الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- فرع: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) ما يطعم به المساكين حال الوطء؛ لأنه وقت الوجوب: (سَقَطَتْ) عنه الكفارة؛ لأن الأعرابي لما دفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم التمر ليطعمه للمساكين فأخبره بحاجته قال: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» ، ولم يأمره بكفارة أخرى، ولم يذكر له بقاءها في ذمته، ولأن الواجبات تسقط بالعجز عنها.
- ضابط: كل الكفارات لا تسقط بالعجز، ككفارة حج وظهار ويمين وقتل؛ لعموم الأدلة، إلا:
1 -
كفارة الجماع في نهار رمضان؛ لما سبق.
2 -
كفارة الوطء في الحيض؛ قياساً على كفارة الجماع في نهار رمضان.
وعنه: أن جميع الكفارات تسقط بالعجز؛ لقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، ولحديث الأعرابي السابق.
فصل
في ما يكره وما يستحب في الصوم، وأحكام القضاء
- مسألة: بلع الريق للصائم على قسمين:
1 -
أن يبتلع الصائم ريقه على جاري العادة: فيجوز بغير خلاف؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، كغبار الطريق.
2 -
أن يجمع الصائم ريقه فيبتلعه قصداً: وأشار إليه المؤلف بقوله:
(وَكُرِهَ أَنْ يَجْمَعَ) الصائم (رِيقَهُ فَيَبْتَلِعَهُ)؛ خروجاً من خلاف من قال بفطره، ولا يفطر بذلك؛ لأنه إذا لم يجمعه وابتلعه قصدًا لا يفطر إجماعًا، فكذا إن جمعه ثم بلعه قصدًا، ولأنه يصل إلى جوفه من معدنه، أشبه ما لو لم يجمعه.
واختار ابن عثيمين: أنه لا يكره جمع الريق وبلعه؛ لعدم الدليل على الكراهة.
- مسألة: (وَذَوْقُ طَعَامٍ) للصائم لا يخلو من حالين، واختاره شيخ الإسلام:
1 -
أن يكون لحاجة: فيجوز؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لا بَأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ القِدْرَ أَوِ الشَّيْءَ» [البخاري معلقًا مجزوماً 3/ 30، ووصله ابن أبي شيبة: 9278].
2 -
أن يكون بلا حاجة: فيكره؛ لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه فيفطره.
- مسألة: (وَمَضْغُ عِلْكٍ) للصائم لا يخلو من حالين:
1 -
أن يكون العلك قويًّا (لَا يَتَحَلَّلُ)، وهو الذي كلما مضغته صلُب وقوي: فيكره؛ لأنه يجلب البلغم، ويجمع الريق، ويورث العطش.
2 -
أن يتحلل من العلك أجزاء: فيحرم إجماعاً؛ سواء ابتلع ريقه أو لا؛ إقامة للمظنة مقام المئنة.
قال ابن قدامة: (إلا ألا يبتلع ريقه؛ لأن المحرم إيصال ذلك إلى الجوف ولم يوجد).
- فرع: (وَإِنْ وَجَدَ) الصائم (طَعْمَهُمَا فِي حَلْقِهِ) أي: طعم الطعام الذي تذوقه والعلك، (أَفْطَرَ)؛ لأنه أوصله إلى جوفه.
وعلى القول الثاني: مناط الفطر وصولهما إلى المعدة، لا إلى الحلق.
- مسألة: (وَالقُبْلَةُ وَنَحْوُهَا) من دواعي الوطء للصائم لا تخلو من ثلاثة أحوال:
1 -
تكره: إن كانت (مِمَّنْ تُحَرِّكُ) القُبْلة (شَهْوَتَهُ) ولم يظن الإنزال؛ لأنه لا يأمن إفضاءها إلى فساد صومه، ولما يأتي من التفريق بين الشيخ والشاب، ولا تحرم؛ لحديث عائشة رضي الله عنها:«أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ» [مسلم: 1106].
واختار ابن عثيمين: أنه لا تكره؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لِإِرْبِهِ» [البخاري: 1927، ومسلم: 1106].
2 -
تباح: إن كانت ممن لا تحرك القبلة شهوته؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُبَاشَرَةِ لِلصَّائِمِ، فَرَخَّصَ لَهُ، وَأَتَاهُ آخَرُ فَسَأَلَهُ، فَنَهَاهُ، فَإِذَا الَّذِي رَخَّصَ لَهُ شَيْخٌ، وَالَّذِي نَهَاهُ شَابٌّ» [أبو داود: 2387]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:«رُخِّصَ لِلْكَبِيرِ الصَّائِمِ فِي الْمُبَاشَرَةِ، وَكُرِهَ لِلشَّابِّ» [ابن ماجه: 1688]، ولأنها مباشرة لغير شهوة، أشبهت لمس اليد لحاجة.
3 -
(وَتَحْرُمُ) القبلة ونحوها على الصائم (إِنْ ظَنَّ) أو غلب على ظنه (إِنْزَالاً) مفسداً للصوم، قال المجد:(بغير خلاف)؛ ولأنه يغلب على ظنه إفساد صومه، فحرمت.
- فرع: إن لم يخرج منه شيء بسبب القبلة لم يفسد صومه إجماعاً، وإن خرج مني أو مذي، فعلى ما تقدم.
- فرع: (وَ) يحرم عليه (مَضْغُ عِلْكٍ يَتَحَلَّلُ)، وتقدم.
- مسألة: (وَ) يحرم على المسلم في الجملة (كَذِبٌ)، وهو الإخبار بما يخالف الواقع، (وَ) تحرم عليه (غِيبَةٌ)، وهي ذكر المسلم أخاه بما يكره، (وَ) تحرم عليه (نَمِيمَةٌ)، وهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد، (وَ) يحرم عليه (شَتْمٌ)، وهو السب والكلام القبيح، (وَ) يحرم عليه (نَحْوُهُ) من المحرمات القولية والفعلية، وتحرم (بِتَأَكُّدٍ) إن كان صائماً؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» [البخاري: 1903]، قال أحمد:(ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه، ولا يماري، ويصون صومه، وكانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا ولا نغتاب أحداً).
- فرع: لا يفطر لو فعل شيئاً من هذه المحرمات اتفاقاً؛ لعدم الدليل على الفطر بها، ولكن قد يكثر المحرَّم فيزيد على أجر الصوم، وقد يقل،
وقد يتساويان، قال شيخ الإسلام:(هذا مما لا نزاع فيه بين الأئمة).
- مسألة: (وَسُنَّ) للصائم أمور:
1 -
(تَعْجِيلُ فِطْرٍ) إذا تحقق غروب الشمس إجماعاً؛ لحديث سهل بن سعد رضي الله عنه مرفوعاً: «لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ» [البخاري: 1957، ومسلم: 1098].
وله الفطر بغلبة الظن؛ لحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ» [البخاري: 1959].
2 -
(وَ) سن له (تَأْخِيرُ سُحُورٍ) اتفاقاً؛ لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاةِ» ، فقيل له: كم كان بيْن الأذان والسُّحور؟ قال: «قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» [البخاري: 1921، ومسلم: 1097]، ولأنه أقوى على الصوم.
3 -
(وَ) سن له (قَوْلُ مَا وَرَدَ عِنْدَ فِطْرٍ)، ومنه ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال: «ذَهَبَ الظَّمَأُ، وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ الله» [أبو داود: 2375].
- مسألة: في أحكام القضاء:
1 -
(وَ) سن لمن عليه قضاء من رمضان (تُتَابُعُ القَضَاءِ)؛ لأن القضاء
يحكي الأداء، ولقول ابن عمر رضي الله عنهما:«صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْتَ» [الدارقطني: 2320]، ولا يجب؛ للإطلاق في قوله تعالى:(فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، فلم يقيدها بالتتابع، ولما صح عن ابن عباس، وأبي هريرة رضي الله عنهم قالا في رمضان:«فَرِّقْهُ إذَا أَحْصَيْتَهُ» [عبد الرزاق: 7664]، ونحوه عن أبي عبيدة ورافع بن خديج رضي الله عنهما [الدارقطني: 2318، 2322].
2 -
وسن أن يكون التتابع (فَوْراً)؛ لأنه أسرع في إبراء ذمته، ولا يجب كونه على الفور؛ للإطلاق في الآية، ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت:«كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم» [البخاري: 1950، ومسلم: 1146].
- مسألة: إن أخَّر قضاء رمضانَ حتى دخل رمضانٌ آخر فلا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: إن كان التأخير لعذر، نحو سفر ومرض: جاز؛ لأنه إذا جاز أن يفطر بهذه الأعذار في رمضان وهو أداء، فجواز الإفطار في أيام القضاء من باب أولى.
ولا كفارة عليه؛ لعدم الدليل على وجوبها إذاً.
الحالة الثانية: إن كان التأخير لغير عذر: فيحرم، وأشار المصنف إليه بقوله:(وَحَرُمَ) على من عليه قضاء رمضان (تَأْخِيرُهُ) أي: القضاء (إِلَى)
دخول رمضانٍ (آخَرَ بِلَا عُذْرٍ)؛ لحديث عائشة السابق، ولو كان جائزاً لفعلته، وقياساً على الصلاة، حيث لا يجوز تأخيرها حتى يدخل وقت صلاة أخرى بلا عذر يبيح الجمع.
- فرع: (فَإِنْ فَعَلَ): بأن أخر القضاء لغير عذر حتى دخل رمضانٌ آخر؛ (وَجَبَ) عليه (مَعَ القَضَاءِ: إِطْعَامُ مِسْكِينٍ) ما يجزئ في الكفارة، (عَنْ كُلِّ يَوْمٍ)، ولو أخره عدة رمضانات؛ أما القضاء؛ فلأنه دين في ذمته لم يقضه، فلزمه قضاؤه، وأما الإطعام: فلما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في رجل أدركه رمضان وعليه رمضان آخر، قال:«يَصُومُ هذَا، وَيُطْعِم عَنْ ذَاك كلَّ يومٍ مسكيناً، ويَقْضِيه» [الدارقطني: 2347، والبيهقي: 8211]، ونحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه [الدارقطني وصححه: 2343، والبيهقي: 8211]، وجبراً لما أخل به من تفويت الوقت المحدد، ويجب إطعامٌ واحد ولو أخره عدة رمضانات؛ لأنه بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه.
واختار ابن عثيمين، ووجَّهه في الفروع احتمالاً: أنه لا يجب عليه إلا القضاء؛ لظاهر القرآن في قوله تعالى: (فعدة من أيام أخر)، فإن الله تعالى لم يوجب إلا عدة من أيام أخر، ولم يوجب أكثر من ذلك، وورد عن ابن مسعود رضي الله عنه القضاء، ولم يذكر إطعاماً [المحلى 4/ 408].
- فرع: (وَإِنْ مَاتَ) من عليه قضاء رمضان ولم يقضه، لم يخل من أمرين:
1 -
أن يكون فطره بسبب مرض لا يرجى برؤه: فيجب عليه الإطعام ابتداء، وتقدم.
2 -
أن يكون فطره بسبب عذر يرجى زواله: فلا يخلو من أمرين:
أ) أن يكون معذوراً بحيث لم يتمكن من القضاء حتى مات: فلا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه القضاء، ولم يتمكن منه، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:«إِذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» [البخاري: 7288، ومسلم: 1337].
ب) أن يكون غير معذور، وهو:(المُفَرِّطُ) الذي ترك القضاء مع إمكانه، (وَلَوْ) كان تركه القضاء (قَبْلَ) دخول رمضان (آخَرَ: أُطْعِمَ عَنْهُ) عن كل يوم مسكين؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرٍ، فَلْيُطْعَمْ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ» [الترمذي: 718، وابن ماجه: 1757، وقال الترمذي: والصحيح عن ابن عمر موقوفٌ قولُه]، وصح الإطعام عن عائشة رضي الله عنها أيضاً. [شرح مشكل الآثار للطحاوي 6/ 178]، (كَذَلِكَ) أي: كالذي فرط حتى دخل عليه رمضان آخر، فعليه إطعام واحد لا أكثر؛ لما تقدم.
- فرع: يكون الإطعام (مِنْ رَأْسِ مَالِهِ) أي: مال الميت، سواء أوصى
به أو لا؛ قياساً على سائر الديون، (وَلَا يُصَامُ) عنه قضاء رمضان؛ لما يأتي.
- فرع: إذا مات الإنسان وكان عليه شيء من الواجبات، كالصلاة والصيام والحج وغيرها، فلا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون معذوراً، بحيث يموت قبل التمكن من أداء الواجب: فلا يقضى، سواء كان واجباً بأصل الشرع أو بالنذر؛ لأنه معذور، إلا:
1 -
الحج والعمرة، فإنه يفعل عنه مطلقاً، تمكن منه أو لا، لجواز النيابة فيه حال الحياة، فبعد الموت أولى.
2 -
الحقوق المالية، فإنها تقضى عنه؛ لأنها متعلقة بحق الغير.
الثاني: ألا يكون معذوراً، بحيث يتمكن من أداء الواجب، ثم لم يفعله حتى مات، فعلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: العبادات المالية، ولا تخلو من أن تكون:
1 -
ديونًا لله من زكاة وكفارات ونذور: فيصح أداؤها عنه، وتبرأ بها ذمته؛ لعموم حديث ابن عباس رضي الله عنهما:«اقْضُوا الله، فَالله أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» [البخاري: 1852].
2 -
ديونًا للآدميين: فيصح أداؤها عنه وتبرأ بها ذمته؛ لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجنازة فقال: «هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ؟ » ، قالوا: نعم، قال:«صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» ، قال أبو قتادة: عليَّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه. [البخاري: 2295].
القسم الثاني: العبادات المركبة، وهي الحج والعمرة: فيصح فعلها عنه مطلقاً، سواء كانت واجبة بأصل الشرع أو بالنذر، وسواء كان مفرطاً أو غير مفرط؛ أما دليل قضاء ما وجب بأصل الشرع؛ فحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستوي على الراحلة فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: «نَعَمْ» [البخاري: 1854، ومسلم: 1334]، وأما قضاء ما وجب بالنذر؛ فلحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال:«نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا الله فالله أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» [البخاري: 1852].
القسم الثالث: العبادات البدنية المحضة، وهي:
1 -
الصلاة: ووجوبها لا يخلو من أمرين:
أ) إن كان الوجوب بأصل الشرع: فلا يصح قضاؤها عنه إجماعاً؛ لما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: «لَا يُصَلِّي أحدٌ عَنْ أَحَدٍ، ولَا يَصُومُ أَحَدٌ عَن أَحَدٍ» [السنن الكبرى للنسائي: 2930، وصحح إسناده الحافظ]، ولأنها لا تدخلها النيابة في الحياة، فكذا بعد الموت.
ب) إن كان الوجوب بالنذر: فيصح قضاؤها عنه؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن عبادة الأنصاري رضي الله عنه، استفتى النبي صلى الله عليه وسلم في نذر كان على
أمه، فتوفيت قبل أن تقضيه، «فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا» ، فكانت سُنّة بعد. [البخاري: 6698]، وأمر ابنُ عمر رضي الله عنهما امرأةً جعلت أمُّها على نفسها صلاةً بقباء، فقال:«صَلِّي عَنْهَا» [البخاري معلقاً بصيغة الجزم 8/ 142]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه. [البخاري معلقاً بصيغة الجزم 8/ 142، ووصله مالك: 1711].
2 -
الصيام: ووجوبه لا يخلو من أمرين:
أ) إن كان الوجوب بأصل الشرع كصوم رمضان والكفارة: فلا يصح الصوم عنه، وهو اختيار ابن القيم؛ لما تقدم في الصلاة الواجبة بأصل الشرع، بل يطعم عنه؛ لما سبق.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» [البخاري: 1952، ومسلم: 1147]، فيحمل على النذر جمعاً بينه وبين الآثار الواردة عن الصحابة، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:«إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ فِي رَمَضَانَ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَصُمْ أُطْعِمَ عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ» [أبو داود: 2401]، وصح عن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة قالت لها: إن أمي توفيت وعليها رمضان، أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت:«لَا، وَلَكِنْ تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ عَلَى مِسْكِينٍ، خَيْرٌ مِنْ صِيَامِكِ عَنْهَا» [شرح مشكل الآثار للطحاوي 6/ 178]، وكما أنه لا يصلي عنه ما وجب بأصل الشرع، فلا يصوم عنه ما وجب بأصل الشرع.
ولا يصح قياس ما وجب بأصل الشرع على ما وجب بالنذر؛ لأن الواجب بالنذر أخف من الواجب بأصل الشرع.
ب) إن كان الوجوب بالنذر: فيصح الصوم عنه، واختاره ابن القيم؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال:«أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدِّي ذَلِكِ عَنْهَا؟ » قالت: نعم، قال:«فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ» [البخاري: 1953، ومسلم: 1148]، ولما تقدم من آثار الصحابة، ولأن النذر التزام في الذمة بمنزلة الدَّين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه.
وعنه، واختاره ابن عثيمين: يصح قضاء الصيام عن الميت مطلقاً، سواء كان واجباً بأصل الشرع أو واجباً بالنذر؛ لأن الصيام أقرب إلى المماثلة من الإطعام، ولعموم حديث عائشة رضي الله عنها:«مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» ، وقوله:«صِيَامٌ» نكرة غير مقيدة بصوم معين، وحَمْلُ الحديث على النذر حمل له على ما هو نادر، والأدلة إنما تحمل على الغالب، ولا يخصص حديث ابن عباس، وهو قولها:«وعليها صوم نذر» ؛ لأنه ذكر لبعض أفراد العام، وذكر بعض أفراد العام بحكم يوافق حكم العام لا يقتضي التخصيص.
3 -
الاعتكاف: ولا يكون واجباً إلا بالنذر، فيصح قضاؤه عن الميت؛ لعموم حديث ابن عباسٍ السابق في قصة سعد بن عبادة رضي الله عنه، ولما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة نذرت أن تعتكف عشرة أيام، فماتت فلم تعتكف، فقال ابن عباس لابنها:«اعْتَكِفْ عَنْ أُمِّكَ» [ابن أبي شيبة: 12560].
4 -
الطواف: ولا يكون واجباً بانفراده عن حج وعمرة إلا بالنذر، فيصح قضاؤه عنه؛ لعموم حديث ابن عباس في قصة سعد بن عبادة، وقياساً على ما تقدم من العبادات البدنية المنذورة.
5 -
باقي العبادات المنذورة كالطهارة والذكر ونحوها - وهي لا تجب إلا بالنذر -: قال في الإنصاف: (ظاهر كلام المصنف - يعني: ابن قدامة -: أنه لا يفعل غير ما ذكر من الطاعات المنذورة عن الميت، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب)، وهو ظاهر ما في الإقناع والمنتهى.
واختار الخرقي وغيره: أنه يفعل عنه كل ما كان من نذر طاعة؛ لقصة سعد بن عبادة رضي الله عنه.
- فرع: قاعدة المذهب فيما يصح قضاؤه عن الميت وما لا يصح: أن الواجب لا يخلو من أمرين:
1 -
إن كان واجباً على الميت بأصل الشرع: فلا يصح قضاء ذلك عنه، إلا في أمرين:
أ) الحقوق المالية.
ب) الحج والعمرة.
2 -
(وَإِنْ كَانَ) واجباً (عَلَى المَيِّتِ) بـ (ـنَذْرٍ، مِنْ حَجٍّ، أَوْ صَوْمٍ، أَوْ صَلَاةٍ، ونَحْوِهَا) كاعتكاف وطواف: فإن تمكن الناذر من الفعل فإنه يقضى
عنه، وإن لم يتمكن من الفعل قبل الموت فلا يقضى عنه؛ لعدم وجوبه على الناذر، إلا الحج والعمرة والحقوق المالية كما تقدم، فيجب قضاؤها ولو لم يتمكن من أدائها. (1)
- فرع: اختار ابن القيم: أن المفرط في عبادة من العبادات من غير عذر لا ينفعه أداء غيره عنه، سواء كان ذلك صياماً أو حجًّا أو زكاةً؛ كما أنها لا تنفع توبة أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه؛ لأن العبادة مأمور بها ذلك الميت ابتلاء وامتحاناً دون الولي.
- فرع: القضاء عن الميت - فيما يصح فيه القضاء - لا يخلو من حالين:
1 -
ألا يكون للميت تركة: فـ (سُنَّ لِوَلِيِّهِ قَضَاؤُهُ)؛ لتبرأ ذمة الميت؛ كقضاء دينه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شبَّهه بالدَّين كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا الله فَالله أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» [البخاري: 1852، ومسلم: 1148]، ولا يجب القضاء عنه؛ لقوله تعالى:(ولا تزر وازرة وزر أخرى)[الأنعام: 164].
2 -
(وَ) إن كان (مَعَ) الولي (تَرِكَةٌ) للميت: فـ (يَجِبُ) على الولي أن
(1) كذا في الإقناع والمنتهى، وفي الإنصاف [3/ 341]:(هذه الأحكام كلها -وهو القضاء- إذا كان الناذر قد تمكن من الأداء، فأما إذا لم يتمكن من الأداء، فالصحيح من المذهب: أنه كذلك، فلا يشترط التمكن، وقيل: يشترط).