنَّةُ عَلَى الْمعْتَكِفِ: أَلَّا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً، وَلَا يُبَاشِرَهَا» ، ولأنه لا يأمن إفضاءها إلى إفساد الاعتكاف، وما أفضى إلى الحرام كان حراماً.
فإن باشر بشهوة، لم يخل من أمرين:
1 -
ألا ينزل: فلا يفسد اعتكافه؛ لأنها مباشرة لا تفسد صوماً ولا حجًّا، فلم تفسد الاعتكاف؛ كالمباشرة لغير شهوة.
2 -
أن ينزل: فيفسد صومه على التفصيل السابق.
- فرع: لا فرق بين العامد والناسي في فساد الاعتكاف بالوطء والإنزال بشهوة؛ قياساً على الحج والصوم.
واختار المجد: أنه لا يفسد الاعتكاف إذا كان ناسياً؛ لأنه معذور، والمحظورات يُعذر فيها بالجهل والنسيان والإكراه، وقياساً على خروج المعتكف من المسجد ناسياً.
المبطل الرابع: السُّكر؛ لخروجه عن كونه من أهل المسجد، كالمرأة تحيض.
المبطل الخامس: الرِّدة؛ لقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك)[الزمر: 65]، ولأنه خرج بالردة عن كونه من أهل الاعتكاف.
المبطل السادس: نية الخروج من الاعتكاف، ولو لم يخرج؛ قياساً على قطع نية الصلاة والصيام.
- مسألة: إذا خرج المعتكف من اعتكافه الواجب لم يخل من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون خروجه لعذر، فلا يخلو من أمرين أيضًا:
أأن يخرج لعذر معتاد؛ كالخروج للبول والغائط والطهارة من الحدث والطعام والشراب: فلا قضاء عليه؛ لأن الخروج له كالمستثنى لكونه معتادًا، ولا كفارة؛ إذ لو وجب فيه شيء لامتنع معظم الناس من الاعتكاف، بل هو باق على اعتكافه ولم تنقص به مدته.
ويجب عليه الرجوع إلى معتكفه بزوال العذر؛ لأن الحكم يدور مع علته، فإن أخر رجوعه عن وقت إمكان الرجوع ولو يسيرًا؛ فكما لو خرج لغير عذر، يبطل ما مضى من اعتكافه، ويأتي.
ب أن يخرج لعذر غير معتاد: كشهادة واجبة، وخوف من فتنة ومرض ونحو ذلك، فلا يخلو:
1 -
ألا يتطاول العذر: فهو على اعتكافه، ولا يقضي الوقت الفائت بذلك؛ لكونه يسيراً مباحًا، أشبه حاجة الإنسان وغسل الجنابة.
2 -
أن يتطاول العذر: فيجب عليه الرجوع إلى معتكفه؛ لأداء ما وجب عليه، ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال:
1) إذا نذر اعتكاف أيام غير متتابعة ولا معينة؛ كنذره عشرة أيام مع الإطلاق: فيلزمه أن يتم ما بقي من الأيام فقط، ولا كفارة عليه؛ لأنه أتى بالمنذور على وجهه، أشبه ما لو لم يخرج.
ويبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله؛ لئلا يفرِّقه.
2) إذا نذر أياماً متتابعة غير معينة، سواء بلفظه أو بنيته؛ كعشرة أيام متتابعة: فيخير بين أن يقضي ما بقي من الأيام وعليه كفارة يمين؛ جبراً لفوات التتابع، وبين الاستئناف بلا كفارة؛ لأنه يكون قد أتى بالمنذور على وجهه، فلم يلزمه شيء.
3) إذا نذر أياماً معينة؛ كالعشر الأواخر، أو شهر رمضان، فعليه ما يلي:
أ-قضاء ما ترك من الاعتكاف؛ ليأتي بالواجب.
ب- كفارة يمين؛ لفوات المحل.
الأمر الثاني: أن يكون خروجه لغير عذر، مختاراً عامداً، أو مكرهاً بحق، ومثله لو ارتد أو سكر: بطل اعتكافه، وإن قل زمن خروجه لذلك؛ لأنه خرج من معتكفه لغير حاجة كما لو طال، ثم لا يخلو ذلك من ثلاثة أمور:
1 -
إن كان المعتكف في نذر متتابع غير معين؛ بأن كان نذر عشرة أيام متتابعة، أو نواها كذلك، ثم خرج: فإنه يستأنف الاعتكاف؛ لأنه لا يمكنه فعل المنذور على وجهه إلا به، ولا كفارة عليه؛ لإتيانه بالمنذور على وجهه.
2 -
إن كان المعتكف في نذر متتابع معين؛ كنذر شعبان: فقال المؤلف: (وَيَلْزَمُ لِإِفْسَادِهِ) أي: الاعتكاف المنذور المعين أمران:
أالاستئناف؛ لأن التعيين يقتضي التتابع، ولم يحصل، فوجب استئنافه.
ب (كَفَّارَةُ يَمِينٍ)؛ لتركه المنذور في وقته المعين بلا عذر.
- مسألة: (وَسُنَّ بِتَأَكُّدٍ اشْتِغَالُهُ) أي: المعتكف (بِالقُرَبِ)، جمع قُربة، وهي: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى، من صلاة وقراءة قرآن وذكر ونحوها مما لا يتعدى نفعها؛ لأن المقصود من الاعتكاف صلاح القلب واستقامته.
ولا يستحب أن يشتغل بما يتعدى نفعه، كإقراء القرآن وتدريس العلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به.
واختار أبو الخطاب والمجد: يسن اشتغاله بما تعدى نفعه إذا قصد به الطاعة؛ لأنها من جملة ما يتقرب به إلى الله، ويكون بها صلاح القلب.
- مسألة: (وَ) سن أيضاً (اجْتِنَابُ مَا لَا يَعْنِيهِ) أي: يُهِمُّه؛ كفضول
الكلام، والنظر، والضحك، والنوم، وسائر المباحات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» [الترمذي: 2317، وابن ماجه: 3976]، ولحديث عائشة رضي الله عنها:«كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الْفَجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكَفَهُ» . [البخاري: 2033، ومسلم: 1172]، ولأن مقصود الاعتكاف هو صلاح القلب، ومن أعظم أسباب صلاح القلب التخفف من فضول المباحات.