الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذا ما يكون منهم عند ذكر السلطان من قولهم بصوت مرتفع: آمين آمين، نصره الله وأدامه، وغير ذلك (فهو) بدعة سيئة وحرام.
لما تقدم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا والذى يقول له " أنصت" ليس له جمة (1)، ولما فيه من التهويش على المستمعين، وكثيراً ما يتكلف فى ذلك حسن الألحان فتنصرف الآذان عن سماع الخطبة، ويكره للخطيب التكلم حال الخطبة بكلام دنيوى كما فى الذان والإقامة بل أولى. ويكره له الإتيان بالكلمات الغربية والألفاظ البعيدة عنافهام السامعين (لقول) على رضى الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟ .أخرجه البخارى (2). (57).
(وعليه) فيطلب منالخطيب مراعاة حال الناس وتحذيرهم مما هم فيه غارقون منالبدع والمخالفات، وأن لا يلتزمفى خطبته الطرق العتيقة من التزامالسجع والاهتمام بتحسين اللفظ وترك ما تقتضيه حال الحاضرين، فإن التزام السجع قد يفوت عليه مقصوده، ولولاه لأدى كل إنسان مراده بما يقدر عليه فيعم النفع.
(6) منهاج الخطابة
(3)
هذا، وإنى ذاكر للقارئ الكريم نموذجاً من خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ليحذو حذوها فى الدعوة ونفع العامة، وليعلم أنالتزام السجع بالطريقة التى عكف عليها الخطباء ليس بحسن:
(1) تقدم رقم 146 ص 141 (الكلام حال الخطبة) و (اسفار) كحمل وهو الكتاب. شبه من تكلم حال الخطبة بالحمار يحمل الكتب بجامع عدم الانتفاع.
(2)
ص 160 ج 1 فتح البارى (من خص بالعلم قوماً) و (حدثوا إلخ) أى كلموا الناس علىقدر عقولهم و (يكذب) بفتح الذال مشددة، وذلك أن الشخص إذا سمع ما لم يفهمه منسوباً إلى الله ورسوله فلا يصدقه ويلزمه تكذيبهما.
(3)
هذا الفصل السادس فصول الجمعة.
(1)
اول خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة
قال ابن هشام فى سيرته: كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنى عن ابى سلمة بن عبد الرحمن أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد ايها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه: ألم يأتك رسولى فبلغك؟ وآتيتك مالا وافضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يميناً وشمالا فلا يرى شيئاً، ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته، وأخرجها ايضاص البيهقى (1). [209].
(2)
خطبة أخرى له صلى الله عليه وسلم
روى سعيد بن عبد الرحمن الجمحى أنه بلغه عن خطبة النبى صلى الله عليه وسلم فى أول جمعة صلاها بالمدينة فى بنى سالم بن عمرو بن عوف رضى الله عنهم:
الحمد لله، احمده وأستعينه وأستغفره، واستهديه وأومن له ولا أكفره، وأُعادى من يكفره، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة، على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى وفر وضل ضلالا بعيداً، وأُوصيكم بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا افضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة وعون وصدق على
(1) قدم رقم 183 ص 188 (خطبة الجمعة).
ما تبتغون من أمر الآخرة. ومن يصلح الذى بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوى بذلك إلا وجه الله، يكن له ذكراً فى عاجل امره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم. وما كان مما سوى ذلك يود له أن بينه أمداً بعيداً، وبحذركم الله نفسه، والله رءوف بالعباد. هو الذى صدق قوله وأنجز وعده لا خلف لذلك، فإنه يقول تعالى:{مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . واتقوا الله فى عاجل أمركم وآجله فى السر والعلانية. فإنه {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ، {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} . وإن تقوى الله توقى مقته وتوقى عقوبته وسخطه.
وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضى الرب، وترفع الدرجة. فخذوا بحظكم ولا تفرطوا فى جنب الله، فقد علمكم الله كتابة، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين دقوا وليعلم الكاذبين. فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا فى الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى منحى عن بينة " ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعلموا لما بعد الموت، فإنه من اصلح ما بينه وبين الله يكفيه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضى عل الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
(قال) ابن كثير فى البداية: هكذا أوردها ابن جرير. وفى السند إرسال (1). [210].
(1) ص 213 ج 3 البداية والنهاية. و (فترة) بفتح فسكون: أى على انقطاع بعثهم ودروس أعلام دينهم. و (الذكرى)(الموعظة والتذكير. و 0 نفسه) أى عقوبته. و (السخط) بفتحتين وبفتح فسكون: الغضب. و (جنب الله) أمره وحده الذى حده. و (حق الجهاد) الإخلاص فى النية والعمل. وقال ابن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى. (روى 9 فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: المجاهد من جاهد نفسه فى الله. اخرجه أحمد والترمذى وصححه (24) انظر ص 20 ج 6 (مسند فضالة بن عبيد) وص 2 ج 3 تحفة الأحوذى (فضل من مات مرابطاً).
(3)
خطبة أخرى للنبى صلى الله عليه وسلم
قال ابن غسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى فقال:
إن الحمد لله، أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، واشهد أن لا غله إلا الله ولا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله تعالى، قد افلح من زينه الله فى قلبه، وأدخله فى الإسلام بعد الكفر، واختاره على وأحبوا الله من أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وابلغه. حبوا منأحب الله وأحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ذكرها ابن هشام وأبو بكر الباقلانى وابن كثير وقال: وهذه الطريق أيضاً مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها (1). [211].
(4)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى التوبة والعمل
(قال) جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على منبرة يقول:
يايها الناس: توبوا على ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، ولوا الذى بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له، وكثرة
(1) ص 15 ج 2 هامش الروض الأنف. وص 214 ج 3 البداية والنهاية. وص 62 إعجاز القرآن. و (أحبوا الله .. إلخ) المراد أن يستغرق حب الله جميع أجزاء القلب فكون ذكره وعمله خارجاً من قلبه خالصاً لله. وإضافة الحب إلىالله تعالى من عبده مجاز حسن، لأن حقيقة المحبة إرادة يقارنها تعلق بالمحبوب طبعاً أو شرعاً.
الصدقة فى السر والعلانية، ترزقوا وتؤجروا وتنصروا وتحمدوا وتجبروا.
واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة فى مقامى هذا، فى يومى هذا، فى شهرى هذا، فى عامى هذا، إلى يوم القايمة، فريضة مكتوبة من وجد إليها سبيلا، فمن تركها فى حياتى أو بعد مماتى جحوداً بها واستخفافاً بحقها، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له فى أمره، ألا ولا صلاة له. ألا ولا صوم له. ألا ولا ضوء له. ألا ولا حج له. ألا ولا صدقة له، ألا ولا زاة له، ألا ولا بر له حتى يتوب. من تاب، تاب الله عليه، ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأة رجلا، ولا يؤمّ أعرابى مهاجراً، ولا يؤمّ فاجر مؤمناً إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه.
أخرجه ابن ماجه والبيهقي والباقلانى. وفى سنده عبد الله بن محمد العذري عن على بن يزيد بن جدعان، وهما ضعيفان (1).
[212]
.
(5)
خطبة له صلى الله عليه وسلم
وخطب النبى صلى الله عليه وسلم أيضا فقال:
أيها الناس: إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، إن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدرى ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقى لا يدرى ما الله تعالى قاض عليه فيه، فليأخذ العبد لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت. والذى نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا دار
(1) ص 173 ج 1 سنن ابن ماجه (فرض الجمعة) وص 171 ج 3 سنن البيهقى (كتاب الجمعة) وص 62 إعجاز القرآن.
إلا الجنة أو النار. ذكره الباقلانى (1). [213].
(6)
خطبة جامعة له صلى الله عليه وسلم
قال أبو سعيد الخدري رضى الله عنه: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بعد العصر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أما بعد) فإن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، ألا إن بنى آدم خلقوا على طبقات شتى: منهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت مؤمناً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت كافراً، ومنهم من يولد مؤمناً ويحيا مؤمناً ويموت كافراً، ومنهم من يولد كافراً ويحيا كافراً ويموت مؤمناً. الا إن الغضب جمرة توقد فى جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فالأرض الأرض. إلا عن خير الرجال من كان بطئ الغضب، سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب، بطئ الرضا. فإذا كان الرجل بطئ الغضب، بطئ الفئ، وسريع الغضب، وسريع الفئ، فإنها بها.
ألا إن خير التجار من كان حسن الفضاء، حسن الطلب، وشر التجار من كان سئ القضاء، سئ الطلب. فإذا كان الرجل حسن القضاء، سئ الطلب، او كان سئ القضاء، سئ الطلب، فإنها بها. ألا إن لكل غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته. ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة. ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه. ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. ألا إن مثل ما بقى من الدنيا فيما مضى منها مثل ما بقى من يومكم هذا فيما مضى منه.
(1) ص 62 إعجاز القرآن. و (معالم) جمع معلم كمذهب، وهو فى الأصل الدليل فىالطريق والمراد به هنا حدود الشريعة المطهرة ز و (مستعتب) اسم مفعول من استعتب أى طلب الرضا، أى ليس بعد الموت استرضاء، لأنه وقت جزاء لا وقت عمل.
أخرجه أحمد والترمذي والحاكم. وفيه على بن زيد بن جدعان، ضعيف (1). [
214].
(1) انظر ص 19 ج 3 (مسند أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه) وانظر رقم 1610 ص 179 ج 2 فيض القدير. و (خضرة) بفتح فكسر: شبه النبى صلى الله عليه وسلم الدنيا من حيث الرغبة فيها والتكالب عليها والميل بالكلية إليها بفاكهة (خضرة) المنظر (حلوة) المذاق. ولا ريب ان الخضرة فى ذاتها محببة للنفوس، مذهبة للبؤس، تسر بها النواظر، وتنشرح منها الخواطر، وإذا كان كل من الخضرة والحلاوة محبباً للنفوس منفداً فكيف بهما إذا اجتمعا؟ (فاتقوا الدنيا) اى احذروها فإنها إن أقبلت بلت، وإن أدبرت برت (واتقوا النساء) أى الافتتان بهن فإنهن حبائل الشيطان وفخوخه ولا دين لهن ولا عقل عندهن، وإن كان القليل منهن عادبات صابرات قانتات تائبات، غير أن الحكم عادة للغالب (وفى الحديث) يا معشر النساء تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإنى رايتكن أكثر اهل النار. فقالت امرأة منهن جزلة (بفتح فسكون أى ذات رأى) ومالنا يا رسول الله اكثر اهل النار. قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رايت من ناقات عقل ودين اغلب لذى لب منكن. قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امراتين تعدل شهادة رجل، فهذا من نقصان العقل، وتمكث الليالى ما تصلى، وتفطر فى رمضان، فهذا من نقصان الدين. أخرجه أحمد وابن ماجه عن ابن عمر والبخارى عن ابى سعيد (25) انظر ص 66 ج 2 (مسند ابن عمر) وص 251 ج 2 سنن ابن ماجه (فتنة النساء) وص 279 ج 1 فتح البارى (ترك الحائض الصوم) و (منهم من يولد مؤمناً إلخ) الفريق الأول هم السعداء فى الدارين. والفريق الثانى هم الأشقياء وإن نعموا بمظاهر الحياة وزخرفها .. والفريق الثالث هو الذى يسبق عليه الكتاب فيعمل ظاهراً عمل البرار وحقيقته أنه رياء وشرك حتى يموت علىما عليه الكفار، والفريق الرابع من يثوب إلى رشده ويتوب من ذنبه ويعمل عمل الأتقياء البررة حتى يموت على الإيمان فيختم له بالسعادة. (ففى الحديث) إذا اراد الله بعبد خيراً استعمله، قيل: وما استعمله؟ قال: يفتح له عملا صالحاً بين يدى موته حتى يرضى عنه من حوله.
أخرجه احمد والحاكم عن عمرو بن الحمق (26) انظر ص 244 ج 5 مسند أحمد (حديث عمرو بن الحمق الخزاعى) وص 340 ج 1 مستدرك. واخرج نحوه الحاكم وصححه عن أنس بن مالك و (توقد) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً، أى تستعر (فالأرض الأرض) اى فيلزمها وليجلس إن كان قائماً، او ليضطجع إن كان جالساً.
فإن فى تغيير الحالة التى كان عليها إذهاباً لحدة غضبه، وتهدئة لمضطرب أعضائه و (بقدر غدرته) فإن كانت غدرته كبيرة فلواؤه كبير، وغن كانت غدرته صغيرة فلواؤه صغير وهو عبارة عن فضيحته يوم القيامة حيث الخلائق مجتمعون. و (أن يكلم بالحق إذا علمه) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مطلوبان بشروطهما التى منها سلامة العاقبة (ومنها) أن يكون الأمر بالمعروف ورفق ولين. قال تعالى:" يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور ولا تصعر خدك للناس ولا تمشى فى الأرض مرحاً، إن الله لا يحب كل مختال فخور "(سورة لقمان) آيتا 17، 18.
(7)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى وصف الدارين
روى شداد بن أوس انه صلىالله عليه وسلم خطب يوماً فقال:
ألاإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، ألا وإن الآخرة اجل صادق، يقضى فيها ملك قادر. ألا وغنالخير كله بحذافيره فى الجنة. ألا وإن الشر كله بحذافيره فى النار. واعلموا وأنتم منالله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم، وانكم ملاقوا الله ربكم لابد " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره".
أخرجه البيهقي، وأخرج الطبرانى فى الكبير صدره إلى قوله: وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، يحق الحق ويبطل الباطل. أيها الناس: كونوا أبناء الآخرة ولا تكونوا ابناء الدنيا، فإن كل أم يتبعها ولدها.
وفى سند الطبرانى أبو مهدي سعيد بن سنان وهو ضعيف جداً. واخرج الشافعي صدره من حديث عمرو بن العاص (1). [215].
(1) ص 216 ج 3 سنن البيهقى (كيف تكون الخطبة) وص 188 ج 2 مجمع الزوائد (الخطبة والقراءة فيها) وص 164 ج 1 بدائع المنن.
(8)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى الاتباع
روى عقبة بن عامر الجهنى أن النبى صلى الله عليه وسلم حمد الله واثنى عليه ثم قال:
(أما بعد) فإن اصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، واشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، واشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتى الصلاة إلا دبراً، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجراً نوأعظم الخطاياي اللسان الكذوب، وخير ما وقر فى القلوب اليقين والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من جثا جهنم، والكنز كى منالنار، والشعر من مزامير إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقى من شقى فى بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع اربع اذرع، والأمر بىخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، واكل لحمه من معصية الله وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتال على الله يكذبه، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن ي 2 صير على الرزية يعوضه الله، ومن يتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه. اللهم اغفر لى ولأمتي. اللهم اغفر لى ولأمتي. استغفر الله لى ولكم.
أخرجه البيهقي فى الدلائل وابن عساكر (1). [216].
(9)
خطبة له صلى الله عليه وسلم جامعة
روى ابن مسعود أن النبي صلى اللهعليه وسلم حمد الله واثنى عليه، ثم قال:
(أما بعد) غنما هما اثنتان: الكلام والهدى، فأحسن الكلام كلام الله، وأحسن الهدى هدى محمد .. ألا وإياكم ومحدثات الأمور، فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاللاة .. ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم .. ألا عن كل ما هو آت قريب، وغنما البعيد ما ليس بىت .. ألا إنما الشقى من شقى فىبطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره .. الا إن قتال
(1) انظر رقم 1609 ص 185 ج 2 فيض القدير. و (عوازم) جمع عزيمة وهى الفرائض التى فرضها الله، وقيل هى ما وكدت رايك وعزمك عليه ووفيت بعهد اله فيه، والعزم: الصبر. و (الدبر)(بضمتين أو بفتحتين: آخر الش، اى لا يصلون غلا بعد فوات الوقت. و 0 الهجر) بفتح فسكون: الترك والإعراض، والمراد هجر القلب وترك الإخلاص فى الذ، فكأن قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له. و (الغلول) بفتح أوله: الخائن فى الغنيمة. و (جثا) بضم الجيم مقصوراً جمع جثوه بتثليث الجيم، وهى فى الصل الحجارة المجموعة، والمراد أنه من جماعة جهنم. و (الكنز) المال الذى لم تؤد زكاته يكوى به جلد صاحبه يوم القيامة (قال تعالى):" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم، يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" سورة التوبة: آية (34، 35). وفى الحديث: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدى منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره " در حديث أخرجه أحمد ومسلم وابو داود (27) يأتى رقم 9 ص 86 ج 8 الدين الخالص (منع الزكاة). و (الروايا) جمع راوية، أى نافل أى الذين ينقلوه الكذب. و (يتأل) من التأل وهو الحلف. يقال: تألى على الله، أى حلف ليغفرن الله له. و (السمعة) بالضم ك الرياء، أى من سلك سبيل الرياء شهر الله به وأظهر للناس أن عمله لم يكن خالصاً.
المؤمن كفر، وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث .. ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح لا بالجدل ولا بالهزل، ولا يعد الرجل صبيه فلا يفى له، وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الصدق يهدى إلىالبر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإنه يقال للادق صدق وبر، ويقال للكاذب كذب وفجر .. ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً.
اخرجه ابن ماجه بسند جيد (1). [
217].
(1) ص 12 ج 1 سننابن ماجه (اجتناب البدع والجدل) ط فقسوا قلوبكم " كما استطال اهل الكتاب فخلعوا ربقة الدين منأعناقهم. قال تعالى: " ولا توكونوا" (بالتاء وهى قراءة عيسى وابن اسحاق) " كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم " عجز الاية 19 الحديد وصدرها: " ألم يأن للذين آمنوا". و (إنما الشقى من شقى فى بطن أمه) أى من قدر كونه شقياً فى أصل خلقته فشقى حيقية (روى) ابن مسعود أن النبى صلى الله عليهوسلم قال: "إن أحدكم يجمع خلقه فى بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضعفة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل الجنة " أخرجه الستة (28) انظر رقم 2179 ص 413 ج 2 فيض القدير. و (قتال المؤمن كفر) اى حرام كالكفر، أو محمول على من استحل ذلك، أو هو مؤد إليه (روى) أبى بكرة أنالنبى صلى الله عليه وسلم قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل احدهما صاحبه فالقاتل والمقتول فىالنار " قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائى (29) انظر رقم 435 ص 300 ج 1 (فيض القدير)، (وسبابه فسوق) أى أن شتمه خروج عن طاعة الله تعالى وليس هو من صفات المؤمنين (روى) ابن مسعود أنالنبى صلى الله عليهوسلم قال: " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذئ "أخرجه أحمد وابن حبان فى صحيحه والحاكم (30) انظر رقم 7584 ص 360 ج 5 فيض القدير. و (أن يهجر) محل حرمة الهجر فوق ثلاث ما لم. يكن هجره لله تعالى وإلا فلا، والدليل عليه قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وقد نظم هذا بعضهم فقال:
يا هاجرى فوق الثلاث بلا سبب
…
خالف شرع المصطفى ازكى العرب
هجر الفتى فوق الثلاث محرم
…
ما لم يكن فيه لمولانا سبب
(10)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى التنفير من الغفلة
روى علىّ كرم الله وجهه أن النبى صلى الله عليه وسلم حمد الله واثنى عليه وقال:
(أما بعد) أيها الناس: كأن الموت فيها على غيرنا قد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب، وكأن الذى نشيع من الأموات سفر عما قليل إلينا راجعون، نبؤئهم أجداثهم، ونأكل من تراثهم كأنا مخلدون بعدهم، قد نسينا كل واعظة، وأمنا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، واستقامت طويته، طوبى لمن تواضع لله فى غير منقصة، وأنفق مالا جمعه فى غير معصية نوجالس اهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة.
ذكره العاملى وأبو نعيم (1). [218].
(11)
خطبة له صلى الله عليه وسلم بمنى
وخطب صلى الله عليه وسلبم بالخيف من منى فقال:
نصر الله عبداً سمع مقالتى فوعاها ثم أدّاها إلى من لم يسمعها، فرب حامل
(1) ص 344 ج 2 كشكول (وأجداث) جمع جدث وهو القبر، أى ننزلهم مقابرهم و (الجائحة) الافة المهلكة، يقال: جاحت الآفة المال تجوحه، من باب قال إذا أهلكته ..
فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو افقه منه. ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، والنصح لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن دعوتهم تحوط من وراءهم.
أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم عن جبير بن مطعم، وابو داود وابن ماجه عن زيد بن ثابت. وذكره القاضى أبو بكر الباقلانى عن زيد بن ثابت، وزاد: ومن كان همه الآخرة، جمع الله شمله، وجعل غناه فى قلبه، وأتته الدنيا وهى راغمة. ومن كان همه الدنيا، فرق الله أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له (1). [
219].
(12)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى تذكر الموت
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله واثنى عليه ثم قال:
أيها الناس: أكثروا من ذكر هازم اللذات، فإنكم إذا ذكرتموه فى ضيق وسعه ليكم فرضيتم به فأجرتم، وإن ذكرتموهفى غنى بعضه إليكم فجدتم به فأثبتم. إن المنايا قاطعات الآمال والليالى مدنيات الآجال. وإن العبد بين يومين، يوم قد مضى أحى فيه عمله فختم عليه، ويوم قد بقى لا يدرى لعله لا يصل إليه. إن العبد عند خروج نفسه وحلول رمسه يرى جزاء ما اسلف، وقلة غناء ما خلف، ولعله من باطل جمعه أو من حق منعه.
(1) ص 81 ج 4 مسند أحمد (حديث جبير بن مطعم .. ) وص 52 ج 1 سنن ابن ماجه (من بلغ علماً) وص 88 ج 1 مستدرك. وص 322 ج 3 سنن أبى داود.
(فضل نشر العلم) وص 63 إعجاز القرآن. (الخيف) بفتح فسكون: ما ارتفع من الوادى قليلا. وبه سمى مسجد منى لأنه بنى فى سفح الجبل و (نضر) من النضرة والنضارة وهى الحسن. و (لا يغل) أى لا يحقد، يقال: غل صدره يغل من باب ضرب غلا بكسر أوله، وهو الحقد والضغينة ..
أيها الناس: عن فىالقناعة لغنى، وغن فى الاقتصصاد للغة، وإن فى الزهد لراحة، ولكل عمل جزاء، وكل آت قريب.
ذكره بهاء الدين محمد العاملى (1). [220].
(13)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى فضل رمضان
قال سلمان الفارسي رضى الله عنه: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آخر يوم من شعبان قال:
يأيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من تقرب فيه بخصلة كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة. وشهر المواساة، وشهر يزاد فى رزق المؤمن فيه. من فطر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقتبه من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شئ.
قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلنا يجد ما يفطر الصائم. فقال رسول الله صلى الله عليهوسلم: يعطى الله هذا الثواب من فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن. وهو شهر أوله رحمة، واوسطه مغفرة، وآجره عتق من النار، من خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما: فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما بكم، فشهادة أن لاإله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما، فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار. ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضى شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة.
(1) ص 89 كشكول (من خطبة للنبى صلى الله عليه ولم) وص 339.رواه هنا عن ابن عباس رضى الله عنهما مرفوعاً. و (الرمس 9 بفتح فسكون: التراب سمى به القبر. و (الغناء) بفتحتين: الاكتفاء، اى يرى قلة كفاية ما ترك. و (البلغة) بضم فسكون: ما يتبع به من العيش ..
أخرجه ابن خزيمة فى صحيحه. وقال: إن صح الخبر. قال المنذرى: وفى سنده على بن زيد بن جدعان ضعيف (1). [221].
(14)
خطبة له صلى الله عليه وسلم في وصف الدنيا
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:
الدنيا دار بلاء ومنزلة بلغة وعناء، قد نزعت عها نفوس السعداء، وانتزعت بالكره من أيدى الشقياء. فاسغد الناس بها ارغبهم عنها، واشقاهم بها أرغبهم فيها، فهى الغاشة لمن استنصحها، والمغوية لمن أطاعها.
الفائز من أعوض عنها، والهالك من هوى فيها. طوبى لعبد اتقى فيها ربه، وقدم توبته، وغلب شهوته من قبل أن تلقيه الدنيا إلى الآخرة، فيصبح فى بطن موحشة غبرغاء مدلهمة ظلماء، لا يستطيع أن يزيد فى حسنة ولا ينقص من سيئة، ثم ينشر فيحشر إما إلى جنة يدوم نعيمها، أو إلى نار لا ينفذ عذابها.
ذكره العاملى (2). [222].
(15)
خطبة له صلى الله عليه وسلم فى التنفير من الدنيا
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:
ايها الناس: عن هذه الدار دار التواء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح. فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء. الا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الاخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فليأخذ ليعطى ويبتلى ليجزى. إنها لسريعة الذهاب، وشيكة الانقلاب. فاحذروا حلاوة رضاعها
(1) اانظر ص 67 ج 7 (الترغيب فى صيام رمضان) و (المذقة) بفتح فسكون: للشربة.
(2)
ص 214 كشكول (أول الجزء الثالث) و (مدلهمة) يقال: ادلهم الظلام كثف وأسود. ومدلهم مبالغة.
لمرارة فطامها، واحذروا لذيذ عاجلها لكريه آجلها، ولا تسعوا فى تعمير دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها - فقد أراد الله منكم اجتنابها- فتكونوا لسخطه متعرضين، ولعقوبته مستحقين. ذكره العاملى. [223].
(16)
خطبة حجة الوداع
وفى حجة الوداع خطب النبى صلى الله عليه وسلم الناس بمنى فقال:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادى له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. أُوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، وأستفتح بالذى هو خير.
(وأما بعد) ايها الناس: اسمعوا منى أُبيَّن لكم، فإنى لا أدرى لعلى لا القاكم بعد عامى هذا فى موقفى هذا.
ايها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، فى شهركم هذا، فى بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسالكم عن أعمالكم، وقد بلغت. فمن كانت عنده أمانة فليؤدها على من ائتمنه عليها. وإن كل رباً موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا. إن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله. وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع. وإن أول دمائكم أضع دم ابن وبيعة بن الحارث بن عبد المطلب - وكان مسترضعاً فى بنى ليث فقتله هذيل- فهو اول ما أبدأ به من دماء الجاهلية. وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية. والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والخنجر وفيه مائة بعير. فمن زاد فهو من أهل الجاهلية.
ايها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعيد بأرضكم هذه ابداً، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون منأعمالكم، فاحذروه على دينكم.
ايها الناس: إنما النسئ زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله، فيحلوا ما حرم الله، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. وغن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.
ايها الناس: إن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرُشكم احداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مُبّرح، فإن انتهين وأطعنكم فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وغاستوصوا بالنساء خير اً، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهم شيئاً. وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. فاتقوا الله فى النساء واستوصوا بهن خيراً.
فاعقلوا ايها الناس قولى، فإنى قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا ابداص، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه.
أيها الناس: اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُنَّ أنفسكم. اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الهم أشهد، فلا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم أعناق بعض.
أيها الناس: إن ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربى على عجمى فضل إلا بالتقوى. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: فليبلغ الشاهد منكم الغائب.
أيها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا يجوز
لوارث وصية، ولا نجوز وصية فى أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. من ادعى إلى غير ابيه أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ذكره ابن هشام مختصراً وابن عبد ربه فى العقد مطولا (1). [
224].
(1) ص 351 ج 2 الروض الأنف (حجة الوداع) وص 357 ج 2 العقد الفريد (خطبة حجة الوداع) و (ابن ربيعة) هو إياس او حارثة، كان طفلا صغيراً يحبو بين البيوت فاصابه حجر فى حرب كانت بين بنى سعد وبنى ليث من قبائل هذيل، و (النسئ) التأخير: كانت الجاهلية تعتقد حرمة الأشهر الحرم وتعظمها، وكانت معائشهم من الصيد والغارة، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، فيستحلون المحرم ويحرمون صفراً، فإن احتاجوا إلى القتال فيه أخروا التحريم إلى ربيع الأول. وهحكذا شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، وكانوا يعتبرون التحريم مرد العدد لا خصوص الشهر المعلومة. و (زيادة فى الكفر) أى كفر ضم على كفر (ليوطئوا) أى ليوافقوا عدة الأشهر الحرم وربما زادوا عدد الشهور بجعلها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت، ويجعلون أربعة أشهر منها حراماً كما يريدون، وكانوا يحجون فى كل شهر عامين، فحجوا فى ذى الحجة عامين والمحرم كذلك، وهكذا باقى الشهور. ولما حج رسول الله لىالله عليهوسلم حجة الوداع وافقت شهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، فوقف بعرفة فى اليوم التاسع وخطب الناس فى اليوم العاشر بمنى هذه الخطبة. وإنما قال (رجب مضر إلخ) لأن ربيعة كانت تحرم بالحج فى رمضان وتسميه رجباً من رجبت الرجل عظمته، فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة. و (ألا يوطئن إلخ) أى لا ياذن فى دخول بيوتكم أحداً تكرهون دخوله ولو من محارمهن. وليس المراد به الخلوة بالرجال ولا الزنا، لأنه حرام وإن لم يكرهه الزوج. و (عوان) جمع عانية وهى المرأة: من عنا يعنو، أى خضع وذل، والعانى: الأسير. و (كلمة الله) الإيجاب والقبول، وقيل كلمة التوحيد، إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم (وللعاهر) أى وللزانى الخيبة والذل. ولا حق له فىالولد، وإنما الولد لصاحب الفراش وهو الزوج أو السيد .. وقيل بالحجر الرجم. و (الصرف) التوبة، و (العدل) الفدية.
(17)
آخر خطبة له صلى الله عليه وسلم
قال الفضل بن عباس رضى الله عنهما: أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداص وقد عصب راسه، فقال: خذ بيدى يا فضل، فأخذت بيده حتى قعد على المنبر، ثم قال: ناد في الناس يا فضل.
فناديت الصلاة جامعة، فاجتمعوا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال.
(أما بعد) أيها الناس: إنه قد دنا منى خلوف من بين أظهركم، ولن تروني فى هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مراراً، ألا فمن كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يقولن قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي.
وإن أحبكم إلىّ من أخذ منى حقاً إن كان له علىّ، أو حللنى فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عندي مظلمة.
فقام رجل فقال: يا رسول الله لى عندك ثلاثة دراهم. فقال: أماأنا فلا أكذب قائلا ولا مستخلفه على يمين، فيم كانت لك عندى؟ قال: أما تذكر أنه مر بك سائل فامرتنى فاعطيته ثلاثة دراهم؟ قال: أعطه يا فضل.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأيها الناس من عنده من الغلول شئ فليرده. فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله.
قال: فلم غللتها؟ قال: كنت إليها محتاجاً. قال: خذها منه يا فضل.
ثم قال: يأيها الناس من أحسن من نفسه شيئاً فليقم أدعو الله له. فقام رجل وقال: يا رسول الله إني لمنافق، وإني لكذوب، وإني لشئوم. فقال عمر بن الخطاب: ويحك ايها الرجل لقد ترك الله لو سترت على نفسك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا بن الخطاب، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة. اللهم ارزقه صدقاً وإيمانا، واذهب عنه الشؤم.
أخرجه البيهقي وفى سنده ومتنه غرابة شديدة. قاله ابن كثير (1). [225].
(وعلى الجملة) فخطب النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة غزيرة المعاني، جمة الفوائد. وقد تقدم له خطب أخرى. وفيما ذكر نفع وغناء، ولمن اقتنع مزيد إقناع.
خطبة الصديق يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم.
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ذهل الناس ذهولا عظيما، واختلط عليهم أمرهم، واضطرب حالهم، حتى إن عمر بن الخطاب - وهو الطود العظيم - اختلط وصار يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفنى المنافقين. وتهدد من قال إنه قبض. وسل سيفه وقال: من قال إن محمداً قد مات ضربت عنقه، وأقعد على، وأخرس عثمان رضى الله عنهم، وأضنى (3) عبد الله بن أنيس. ولم يكن في الصحابة أثبت من أبى بكر الصديق رضى الله عنه، والعباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بالسنح، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله عليه وسلم، وليبعثنه الله صلى الله عليه وسلم، وليبعثه الله فليقطعن.
(1) ص 231 ج 5 البداية والنهاية (آخر خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم و (خلوف) بضمتين: أى قرب تخلفى عنكم فلا احضركم لموتى. وفى رواية خفوق بضمتين أى غياب، يقال: خفق النجم يخفق خفوقاً إذا غاب. و (الغلول) مصدر غل من باب قعد، أى خان فى الغنيمة وغيرها. وكانت هذه الخطبة قبل وفاة النبى صلىالله عليه وسلم بخمس ليال يوم الخميس.
(2)
كان ذلك ضحوة يوم الإثنين الثلث عشر من ربيع الأول سنة 11 هجرية (8 يونيو سنة 632 م).
(3)
أي أصابه الضنا وهو مرض يتولد من وجع القلب، ولم يزل رضى الله عنه مريضاً به حتى مات كمدا سنة 54 هـ.
أيدي رجال وأجلهم. فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله عليه وسلم وقبله وقال: بأبي وأمي، طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك. فلما تكلم أبو بكر جلس عمر. فحمد الله أبو بكر وأثني عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. وقال:(إنك ميت وأنهم ميتون) وقال: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله الشاكرين). قال: فنشج الناس يبكون (الأثر) أخرجه البخاري (1)(58)
وروي أبو سليمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس فقال: اجلس يا عمر. فأبى عمر أن يجلس. فأقبل الناس إليه وتركوا عمر. فقال أبو بكر: (أما بعد)(من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان منكم يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله وما محمد إلا رسول قد خلت من قلبه الرسل)
…
إلى (الشاكرين).
(قال) ابن عباس: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
وقال عمر: والله ما هو إلا أن سميت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات. أخرجه البخاري (2). (59)
(1) ص 20 ج 7 فتح الباري (فضل أبى بكر رضى الله عليه .... ). و (النسخ) بضم فسكون: موضع قرب المدينة كان به مسكن الصدق. و (نشج) الباكي ينشج من باب ضرب: غص بالبكاء بلا صوت.
(2)
ص 102 ج 8 فتح الباري (مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته
…
).
(19)
خطبة للصديق بعد البيعة.
ولما ولي الخلافة قام خطيباً، فحمد الله وأثني عليه بالذي هو أهله، ثم قال:
(أما بعد) أيها الناس، فإني قد وليت عليهم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأتن فقوموني. الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عند حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا أخذلهم الله بالذل. ولا تشيع فاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإذا عصمت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
ذكره الحافظ ابن كثير بسند صحيح. وابن الأثير وكذا الباقلاني بلفظ: قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أما بعد) فإني وُليِّت أمركم ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم وعلَّمَنا فعلِمْنا. واعلموا أن أكيس الكيس التقى، وأن أحق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن زِعْت فقومني (1). (60)
(20)
خطبة للصديق يوم الجمعة.
وخطب رضى الله عنه في ثاني يوم البيعة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(1) ص 301 ج 6 البداية والنهاية (خلافة أبي بكر رضى الله عنه .. ) و 126 ج 2 تاريخ الكامل (حديث الثقيفة وخلافة أبي بكر) وص 65 إعجاز القرآن: و (الحمق) يضم فسكون وبضمتين: قلة العقل. و (الكيس) بفتح فسكون ضد الحمق: و (زغت) بكسر فسكون: أي ملت.
أيها الناس: إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله عليه وسلم يطيق. إن الله اطفي محمداً على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع. فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله عليه وسلم قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوْط فما دونها. ألا وإنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله. فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوماً نسوا في مهل آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم (فإياكم أنى تكونوا أمثالهم، الجد الجد، والنجاء النجاء، والوحا الوحا، فإن وراءكم طالبا حثيثاً، أجلا مُرّه سريع. احذروا الموت، واعتبروا بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطون به الأموات. ذكره ابن كثير والطبري (1). (61)
(21)
خطبة للصديق في الإخلاص والاعتبار.
وخطب أيضا، فحمد الله وأثني عليه ثم قال:
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أُريد به وجهه، فأريدا الله بأعمالكم. واعملوا أن أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها، وحظ ظفر ثم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم.
اعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا في من كان قبلكم، أين كانوا أمس؟ وأين هم اليوم؟ أين الجبارون الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في الوطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميماً،
(1) ص 303 ج 6 البداية، و 211 ج 3 تاريخ الطبري (الخبر في أمر الإمارة) و (المظلمة) بكسر اللام: ما أخذه الظالم، وبفتحها مصدر ظلم. و (النجاء والوحا) الإسراع، يقال: وحي وتوحي: أسرع. و (الغبطة تمني مثل ما للغير من غير أن يريد زوال نعمته عنه.
قد تركت عليهم القالات الخبيثات، إنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا ونسى ذكرهم وصاروا كلا شيء. ألا وإن الله عز وجل قد أبقي عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات، ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفاً بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا مثلهم، أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا تراثاً، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً. أين من تعرفون من آباءكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه، وأقاموا للشقوة أو السعادة فيما بعد الموت. ألا إن الله لا شريك له. ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيراً، ويصرف به عنه سوءاً إلا بطاعته واتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون، وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته. أما آن لأحدكم أن تحسر عنه النار ولا تبعد عنه الجنة.
ذكره ابن كثير والطبري (1)(62).
(22)
خطبة في التقوي والامتثال
عن موسى بن عقبة أن أبا بكر خطب فقال:
الحمد لله رب العالمين، احمده وأستعينه، وأسأله الكرامة فيما بعد الموت، وأشهد أن لا اله إلا اله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً وسراجا منيراً " لينذر من كان حياً ويحق القول علي
(1) ص 303 ج 6 البداية. وص 211 ج 3 تاريخ الطبري. و (القالات) جمع قالة، وهي والقيل والقال تكون في الخير. و (الوضاء) بكسر الواو جمع وضئ وهو الحسن والنظيف. و (الركز) بكسر فسكون: الصوت الخفي. و (تحصر) أي تبعد، يقال: حصر من باب قعد، إذا نضب عن موضعه.
الكافرين "، (من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). أوصيكم بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، فإنه جوامع هدى للإسلام بعد كلمة الإخلاص. السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أفلح وأدي الذي عليه من الحق. وإياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من تراب؟ ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي وغداً ميت. فاعملوا يوماً بيوم
، وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعدوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر. واحذروا فالحذر ينفع، واعملوا فالعمل يقبل، واحذروا ما حذركم اله من عذابه. وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته، وافهموا تفهموا واتقوا تقوا، وإن الله قد بين لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجا به من نجا قبلكم. قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يجب من الأعمال وما يكره. واعملوا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم واغتبطتم. وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم تستوفوا، بسلفكم، وتعطوا جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها. ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وأحلوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت. إن الله له شريك وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيراً، النار، ولا شر في شر بعده الجنة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أخرجه ابن أبي الدنيا وابن عساكر. (63)
(23)
خطبة جامعة للصديق
وخطب رضى الله عنه لسنة 13 هجرية فقال:
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأومن به وأتوكل عليه، وأستهدي الله بالهدي. وأعوذ به من الضلالة والردى، ومن الشك والعمى
(من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل الله فلن تجد له ولياً مرشداً)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت وهو حي لا يموت، يعز من يشاء، بيده الخير وهو على كل شئ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدي ودين الحق، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إلى الناس كافة رحمة لهم وحجة عليهم، والناس حينئذ على شر حال في ظلمات الجاهلية، دينهم بدعة، ودعوتهم فرية، فأعز الله الدين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وألف بين قلوبكم أيها المؤمنون فأصبحتم نعمته إخواناً، (وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)، فأطيعوا الله ورسوله، فإنه قال عز وجل:(من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً).
(أما بعد) أيها الناس: إني أوصيكم بتقوى الله العظيم في كل امر وعلى كل حال، ولزوم الحق فيما أحببتم وكرهتم، فإنه ليس فيما دون الصدق من الحديث خير، ومن يكذب يفجر، ومن يفجر يهلك، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من التراب وإلى التراب يعود؟ هو اليوم حي وغداً ميت. فاعملوا وعدوا أنفسكم في الموتى. وما أشكل عليكم فردوا علمه إلى الله، وقدموا لأنفسكم خيراً تجدوه محضراً، فإنه قال عز وجل:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذركم الله نفسه، والله رؤوف بالعباد".
فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، واعتبروا بمن مضى قبلكم، واعلموا أنه لابد من لقاء ربكم، والجزاء بأعمالكم صغيرها وكبيرها، إلا ما غفر الله، إنه غفور رحيم، فأنفسكم أنفسكم، والمستعان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله "إن الله وملائكته يصلون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً" اللهم صلى على محمد عبدك ورسولك أفضل ما صليت على
أحد من خلقك، وزكنا بالصلاة عليه، وألحقنا به، واحشرنا في زمرته، وأوردنا حوضه. اللهم أعنا على طاعتك، وانصرنا على عدوك.
ذكره ابن عبد ربه (1). (64)
(24)
خطبة للصديق في الحث على العمل والإخلاص
قال نعيم بن نمحة: خطب أبو بكر فكان من قوله:
أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم. فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عز وجل فليفعل، ولن تنالوا ذلك إلا بالله تعالى، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم، فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم". أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في سالف أيامهم، وخلوا بالشقوة والسعادة. أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخور والآبار .. هذا كتاب الله لا تفني عجائبه، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال:"إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين". لا خير في قول لا يراد به وجه الله، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله، ولا خير فيمن جعله حلمه، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم.
أخرجه الطبراني في الكبير. قال الهيثمي: ونعيم بن نمحة: لم أجد مكن ترجمة. وقال ابن كثير: هذا إسناد جيد ورجاله ثقات (2). (65)
(1) انظر ص 360 ج 2 - العقد الفريد (وكنتم على شفا) الشفا: الحافة والطرف، أي كنتم على طرف حفرة من النار، فأنقذكم الله منها بالإيمان.
(2)
انظر ص 189 ج 2 مجمع الزوائد (الخطبة والقراءة فيها) وص 305 ج 8 تفسير ابن كثير (سورة الحشر) و (الحوائط) جمع حائط وهو البستان، وحائط البنيان جمعه حيطان.
(25)
خطبة للفاروق عمر في التقوى والأمر بالمعروف
خطب عمر يوماً فقال: أيها الناس: اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة فأقبل أحدهم على موضع يخرقه، فمنعوه، فقال: هو موضعي ولي أن أحكم فيه، فإن أخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا. وهذا مثل ضربته لكم، رحمنا الله وإياكم.
ذكره ابن عبد ربه (1)(66)
(26)
خطبة جامعة للفاروق
وخطب عمر رضي الله عنه سنة 23 هـ، فحمد الله وأثنى عليهن وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
أيها الناس: إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غني، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتأملون ما لا تدركون، وأنتم مؤجلون في دار غرور، وكنتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤخذون بالوحي، فمن أسر شيئاً أخذ بسريرته، ومن أعلن شيئاً أخذ بعلانيته، فأظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإنه من أظهر لنا قبيحاً وزعم أن سريرته حسنه لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسناً. واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ}
(1) ص 263 ج 2 العقد الفريد (وهذا مثل) أخذه رضي الله عنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا (اقترعوا) على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم (أي منعوهم من الخرق) نجوا جميعاً". أخرجه البخاري عن النعمان بن بشير (31). ص 81 ج 5 أخرجه البخاري (هل يقرع في القسمة؟ ).
أيها الناس: أطيبوا مثواكم، وأصلحوا أموركم، واتقوا الله ربكم، ولا تلبسوا نساءكم القباطي، فإنه إن لم يشف فإنه يصف.
أيها الناس: إني لوددت أن أنجو كفافاً لا لي ولا عليّ، وإني لأرجو إن عمرت فيكم يسيراً أو كثيراً أن أعمل بالحق فيكم إن شاء الله، ألا يبقى أحد من المسلمين وإن كان في بيته إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله، وإن لم يعمل إليه نفسه، ولم ينصب إليه بدنه، وأصلحوا أموالكم التي رزقكم الله، ولقليل في رفق خير من كثير في عنف، والقتل حتف من الحتوف، يصيب البر والفاجر، والشهيد من احتسب نفسه.
ذكره الطبري في تاريخه (1)(67).
(27)
خطبة أخرى جامعة للفاروق رضي الله عنه
وخطب أيضاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
(أما بعد) فإني أوصيكم بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته يكرم أولياءه. وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة، تعلموا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه لم تبلغ منزلة ذي حق أن يطاع في معصية الله، واعلموا أن بين العبد وبين رزقه حجاباً، فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يدرك فوق رزقه، وإياكم وأخلاق العجم، ومجاورة الجبابرة، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر، وأن تدخلوا الحمام بغير مئزر، وإياكم والصغار أن تجعلوه في رقابكم. واعلموا أن سباب المسلم فسق، وقتاله كفر، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام،
(1) ص 26 ج 5 تاريخ الطبري (خطب عمر رضي الله عنه و (المثوى) بفتح فسكون: المنزل. و (القباطي) - بضم أوله وتشديد آخره، أو بفتح أوله وتخفيف آخره: ثياب كتاب بيض رقاق- جمع قبطية بضم القاف نسبة إلى القبط على غير قياس. وقد تكسر. و (شف) الثوب يشف: رق فحكى ما تحته ووصفه وحدده لرقته.
ومن أتى ساحراً أو كاهناً أو عرافاً (1) فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءته سيئة وسرته حسنة فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وإن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، عليكم بهذا القرآن فإن فيه نوراً وشفاءً، وغيره الشقاء، وقد قضيت الذي عليّ فيما ولاني الله عز وجل من أموركم، ووعظتكم نصحاً لكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
أخرجه الحاكم وابن عساكر. (68)
(28)
خطبة للفاروق في وصف الدنيا والتحلي بالفضائل
وخطب أيضاً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتفض، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأ فكر في أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، بئس الجار الغني، يأخذك بما لا يعطيك من نفسه، فإن أبيت لم يعذرك. إياكم والبطنة فإنها مكسلة عن الصلاة، ومفسدة للجسم، ومؤدية إلى السقم، وعليكم بالقصد في قوتكم، فهو أبعد من السرف وأصح للبدن. وأقوى على العبادة وإن العبد لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه.
ذكره الشيخ حمزة في المواهب (2). (69)
(1)"الصغار" الضيم والذل، و "الكاهن" من يدعي معرفة الأسرار، ويخبر عما يكون في المستقبل، وقد كان في العرب كهنة، فمنهم من كان يزعم ان له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف كالذي يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما- نهاية ابن الأثير.
(2)
ص 213 ج 2 - المواهب الفتحية (خطبة عمر الفاروق رضي الله عنه و (منتفض) من الانتفاض وهو ضد الإبرام (والبلاغ) مصدر بلغ الكتاب: وصل و (التعريج) الإقامة و (استقال ذنبه) أي طلب إقالته منه بالتوبة، و (لم يعذرك) من باب ضرب أي لم يقبل اعتذارك (والبطنة) بكسر فسكون: امتلاء البطن من الطعام.
(29)
خطبة لسيدنا عثمان
خطب رضي الله عنه حين بايعه أهل الشورى، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلمن ثم قال:
إنكم في دار قلعة وفي بقية أعمار، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه. ألا وإن الدنيا طويت على الغرور "فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور" اعتبروا بمن مضى، ثم جدوا ولا تغفلوا، فإنه لا يغفل عنكم. أين أبناء الدنيا وإخوانهم الذين آثروها وعمروها ومتعوا بها طويلاً؟ ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها، واطلبوا الآخرة فإن الله قد ضرب لها مثلاً، والذي هو خير، فقال عز وجل:"واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً. المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً". ذكره الطبراني (1)(70)
(30)
خطبة له في التقوى والعمل
وقال الحسن البصري: خطب عثمان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نوراً لظلمة القبر، وليخش
(1) انظر ص 43 ج 5 تاريخ الطبري (خطبة عثمان رضي الله عنه و (أهل الشورى) هم الذين وكل إليهم عمر التشاور فيمن يكون خليفة بعده وهم عبد الرحمن ابن عوف، وعثمان، وعلي، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فاختاروا عثمان وبايعوه. و (قلعة) بضم القاف وسكون اللام وضمها وفتحها: أي دار انقلاع وارتحال. و (الهشيم): اليابس، و (تذروه): أي تفرقه يميناً وشمالاً.
عبد أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيراً. واعلموا أن من كان الله لم يخف شيئاً، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده؟
أخرجه ابن عساكر وابن كثير (1).
(31)
خطبة له في الاستعداد للموت
قال مجاهد: خطب عثمان فقال:
ابن آدم: اعلم أن ملك الموت الذي وكل بك لم يزل يخلفك ويتخطى إلى غيرك منذ أنت في الدنيا، وكأنه قد تخطى غيرك إليك وقصدك. فخذ حذرك واستعد له ولا تغفل فإنه لا يغفل عنك. واعلم ابن آدم إن غفلت عن نفسك ولم تستعد لها لم يستعد لها غيرك، ولابد من لقاء الله، فخذ لنفسك ولا تكلها إلى غيرك والسلام. ذكره ابن كثير (2).
(32)
آخر خطبة لعثمان رضي الله عنه
هي قوله: إن الله إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوه بها الآخرة، ولم يعطكموها لتركنوا إليها، إن الدنيا تفنى، وإن الآخرة تبقى، لا تبطرنكم الفانية، ولا تشغلنكم عن الباقية، وآثروا ما يبقى على ما يفنى، فإن الدنيا منقطعة، وإن المصير إلى الله. اتقوا الله فإن تقواه جنة من بأسه، ووسيلة عنده، واحذروا من الله الغير، والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزاباً "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون". ذكره ابن كثير والطبري (3)(73)
(1) ص 214 ج 7 البداية والنهاية (ذكر شيء من خطبه).
(2)
انظر ص 215 ج 7 البداية والنهاية.
(3)
انظر ص 215 منه. وص 149 ج تاريخ الطبري (بعض خطب عثمان رضي الله عنه والآيتان من آل عمران: 103، 104 و (لاتبطرنكم) من أبطره: أدهشه وجعله بطراً بفتح فكسر. و (الغير) كعنب: الأحداث.
(33)
خطبة لعلي رضي الله عنه لما ولى الخلافة
بويع عليّ بالخلافة يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فخطب الناس: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
إن الله أنزل كتاباً هادياً بين الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر. الفرائض الفرائض، أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرمات غير مجهولة، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق. لا يحل دم امريء مسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم، وإنما خلفكم الساعة تحدوكم، فخففوا تلحقوا؛ فإنما ينتظر بالناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله فلا تعصوه. وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه "واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض".
ذكره ابن الأثير (1). (74)
(34)
خطبة له في الحث على العمل والإخلاص
وخطب أيضاً فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن المضمار اليوم وغداً السباق. ألا وإنكم في أيام أمل من ورائها أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله ولم يضره أجله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله وضره أجله. ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره
(1) ص 76 ج 3 تاريخ الكامل (بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب) و (تحدوكم) أي تتبعكم، يقال: حدا الليل النهار، أي تبعه.
الباطل، ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال إلى الردي. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد. ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. تزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً.
ذكره في النهج والباقلاني والعاملي (1). (75)
(35)
خطبة لسيدنا علي في التقوى
وخطب أيضاً فقال بعد حمد الله:
أيها الناس اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثاً فيلهو، ولا أهمل سدي فيلغو، ما دنياه التي تحسنت إليه بخلف من الآخرة التي قبحها سوء النظر إليها، وما الخسيس الذي ظفر به من الدنيا بأعلى همته كالآخر الذي ظفر به من الآخرة من سهمته. ذكره الباقلاني (2). (76)
(36)
خطبة جامعة لعلي رضي الله عنه
وخطب فقال: الحمد لله فاطر الخلق، وفالق الإصباح، وناشر الموتى، وباعث من في القبور، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأوصيكم بتقوى الله، فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان والجهاد في سبيله، وكلمته الإخلاص، فإنها الفطرة، وإقام الصلاة، فإنها الملة، وإيتاء الزكاة، فإنها من فريضته، وصوم شهر رمضان، فإنه جنة من عذابه، وحج البيت، فإنه منفاة للفقر، مدحضة للذنب، وصلة الرحمن فإنها مثراة في المال، منسأة في الأجل، محبة في الأهل، وصدقة السر، فإنها تكفر الخطيئة وتطفيء غضب الرب، وصنع المعروف، فإنه يدفع ميتة السوء وبقي مصارع الهول. أفيضوا في ذكر الله، فإنه أحسن الذكر. وارغبوا فيما وعد المتقون، فإن وعد الله أصدق الوعد. واقتدوا بهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم. فإنه أفضل الهدي، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن.
(1) ص 66 ج 1 نهج البلاغة. وص 69 إعجاز القرآن. وص 257 كشكول.
(2)
انظر ص 69 إعجاز القرآن. و (السهمة) بضم فسكون: النصيب.
وتعلموا كتاب الله، فإنه أفضل الحديث، وتفقهوا في الدين، فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره، فإنه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته، فإنه أحسن القصص. وإذا قريء عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستقيم عن جهله، بل قد رأيت أن الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه، من هذا الجاهل المتحير في جهله، وكلاهما مضلل مثبور (1). لا ترتابوا فتشكوا، ولا تشكوا فتكفروا، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا. ألا وإن من الحزم أن تثقوا، ومن الثقة ألا تغتروا، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه. من يطع الله يأمن ويستبشر، ومن يعص الله يخف ويندم. ثم سلوا الله اليقين، وارغبوا إليه في العافية. وخير ما دام في القلب اليقين. إن عوازم الأمور أفضلها (2). وإن محدثاتها شرارها، وكل محدث بدعة، وكل محدث مبتدع، ومن ابتدع فقد ضيع، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة. المغبون من غبن دينه (3)، والمغبون من خسر نفسه، وإن الرياء من الشرك، وإن الإخلاص من العمل والإيمان، ومجالس اللهو تنسى القرآن، ويحضرها الشيطان، وتدعو إلى كل غي. ومجالسة النساء تزيغ القلوب، وتطمح إليها الأبصار، وهن مصائد الشيطان، فاصدقوا الله فإن الله مع من صدق، وجانبوا الكذب فإن الكذب مجانب للايمان. ألا إن الصدق على شرف (4) منجاة وكرامة، وإن الكذب على شرف رديء وهلكة.
ألا قولوا والحق تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من
(1) من ثبره الله: أهلكه. ويقال: ثبر هو ثبوراً: هلك.
(2)
العوازم جمع عزيمة وهي الفريضة. وقيل: ما وكدت رأيك وعزمتك عليه ووقيت بعهد الله فيه.
(3)
غبن من باب ضرب، يقال: غبنه أي نقصه، وغبن بالبناء للمفعول فهو مغبون.
(4)
على شرف بفتحتين، أي على رغبة فيه، يقال هو على شرف من كذا إذا كان مشارفاً يقال في الخير والشر.
أهله، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم، وصلوا أرحام من قطعكم. وعودوا بالفضل على من حرمكم، وإذا عاهدتم فأوفوا، وإذا
حكمتم فاعدلوا، ولا تفاخروا بالآباء، ولا تنابزوا بالألقاب (1)، ولا تمازحوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، وأعينوا الضعيف المظلوم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب. وارحموا الأرملة (2) واليتيم: وافشوا السلام. وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها "وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب" وأكرموا الضيف، وأحسنوا إلى الجار، وعودوا المرضى، وشيعوا الجنائز، وكونوا عباد الله إخواناً.
(أما بعد) فإن السبقة (3) الجنة، والغاية النار، ألا وإنكم في أيام مهل، من ورائها أجل يحثه عجل، فمن أخلص لله عمله في أيام مهله قبل حضور أجله. فقد أحسن عمله ونال أمله. ومن قصر عن ذلك (4) فقد خسر عمله، وخاب أمله، وضره أمله. فاعملوا في الرغبة والرهبة. فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة. وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن "أي أعلم" المسلمين بالحسنى، ومن شكر بالزيادة. وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها، ولا اكثر مكتسبا من شيء كسبه ليوم تدخر فيه الذخائر، وتبلى فيه السرائر (5)، وتجتمع فيه الكبائر. وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل،
(1) من التنابز وهو التداعي بالنبز بفتحتين، وهو لقب السوء كفاسق وجاهل، أي لا يدعو بعضكم بعضاً بما يسوءه.
(2)
الأرملة بفتح الميم: المرأة التي لا زوج لها.
(3)
السبقة بضم فسكون: الخطر يوضع بين أهل السباق، أي أن الجنة هي التي ينبغي التسابق إليها بالعمل الصالح.
(4)
قصر عن الشيء قصوراً، من باب قعد: عجز عنه.
(5)
أي تظهر وتبدو ويصير السر علانية (ففي الحديث) إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان. أخرجه الشيخان عن ابن عمر (30) ص 66 ج 3 تيسير الوصول (الغدر) وقيل السرائر فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والطهارة، فإنها سرائر بين الله والعبد، فقد يقول: صمت ولم يصم، واغتسلت ولم يغتسل، فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها.
ومن لا يستقيم به الهدي يجور به الضلال، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك، ومن لا ينفعه حاضرة فعازبه عنه أعور وغائبه عنه أعجز. وإنكم قد أمرتم بالظعْن ، ودللتم على الزاد ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل واتباع الهوى. فأما طول الأمل فينسى الآخرة. وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق. ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولها بنون.
فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم، ولا ذكره ابن كثير (1). (77)
(37)
خطبة جامعة لسيدنا على رضى الله عنه
وخطب كرم الله وجهه سنة 40 فقال:
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره. وسبباً للمزيد من فضله، ودليلا على آلائه وعظمته. عباد الله: إن الدهر يجرى بالباقين كجريه بالماضين. لا يعود ما قد ولي منه، ولا يبقي سرمداُ ما فيه، آخر فعاله كأوله، متسابقة أموره، متظاهرة أعلامه. فكأنكم بالساعة تحدوكم حد الزاجر بشوله، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحير في الظلمات، وارتبك في الهلكات، ومدت به شياطينه في طغيانه، وزينت له سيئ أعماله؛ فالجنة غاية السابقين، والنار غاية المفرطين.
واعلموا عباد الله أن التقوى دار حصن عزيز، والفجور دار حصن ذليل، لا يمنع أهله، ولا يحرز من لجأ إليه، ألا وبالتقوى تقطع حمة الخطايا، وباليقين تدرك الغاية القصوى.
(1) انظر ص 307 ج 7 البداية (خطبة لعلى في أهل العراق) و (العازب): البعد، أي من لم ينتفع بالحاضر لا يستفيد من الغائب.
عباد الله. الله في أعز الأنفس عليكم، وأحبكم، فإن الله قد أوضح لكم سبيل الحق. وأنا طرقه؛ فشقوة لازمة، أو سعادة دائمة. فتزودوا في أيام الفناء لأيام البقاء، قد دللتم على الزاد، وأمرتم بالظعن، وحثثتم على المسير؛ فإنما أنتم كركب وقوف لا تدرون متى تؤمرون بالمسير؛ ألا فما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة، وما يصنع بالمال من عما قليل يسبه وتبقي عليه تبعته وحسابه.
عباد الله: أنه ليس لما وعد الله من الخير مترك. ولا فيما نهي عنه من الشر مرغب. عباد الله احذروا يوماً تفحص فيه الأعمال، ويكثر فيه الزلزال. ويشيب فيه الأطفال. اعلموا عباد الله أن عليكم رصداً من أنفسكم، وعيوناً من جوارحكم. وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم، وعدد أنفسكم. لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنكم منهم باب ذور تاج، وإن غداً من اليوم قريب، يذهب اليوم بما فيه، ويجئ الغد لا حقاً به. فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ومخط حفرته، فياله من بيت وحدة ومنزل وحشية ومفرد غربة. وكأن الصيحة قد أتتكم، والساعة قد غشيتكم، وبرزتم لفصل القضاء. قد زاحت عنكم الأباطيل، واضمحت عنكم العلل، واستحقت بكم الحقائق، وصدرت بكم الأمور مصادرها. فاتعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير وانتفعوا بالنذر.
ذكره في النهج (1)(78)
(38)
خطبة لعلى رضي الله عنه في الرجاء والخوف والصبر.
وخطب أيضا فقال: أيها الناس: احفظوا عنى خمساً، فلو شددتم إليها المطايا حتى تضمنوها لم تظفروا بمثلها: ألا لا يرجون أحدكم إلا ربه ،
(1) ص 305 ج 1 نهج البلاغة و (السرمد) الدائم و (الشول) بفتح فسكون: الناقة التي شال لبنها، أي ارتفاع. والباء بمعني اللام: والمعني. تسوقكم سوق الزاجر لإبله لتسيره و (حمة) بضم ففتح (الخطايا) أي ضررها وشرها. و (الداجي): المظلم، و (الرتاج) بالكسر: الباب العظيم محكم الغلق.
ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحي أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم، وإذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم. ألا وإن الخامسة الصبر ، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. من لا صبر له لا إيمان له. ومن لا رأس له لا جسد له. ولا خير في قراءة إلا بتدبير، ولا في عبادة إلا بتفكير، ولا في حلم إلا بعلم. ألا أُنبئكم بالعالم كل العالم؟ من لا يزين لعباد الله معاصي الله، ولم يؤمنهم مكره، ولم ييئسهم من روحه ولا تنزلوا المطيعين الجنة، ولا المذنبين الموحدين النار حتى يقضي الله فيهم بأمره. لا تأمنوا على خير هذه الأمة عذاب الله. فإنه يقول:(فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون). ولا تقنطوا شر هذه الأمة من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ذكره ابن عبد ربه (1). (79).
(1) ص 373 ج 2 العقد الفريد (وخطب أيضاً). و (تضنوها) أي تضعفوها و (من روحه) الروح بفتح فسكون: الرحمة، وما يثر عن على رضى الله عنه:
(أ) قول ابن عباس: ما اتعظت بعد رسول الله صلى عليه وسلم بمثل كتاب كتبه إلى على رضى الله عنه (أما بعد) فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته ، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه ، فلا تكن بما نلته من دنياك فرحاً ، ولا بما فاتك منها ترحا ، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ، ويرجو التوبة بدون الأمل: عباد الله، الحذر الحذر. فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر ، وأمهل حتى كأنه قد أهمل والله المستعان على ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف. ذكره في الكشكول (6) ص 248 ج 3.
(ب) وما رواه محمد بن إسحاق عن النعمان بن سعد قال: كنت بالكوفة في دار على بن أبى طالب إذ دخل علينا نوف بن عبد الله فقال: يا أمير المؤمنين بالباب أربعون رجلا من اليهود. فقال على: على بهم؛ فلما وقفوا بين يديه قالوا له: يا على صف لنا ربك. فاستوى على جالسا وقال: معشر اليهود اسمعوا منى ولا تبالوا ألا تسألوا أحداً غيري، بل خلق ما خلق فأقام خلقه، وصور فأحسن صورته، توحد في علوه، فليس لشيء منه امتناع، ولا له بطاعة شئ من خلقه انتفاع: إجابته للداعين سريعة، والملائكة في السموات والأرضين له مطيعة. علمه بالأموات =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= البائين كعلمه بالأحياء المتقلبين، وعلمه بما فى السموات العلا كعلمه بما فى الأرض السفلى، وعلمه بكل شئ، لا حيره الأصوات ولا تشغله اللغات. سميع للأوات المختلفة بلا جوارح له مؤتلفة، مدبر بصي عالم بالأمور. حى قيوم. كلم موسى تكليما بلا جوارح ولا أدوات ولا شفة ولا لهوات (بفتحات جمع لهاة وهى اللحمة المشرقة على الحلق فى أقصى الفم) سبحانه وتعالى عن تكييف الفات. من زعم أن إلهنا محدود، فقد جهل الخالق المعبود. ومن ذكر أن الأماكن به تحيط، لزمته الحيرة والتخطيط. بل هو المحيط بكل مكان، فإن كنت صادقاً أيها المتكلف لوصف الرحمن بخلاف التنزيل والبهان، فصف لى جبريل وميكائيل وإسرافيل. هيهات اتعجز عن صفة مخلوق مثلك، وتصف الخالق المعبود؟ وأنت لا تدرك صفة رب الهيئة والأدوات فكيف من لم تأخذه سنة ولا نوم، له ما فى الأرضين والسموات وما بينهما وهو رب العرش العظيم.
(حـ) وما روى: أن جندب بن عبد الله دخل على علىّ فقال: يا أمير المؤمنين إن فقدناك- ولا نفقدك- فنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر، فرد عليه مثلها. فدعا حسناً وحسيناً فقال: أوصيكما بتقوى الله وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تبكيا على شئ زوى عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأعينا الملهوف، واصنعا للآخرة، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم ناصراً، واعملا بما فى الكتاب، ولا تأخذ كما فى الله لومة لائم. ذكره الطبرى. (8) ص 85 ج 6.
(د) وقوله للحسن: أوصيك أى بنى بتقوى الله، وإقام الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة عند محلها، وحسن الوضوء فإنه لا صلاة إلا بظهور، ولا تقبل صلاة من مانع الزكاة. وأوصيك بغفر الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، والحلم عند الجهل، والنفقة فى الدين، والتثبت فى الأمر، والتعاهد للقرآن، وحسن الجوار، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واجتناب الفواحش. ذكره الطبرى (9) ص 85 ج 6.
(هـ) وما وصى به عند موته فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به على بن أبى طالب أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، إن =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين. أوصيك يا حسن وجميع ولدى وأهلى ومن بلغه كتابى بتقوى الله ربكم.
ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا فإنى سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام.
انظروا إلى ذوى أرحامكم فصلوهم. يهون الله عليكم الحساب. الله الله فى الأيتام، فلا تعنوا أفواههم (أى لا تذلوهم فلا يتمكنون من الشكاية) ولا يضيعن بحضرتكم. واله الله فى جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم ما زال يوصى بهم حتى ظننا أنه سيورثهم. والله الله فى القرآن، فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم. والله الله فى الصلاة فإنها عمود دينكم. والله الله فى بيت ربكم. فلا يخلون منكم ما بقيتم. فإنه إن ترك لم يناظر. والله الله فى شهر رمضان.، فإن صيامه جنة من النار. والله الله فى الجهاد فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. والله الله فى الزكاة؛ فإنها تطفئ غضب الرب. والله الله فى ذمة نبيكم (يعنى أهل الذمة) فلا يظلمن بين ظهرانيكم. والله الله فى أصحاب نبيكم. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بهم. والله الله فى الفقراء والمساكين فأشركوهم فى معايشكم. والله الله فيما ملكت ايمانكم، فإن آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال:"أوصيكم بالضعيفين: نسائكم وما ملكت ايمانكم الصلاة الصلاة " لا تخافن فى الله لومة لائم يكفكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله. ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فيولى الأمر شراراكم ثم تدعون فلا يستجاب لكم. وعليكم بالتواصل والتبادل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق. وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب.
حفظكم الله فى أهل البيت، وحفظ عليكم نبيكم. أستودعكم الله، واقرأ عليكم السلام ورحمة الله (10).
ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض فى رمضان سنة أربعين.
ذكره ابن كثير، ص 327 ج 7 البداية. والطبرى، ص 85 ج 6.
(39)
آخر خطبة لسيدنا الحسين رضى الله عنه
خطب رضى الله عنه فى اليوم الذى استشهد فيه (1) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا عباد الله: اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقى عليها أحد، لكانت الأنبياء أحق بالبقاء، وأولى بالرضاء، وأرضى بالقضاء، غير أن الله تعالى خلق الدنيا للفناء، فجديدها بال، ونعيمها مضمحل، وسرورها مكفهر، والنزلة تلعة، والدار قلعة (2){وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3). (80).
(40)
خطبة جامعة لسيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه
قال بعد حمد اله والثناء عليه:
إن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم صلى الله عليه سلم، واحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وخير الهدى هدى الأنبياء، واشرف الحديث ذكر الله، وخير القصص القرآن، وخير الأمور أوساطها، وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر والهى، وشر الندامة ندامة القيامة، وشر الضلالة الضلالة
(1) انظر ص 307 ج 7 البداية (خطبة لعلى في أهل العراق) و (العازب): البعد، أي من لم ينتفع بالحاضر لا يستفيد من الغائب.
(2)
أى مات فيه شهيداً بكربلاء من أرض العراق وهو يوم الجمعة عاشر المحرم سنة 61 إحدى وستين، وهو ابن خمس وخمسين سنة. انظر ترجمته وقصة قتله وما حدث لقتله وانتقام الله تعالى ممن قتله وأين راسه رضى الله عنه من ص 309 - 312 ج 9 المنهل العذب (حق السائل).
(3)
(مكفهر) كمطمئن: يعنى متغيراً غير خالص .. و (تلعة) بفتح فسكون: أى مرتفع أو منخفض حسب عمل الإنسان فهو من الأضداد. و (القلعة) بضم فسكون: العارية. وفى الحديث: بئس المال القلعة.
بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقى فى القلب اليقين، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب، والخمر جماع كل إثم، والنساء حبالة (1) الشيطان، والشباب شعلة من الجنون، والنوح من عمل الجاهلية، ومن الناس من لا يأتى الجماعة إلا دبراً، ولا يذكر الله إلا هجراً (2)، وأعظم الخطايا الكذب، وسباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه (3)
معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يصبر على الرزية يعقبه الله، وشر المكاسب كسب الربا، وشر الأكل أكل مال اليتيم، والشقى من شقى فى بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، وإنما يكفى أحدكم ما قنعت به نفسه (4)، وإنما يصير إلى أربعة أذرع، والأمور بعواقبها، وملاك العمل خواتيمه، وأشرف الموت الشهادة، ومن يعرف البلاء يصبر عليه، ومن لا يعرفه ينكره، ومن يستكبر يضعه الله، ومن يطع الشيطان يعص الله، ومن يعص الله يعذبه. اخرجه أبو نعيم فى الحلية. (81).
(1) الحبالة بكسر الحاء: ما يصاد بها. روى حذيفة أن النبى صلىالله عليه وسلم قال: الخمر جماع الإثم والنساء حبائل الشيطان وحب الدنيا رأس كل خطيئة. أخرجه أبو الحسن وزين بن معاوية (33) ص 285 ج 3 تيسير الوصول. و (وحبائل) الشيطان: أى مصائده، واحدها حبالة.
(2)
الدبر بضمتين: آخر الوقت. وفى حديث ابن عمرو مرفوعاً: ثلاثة لا يقبل الله منهم لاة: من تقدم قوماً وهم له كارهون ورجل أتى الصلاة دباراً (الحديث) أخرجه أبو داود وابن ماجهع والبيهقى وقال: حديث روى بإسنادين ضعيفين أحدهما مرسل (34) ص 304 ج 4 منهل. و (دباراً) بكسر ففتح: أى بعد ما يفوت وقتها. و (الهجر) بفتح فسكون: الترك والإعراض.
(3)
أكل لحمه: كناية عن غيبته، قال تعالى:" ولا يغتب بعضكم بعضاً، ايحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" ..
(4)
قنع، كتعب: أى رضى.
(41)
خطبة لمعاوية بن أبى سفيان فى التقوى
خطب الجمعة فى يوم صائف شديد الحر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
إن الله عز وجل خلقكم فلم ينسكم، ووعظكم فلم يهملكم، فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} قوموا إلى صلاتكم.
ذكره ابن عبد ربه (1). (82).
(42)
خطبة لعبد الله بن الزبير فى الحث على العمل
خطب فى موسم الحج، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أما بعد: فإنكم جئتم من آفاق شتى، وفوداً إلى الله عز وجل، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان جاء يطلب ما عند الله فإن طالب الله لا يخيب، فدقوا قولكم بفعل فإن ملاك القول الفعل، والنية النية، القلوب القلوب. الله الله فى أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب. جئتم من آفاق شتى فى غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجونها. ذكره أبو نعيم. (83).
(43)
خطبة لسحبان بن زفر فى العمل للآخرة
خطب سنة 54 هـ فقال:
إن الدنيا دار بلاغ، والآخرة دار قرار. أيها الناس: فخذوا من دار ممركم لدار مقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.
وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها ابدانكم، ففيها حييتم ولغيرها خلقتم. إن الرجل إذا هلك قال الناس: ما ترك؟ وقال الملائكة: ما قدم لله؟ قدموا بعضاً يكون لكم، ولا تخلفوا كلا يكون عليكم. (84).
(1) ص 374 ج 2 العقد الفريد (خطب معاوية)
(44)
خطبة لعبد الملك بن مروان فى الرغبة والرهبة
خطب سنة 86 هـ فقال بعد أن حمد الله واثنى عليه:
أيها الناس: اعملوا الله رغبة ورهبة؛ فإنكم نبات نعمته، وحصيد نقمته، ولا تغرس لكم الآمال إلا ما تجتنيه الآجال. وأقلوا الرغبة فيما يورث العطب، فكل ما تزرعه العاجلة تقلعه الآجلة. واحذروا الجديدين فهما يكران عليكم، وعلى أثر من سلف يمضى من خلف، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى. (85).
(45)
خطبة لعمر بن عبد العزيز فى النصيحة والتوبة
خطب يوماً فقال بعد حمد الله والثناء عليه:
أيها الناس: إنما الدنيا أمل مخترم، وأجل منتقض، وبلاغ إلى دار غيرها، وسير إلى الموت ليس فيه تعريج، فرحم الله امرأً فكر فى أمره، ونصح لنفسه، وراقب ربه، واستقال ذنبه، ونور قلبه.
أيها الناس: قد علمتم أن أباكم قد خرج من الجنة بذنب واحد (1) وإن ربكم وعد على التوبة، فليكن أحدكم من ذنبه على وجل، ومن ربه على أمل. (81).
(46)
خطبة له فى الاتباع
خطب يوماً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
(أما بعد) أيها الناس: إنه ليس بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم نبى، وليس بعد الكتاب الذى أُنزل عليه كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو
(1) هو أكله من الشجرة بعد النهى عنه، وقد تقدم أنه أكل منها متأولا فتسميته ذنباً باعتبار منزلته، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
حلال إلى يوم القيامة، وما حرم الله على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة.
ألا إنى لست بقاض ولكنى منفذ لله، ولست بمبتدع ولكنى متبع. ألا إنه ليس لأحد أن يطاع فى معصية الله عز وجل. ألا إنى لست بخيركم، وإنما أنا رجل منكم، غير أن الله جعلنى اثقلكم حملا.
أيها الناس: إن أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم. (87).
(47)
آخر خطبة لعمر بن عبد العزيز
آخر خطبة خطبها أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس: إنكم لم تخلقوا عبثاً ولم تخلقوا سدى، وإن لكم معاداً يحكم الله بينكم فيه. فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التى وسعت كل شئ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غداً لمن خاف اليوم، وباع قليلا بكثير وفانياً بباق، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون حتى يرد إلى خير الوارثين، ثم إنكم فى كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله، ثم تغيبونه فى صدع (1) من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب وواجه الحساب، غنياً عما ترك، فقيراً إلى ما قدم، وايم الله إنى لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندى، فاستغفر الله لى ولكم، وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وردت أنيده مع يدى ولحمتى (2) الذين يلوننى حتى يستوى عيشنا وعيشكم، وايم الله إنى لو أردت غير هذا من عيش او غضارة (3) لكان
(1) الصدع بفتح فسكون: الشق.
(2)
اللحمة بضم فسكون: القرابة.
(3)
الغضارة بفتح الغين: النعمة والسعة.
اللسان به ناطقاً ذلولا عالماً بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، دل فيها على طاعته، ونهى عن معصيته، ثم بكى فتلقى دموع عينيه بردائه ونزل، فلم يعد بعدها على تلك الأعواد حتى قبضه الله تعالى. (88).
(48)
خطبة جامعة للحسن البصرى
قال بعد حمد الله والثناء عليه:
يا بن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً. يا بن آدم إذا رأيت الناس فى الخير فنافسهم فيه، وإذا رايتهم فى الشر فلا تغبطهم عليه، الثواء (1) ههنا قليل، والبقاء هناك طويل، أُمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أُمتكم، وقد أسرع بخياركم، فماذا تنتظرون؟ هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحاليها، وبقيت الأعمال قلائد فى أعناق بنى آدم، فيالها موعظة لو وافقت من القلوب حياة. أما إنه والله لا أُمة بعد أُمتكم، ولا بنى بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم، أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وإنما ينتظر بأولكم أن يلحقه أخركم. من رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً، لم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة. فالوحاء الوحاء (2)، والنجاء النجاء، علام تعرجون؟ (3) أُوتيتم ورب الكعبة. قد أسرع بخياركم أنتم فى كل يوم ترذولون (4) فماذا تنتظرون؟ إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على علم منه، اختاره لنفسه، وبعثه برسالته، وأنزل عليه كتابه، وكان صفوته من خلقه، ورسوله إلى
(1) الثواء بالفتح والمد: الإقامة.
(2)
ويقال: الوحاك الوحاك فى الحث على الاستعجال، وتوحى أسرع.
(3)
تعرجون بضم ففتح فشد الراء: من التعريج وهو الميل والانعطاف.
(4)
ترذلون بفتح فسكون فضم: من الرذل وهو العيب والقبح، أى ترتكبون ما لا يرضى.
عباده، ثم وضعه من الدنيا موضعاً ينظر إليه أهل الأرض، وآتاه منها قوتاً وبلغة (1).
ثم قال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ (2) فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك. خذوا صفا الدنيا، وذروا كدرها، فليس الصفو ما عاد كدراً، ولا الكدر ما عاد صفواً، دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
ظهر الجفاء، وقلت العلماء، وعفت السنة، وشاعت البدعة.
لقد صحبت أقواماً ما كانت صحبتهم إلا قرة العين وجلاء الصدور. مالي اسمع حسيساً، ولا أرى أنيساً. ذهب الناس وبقى النسناس (3). قال ابن الخطاب: رحم الله امرأ أهدى إلينا مساوينا. اعدوا الجواب فإنكم مسئولون. المؤمن من لم يأخذ دينه عن رأيه، ولكنه أخذه من قبل ربه. إن الحق قد جهد أهله، وحال بينهم وبين شهواتهم، وما يصبر عليه إلا من عرف فضله، ورجا عاقبته. فمن حمد الدنيا دم الآخرة، وليس يكره لقاء الله إلا مقيم على سخطه.
(1) البلغة، بضم فسكون: ما يبلغ به من العيش ولا يفضل.
(2)
طائرة: عمله وما قدر عليه من خير وشر فإنه يلزمه ويجزى به. وقال مجاهد: ما من مولود إلا وفى عنقهورقة مكتوبة فيها شقى أو سعيد. ذكره البغوى (11) ص 158 ج 5 هامش تفسير ابن كثير.
(3)
النسناس، بفتح النون وتكسر: خلق على ورة الناس وخالفوهم فى أشياء وليسوا منهم.
يا بن آدم: الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر فى القلوب وصدقه العمل (1). (89).
(49)
خطبة لخالد بن عبد الله القسيرى فى المكارم
خطب بواسط (2) سنة 126 هـ، فحمد الله وصلى الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
أيها الناس: نافسوا في المكارم، وسارعوا إلى المغانم، واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل (3) ذماً، ولا تعتدوا بالمعروف ما لم تعجلوه، ومهما يكن لأحد منكم عند أحد نعمة فلم يبلغ شكرها، فالله أحسن لها جزاءً وأجزل عليها عطاءً. واعلموا أن حوائج الناس إليكم نعمة من الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحولوها نقماً. واعلموا أن أفضل المال ما أكسب أجراً، وأورث ذكراً، ولو رأيتم المعروف رجلا رأيتموه حسناً جميلا يسر الناظرين. ولو رأيتم البخل رجلا رأيتموه مشوهاً قبيحاً تنفر عنه القلوب وتغضي عنه الأبصار.
أيها الناس: إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفواً من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل من قطعه، ومن لم يطب
(1) التحلي: التزين. والتمني: التشهي. والصحيح أنه من كلام الحسن وسنده جيد (وأما) حديث أنس بن مالك أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلى، ولكن هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل. أخرجه ابن النجار وكذا البخاري فى تاريخه وزاد: وإن قوماً غرتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا نحن نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل (35) (فهو) حديث منكر تفرد به عبد السلام بن الح العابد. قال النسائى: متروك وقال ابن عدى مجمع على ضعفه. رقم 7570 ص 355 ج 5 فيض القدير.
(2)
واسط: بلد بالعراق.
(3)
المطل، بفتح فسكون: التسويف بالعمل وبالوفاء مرة بعد أخرى.
حرثه لم يزك نبته، والأصول عن مغارسها تنمو، وبأولها تسمو. أقول قولي هذا واستغفر الله لى ولكم. (90).
(50)
خطبة جامعة لواصل بن عطاء
في سنة 131 هـ خطب خطبة خالية من الراء فقال:
الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يئوده حفظ ما خلق (1)، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعاً، وعدّ له اصطناعاً، فأحسن كل شئ خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شئ لعظمته، وذل كل شئ لسلطانه، ووسع كل شئ علماً، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلهاً تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعلا عن فات كل مخلوق، وتزه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الإفهام، يُعصى فيحلم، ويُدعى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون.
وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية وصحة طوية، أن محمد ابن عبد الله عبده ورسوله، ونبيه وصفيه، ابتعثه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته (2) ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم ماضياً على سنته، موفياً على قصده (3) حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد وعلى آل محمد، أفضل وأزكى
(1) لا يئوده: أي لا يثقله تدبير خلقه.
(2)
مألكة بفتح فسكون فضم اللام وتفتح: اسم للرسالة. ويقال مألك- بلا تاء.
(3)
أي مشرفاً على مقصودة وما كلف من التبليغ والإرشاد.
وأتم وأنمى وأجلّ وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أُوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة فى معاد، ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها. فإنها متاع قليل ومدة إلى حين، وكل شئ منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها؟ وكم نبت لكم من حبائلها؟ وأهلكت من جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلواً، ومزجت لهم سماً. أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب (1) وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد؟ (2) قبضتهم بمحملها، وطحنتهم بكلكلها (3) وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقاً، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، واصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم نبساً (4)، فتزودوا عافاكم الله، فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، ومنن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. إن أحسن قصص المؤمنين،
(1)(وكاثفوا .. إلخ) أى جعلوا الستر كثيفاً متيناً.
(2)
التلاد بكسر التاء وفتحها: المال القديم عند الإنسان من خيل وعبيد، وهو ضد الطارف.
(3)
(المحمل) كمجلس فى الأصل: شقان على البعير يحمل فيهما العديلان. والمراد به هنا القبر لأنه يشق فى الأرض، و (الكلكل) بفتح فسكون ففتح فى الأصل: الصدر، والمراد به هنا الشدة.
(4)
تحس بضم التاء: من الإحساس وهو فىالأصل الإبصار ثم استعمل فى العلم بأى حاسة. و (النبس) بفتح فسكون: الكلام والحركة.
وابلغ مواعظ المتقين، كتاب الله الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلى عليكم فأنصتوا له واسمعوا لعلكم تفلحون. أعوذ بالله القوى من الشيطان الغوى، إن الله هو السميع العليم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} . نفعنا الله وغياكم بالكتاب الحكيم، والوحى المبين، وأعادنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنة النعيم. (91).
(51)
خطبة جامعة للمهدى
خطب سنة 169 هـ فقال:
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه، ورضى به من خلقه. أحمده على آلائه، وأمجده لبلائه، واستعينه وأومن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه، وصابر لبلائه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله إلى خلقه وأمينه على وحيه. أرسله بعد انقطاع الرجاء، وطموس العلم، واقتراب من الساعة، إى أمة جاهلية مختلفة أمية، أهل عداوة وتضاغن، وفرقة وتباين. قد استهوتهم شياطينهم، وغلب عليهم قرناؤهم؛ فاستشعروا الردى (1) وسلكوا العمى، يبشر من أطاعه بالجنة وكريم ثوابها، وينذر من عصاه بالنار وأليم {عقابها لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة (2) وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته، وتوقير كبريائه وقدرته، والإنهاء إلى ما يقرب من رحمته، وينجى من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب،
(1)(فاستشعروا) أى جعلوه كالشار وهو اللباس يلى الجسد.
(2)
ليهلك إلخ: أي إنما جمعكم الله مع عدوكم على غير معاد لينصركم عليهم، فيستمر فى الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل لقيام الحجة عليه، ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة، فالهلاك الكفر والحياة الإيمان. قال تعالى:" أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشى به فى الناس "(الآية) 122 - الأنعام.
وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب، واليم العذاب، ووعيد الحساب، يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (1){يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} (2){وَاتَّقُوا يَوْماً لَاّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} (3){وَاخْشَوْا يَوْماً لَاّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (4)، فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال. قد أفنت من كان قبلكم، وهى عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها رعته، ومن وثق بها خانته، ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذلته. عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها، والشقى فيها من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها.
فالله الله عباد الله، والتوبة مقبولة، والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية فى هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم (5)، وتندموا فلا تنالون الندم، فى يوم حسرة وتأسف وكآبة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام.
إن أحسن الحديث وأبلغ الموعظة كتاب الله، يقول الله تبارك وتعالى:
(1) سورة هود، الآية 105.
(2)
سورة عبس، الآيات من 34 - 37.
(3)
سورة البقرة، الآية 123، و (العدل) الفدية.
(4)
سورة لقمان من آية 33 وصدرها: " يا أيها الناس اتقوا ربكم " و (الغرور) بفتح الغين: الشيطان.
(5)
الكظم بفتحتين: الحلق أو الفم أو مخرج النفس.
{وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ} .إلخ السورة (2).
أُوصيكم عباد الله بما أوصاكم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأرضى لكم طاعة الله، وأستغفر الله لى ولكم. (92).
(1) سورة الأعراف، الآية 204.
(2)
قال ابن بريدة: نزلت فى قبيلتين من قبائل الأنصار فى بنى حارثة وبنى الحارث، تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان بن فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور، فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان ومثل فلان؟ يشيرون إلى القبور، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله:" ألهاكم التكاثر. حتى زرتم المقابر ".أخرجه ابن أبى حاتم (12) ص 283 ج 9 تفسير ابن كثير. (والمعنى) شغلكم حب الدنيا والتباهى بكثرة المال والولد والتفاخر بالأحساب والأنساب، عن طاعة رب الأرباب، والتزود ليوم المعاد، يوم توفى كل نفس ما كسبت وتجنى ثمرة ما قدمت، حتى جاءكم الموت وصرتم إلى المقابر، ولم تقدموا من العمل ما ينفعكم فى رمسكم، ويؤنسكم فى وحشتكم، وينجيكم من عذاب أليم (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلهاكم التكاثر عن الطاعة حتى زرتم المقابر حتى يأتيكم الموت. أخرجه ابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم (36). ص 282 ج 9 تفسير ابن كثير.
وقد زجر الله تعالى آل التفاخر والتكاثر وحذرهم عاقبة تفريطهم وجزاء لهوهم فقال (كلا) ليس الأمر بالتكاثر والاعتزاز بالأهل والعشائر (سوف تعلمون) عاقبة تفاخركم وسوء صنيعكم حين تقومون من القبور، وتساقون إلى مكان يحاسبكم فيه الرب الغيور، فتسألون عن أعماركم وعلومكم وأموالكم وأجسامكم (ففى الحديث) لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه فيم عمل فيه؟ وعن ماله من أين أكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟ أخرجه الترمذي وصححه عن أبى برزة السلمي (37) ص 225 ج 3 تيسير الوصول (الحساب)(ثم كلا سوف تعلمون) وعيد بعد وعيد تأكيداً للردع والتهديد. وقال الضحاك: (كلا سوف =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تعلمون) يعنى أيها الكفار (ثم كلا سوف تعلمون) يعنى أيها المؤمنون: وكان يقرأ الأولى بالتاء والثانية بالياء (كلا لو تعلمون علم اليقين) أى لو علمتم حق العلم أنكم مبعوثون ليسوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ويحاسبون على ما قدمت أيديهم لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر. فجواب لو محذوف. ثم توعدهم الله بما هم فيه شاكون مفسراً الوعيد السابق فقال (لترون الجحيم) بفتح التاء أي ترونها بأبصاركم من بعيد. وقرئ بضم التاء (ثم لترونها عين اليقين) أي لتشاهدن النار من قرب مشاهدة يقين لا مجال للشك معه. فالرؤية الأولى هي المشار إليها بقوله تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد" والرؤية الثانية هى التي تكون عند ورود جهنم " وإن منكم إلا واردها" أو الرؤية الأولى رؤية علم ومعرفة. والثانية رؤية عيان ومشاهدة (ثم لتسألن يومئذ) يوم الحساب والجزاء (عن)(شكر النعيم الذي أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغيرها، ماذا قابلتم به نعمة من شكره وعبادته؟ 0 روى) ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتسألن يومئذ عن النعيم) قال: الأمن والصحة. أخرجه البغوى (38) ص 285 ج 9 هامش تفسير ابن كثير (وعن) أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: ألم نصح جسمك، ونروك من الماء البارد؟ أخرجه الترمذي وابن حبان والحاكم والبغوى (39) ص 183 ج 1 تيسير الوصول (التكاثر) (وقال) الزبير: لما نزلت (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) قلت: يا رسول الله وأي نعيم نسأل عنه؟ وإنما هما الأسودان: التمر والماء. قال: أما إنه سيكون. أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وحسنه (40) ص 260 ج 18 الفتح الرباني. وص 183 ج 1 تيسير الوصول (التكاثر)(وقال) زيد بن أسلم عن رسول الله: (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) يعنى شبع البطون، وبارد الشراب، وظلال المساكن، واعتدال الخلق ولذة النوم. أخرجه ابن أبى حاتم (41) ص 288 ج 9 تفسير ابن كثير (وقال) ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ. أخرجه البخاري والأربعة إلا ابا داود (كتاب الرقاق الصحة والفراغ) والمعنى أنهم مقصرون فى شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما. ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون. وقد تضمنت السورة: =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= (أ) التحذير من الركون إلى الدنيا، والانغماس فى نعيمها، والتنافس فى حطامها الزائل ومتاعها القليل.
(ب) أن الحرص على جمع المال والتفاخر بكثرته مما يلهى عن طاعة الله، وينسى الناس التزود ليوم المعاد. وقد ورد فى غير حديث ما يؤيد ذلك. روى مطرف عن أبيه عبد الله بن الشخير قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ "ألهاكم التكاثر" قال يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت او لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ أخرجه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي (42) (ص 24 ج 4 مسند احمد 0 حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه
…
) وص 94 ج 18 نووي مسلم الزهد (والمعنى 9 لا ينبغي لابن آدم التفاخر بكثرة المال، والاهتمام بتحصيله وهو لا ينتفع به إلا فى أكل أو لبس أو صدقة، وما بقى بعد ذلك سيتركه ويحاسب عليه من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ ويكون زاده إلى النار. نسأل الله السلامة (وعن أبى هريرة) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول العبد: مالي مالي، وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فاقتنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى (أي ادخر) وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس. أخرجه أبو مسلم (44). وص 94 ج 18 نووي مسلم.
(حـ) أن عذاب القبر حق، والبعث حق، والحساب حق، والجنة والنار حق (قال) علىّ: ما زلنا نشك فى عذاب القبر حتى نزلت (إلهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر) أخرجه ابن أبى حاتم والترمذي وقال غريب (13) ص 284 ج 9 تفسير ابن كثير (وقال) ميمون بن مهران: كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز فقرأ: (إلهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) فلبث هنيهة ثم قال: يا ميمون ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بدمن أن يرجع إلى منزله، يعنى إلى جنة أو إلى نار. أخرجه ابن أبى حاتم (14) ص 284 ج 9 تفسير ابن كثير.
(د) الترغيب في شكر ذي الفضل والإنعام، على ما أسبغ علينا من فضل وإحسان (وفى هذا) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله يوم القيامة: يا بن آدم حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء، وجعلتك ترتع (من الرتع وهو التنعم) وترأس (من الترأس وهو التقدم على الغير بأن يصير رئيساً عليه) فأين شكر ذلك؟ أخرجه أحمد عن أبى هريرة (45) ص 289 ج 9 تفسير ابن كثير.
(52)
خطبة جامعة لهارون الرشيد
خطب سنة 193 هـ فقال:
الحمد لله نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقاً، ونتوكل عليه مفوضين إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. بعثه على فترة من الرسل، ودروس (1) من العلم، وأدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة.
بشيراً بالنعيم المقيم، ونذيراً بيم يدي عذاب أليم، فبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله، فأدى عن الله وعده ووعيده حتى أتاه اليقين. فعلى النبي من الله صلاة ورحمة وسلام.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزاً بالجنة، ونجاة من النار، وأُحذركم يوماً تشخيص فيه الأبصار، وتعلن فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن (2)، ويوم التلاق، ويوم التناد (3)، يوم لا يستعتب فيه من سيئة (4) ولا يزداد من حسنة، يوم
(1)(فترة) بفتح فسكون: أى انقطاع. و (دروس) كقعود مصدر درس المنزل: عفا وخفيت آثاره.
(2)
قال تعالى: " يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن " والتغابن من الغبن وهو أخذ الشئ من صاحبع باقل من قيمته ولا يكون إلا فى عقد معاوضة، ولا معاوضة فى الآخرة، فهو مستعار لنزول السعداء منازل الأشقياء التى كانوا يمزلونها لو كانوا سعداء وبالعكس (ففى الحديث) لا يدخل أحد الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكراً. ولا يدخل النار أحد إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن، ليكون عليه حسرة. أخرجه البخارى عن أبى هريرة (46) ص 354 ج 11 فتح البارى (صفة الجنة والنار - الرفاق) فالمغابنة ليست بين اثنين بل بين الشخص ونفسه على سبيل التجريد.
(3)
يوم التلاق والتناد: يوم القيامة، سمى بذلك لتلاقى من تقدم ومن تأخر، وأهل السماء والأرض، وملاقاة كل واحد لعمله الذى قدمه، ولأنه ينادى فيه على الخلائق.
(4)
(لا يستعتب) مبنى للمجهول، يقال: استعتب إذا طلب الرضا، يعنى أنه ليس يوم استرضاء، لأنه يوم جزاء لا يوم عمل.
الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور (1)،
واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عباد الله: إنكم لم تخلفوا عبثاً، ولن تتركوا سدى. حصنوا إيمانكم بالأمانة، ودينكم بالورع، وصلاتكم بالزكاة، فقد جاء فى الخبر أن النبى صلى اله عليه وسلم قال: " لا إيمان لمن لا أمانة له (2) ولا دين لمن لا عهد له (3)،
(1) الآزفة: القيامة، سميت لقربها كما قال تعالى:" أزفت الآزفة " أى قربت القيامة. و (لدى الحناجر) أى أن القلوب من شدة الخوف انتقلت إلى الحناجر ووقفت فيها، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها. و (كاظمين) أى ساكتين، لا يتكلم أحد إلا بإذن الله تعالى. ومكروبين: ممتلئين خوفاً وحزناً .. والكظم: تردد الخوف والغيظ والحزن فى القلب حتى يضيق به (ما للظالمين) أنفسهم بالشرك والمعاصى (من حميم) أى قريب ينفعهم (ولا شفيع يطاع) فيشفع فيهم. و (خائنة الأعين) أى خيانتها بمسارقة النظر إلى ما لا يحل (وما تخفى الصدور) من السرائر والوساوس والنوايا.
(2)
أى لا إيمان كامل. فالأمانة لب الإيمان. وهى منه بمنزلة القلب من البدن. وهى ثلاثة أقسام:
(أ) الأمانة فى العبادة بفعل المأمورات واجتناب المنهيات. وهى لازمة فى كل عبادة حتى الوضوء والغسل.
(ب) والأمانة فى الأعضاء السبعة: اللسان والعين والأذن واليد والرجل والبطن والفرج، يحفظهما عما لم تخلق له، بأن يحفظ لسانه من الكذب والغيبة والنميمة ونحوها.
ويغض بصره عن المحرم، ولا يستمع اللهو والقحش والكذب ونحوها، ويكف باقى الأعضاء عن المحرم.
(جـ) والأمانة مع العباد برد الودائع والعوارى إلى أربابها بقوله: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "، فمن ضيع جزءاً منها ضعف إيمانه بقدره، ومن ضيع الكل خرج عن الإيمان.
(3)
المراد بالدين: الخضوع لأوامر الله ونواهيه. والمعنى أن من جرى بينه وبين غيره وعد ثم لم يف لغير عذر شرعى، فدينه ناقص. هذا والحديث أخرج الجملتين الأوليين منه أحمد وابن حبان عن أنس بسند قوى. انظر رقم 9704 ج 6 فيض القدير.
وأما الجملة الثالثة فلم أقف عليها مرفوعة، بل أخرج معناها ابن كثير عن ابن مسعود قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له (15) (وقال) عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ابى الله يقبل الصلاة إلا بالزكاة (16).
ولا صلاة لمن لا زكاة له". إنكم سفر مجتازون، وأنتم عن قريب تنتقلون من دار فناء إلى دار بقاء. فسارعوا إلى المغفرة بالتوبة، وإلى الرحمة بالتقوى، وإلى الهدى بالإنابة، فإن الله تعالى ذكره أوجب رحمته للمتقين، ومغفرته للتائبين، وهداه للمنيبين. قال الله عز وجل:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (1). وقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (2). وإياكم والأمانى، فقد عزت وأردت وأوبقت كثيراً حتى أكذبتهم مناياهم، فتناشوا التوبة (3) من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون. فأخبركم ربكم عن المثلات فيهم (4)، وصرف الآيات (5)، وضرب الأمثال؛ فرغب بالوعد، وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالى جيلا فجيل، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم وبين أظهركم، لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا، وانقطعت بهم الأسباب، فأسلمتم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب والعقاب {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا
(1) سورة الأعراف، عجز آية 156 وصدرها: واكتب لنا.
(2)
سورة طه، الآية 82 ..
(3)
التناوش: التناول.
(4)
المثلات: جمع مثلة بفتح فضم، وهى العقوبة.
(5)
أى بينها ووضحها مرة بعد أخرى، قال تعالى:" انظر كيف نصرف الايات لعلهم يفقهون ".سورة الأنعام، عجز ىية 56 وصدرها: " قل هو القادر على أن يبعث عليكم
…
".
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا}. إن أحسن الحديث وابلغ الموعظة كتاب الله. يقول اللع عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1). أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. إنه هو السميع العليم.
بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} .آمركم بما أمركم الله به، وأنهاكم عما نهاكم عنه، وأستغفر الله لى ولكم. (93).
(53)
خطبة جامعة للمأمون
خطب سنة 218 هـ فقال:
الحمد لله مستخلص الحمد لنفسه، ومستوجبه على خلقه، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أوصيكم عباد الله بتقوى الله وحده، والعمل لما عنده والتنجز لوعده؟ والخوف لوعيده، فإنه لا يسلم إلا من اتقاه ورجاه، وعمل له وأرضاه. فاتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم، واستعدوا للموت فقد أظلكم (2)، وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا، واعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا (3) فإن الله لم يخلقكم عبثاً، ولم يترككم سدى، وما بين أحدكم وبين الجنة والنار إلا الموت أن ينزل به، وأن غاية تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة الواحدة،
(1) سورة الأعراف، الآية 204.
(2)
أظله الشئ: غشيه أو دنا منه.
(3)
أى استبدلوا الآخرة بالدنيا.
لجديرة بقصر المدة، وإن غائباً يحدوه الجديدان (1) الليل والنهار، لحرى بسرعة الأوبة، وإن قادماً يحل بالفوز أو بالشقوة، لمستحق لأفضل العدة، فاتقى عبد ربه ونصح نفسه، وقدم توبته وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها، ويمينه التوبة ليسوفها حتى تهجم عليه منيته أغفل ما يكون عنها، فيالها حسرة على ذى غفلة أن يكون عمره عليه حجة، أو تؤديه أيامه على شقوة. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة (2)،
ولا تقصر به عن طاعته غفلة، ولا تحل به بعد الموت فزعة. إنه سميع الدعاء وبيده الخير. وإنه فعال لما يريد. (94).
مغزى الخطب السابقة
(فهذه) ثلاث وخمسون خطبة، منها سبع عشرة خطبة للنبى صلى الله عليه وسلم، وهى كما ترى تدور على بيان أصول العقائد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما فيه من الجنة والنار وغيرهما، وعلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعده لعدائه وأهل معصيته، وعلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعده لعدائه وأهل معصيته؛ فتملئ القلوب من خطبته صلى الله عليه وسلم -إيماناً وتوحيداً ومعرفة بالله تعالى -فهى لا كخطب غيره التى إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهى النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل فى القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة، ولا تذكيراً بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته، والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون. وتقسم أموالهم، ويبلى التراب أجسامهم. فياليت شعرى أي إيمان حصل بهذا؟ وأى توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟
ومن تأمل خطب النبى صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه، وجدها
(1) حداه يحدوه حدواً: حثه على السير.
(2)
(تبطره) أى تطغيه، من مبطر وهو الطغيان بالنعمة ..
كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الله جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه تعالى التى تحببه إلى خلقه، وايامه التى تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذى يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته واسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، ثم طال العهد وخفى نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها وزينوها بما زينوها به؛ فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغى الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التى لا ينبغى الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها (1).
هدى الصدر الأول فى الخطابة
كانت الخطب فى الصدر الأول لها المكانة العالية والمقام الأسمى. كانوا ينتقون من جواهر الألفاظ أعذبها وأظرفها أحلاها، ومن المعانى ارقها وأدقها وأغلاها، وكانوا يضمنونها آيات من كتاب الله تعالى لتزداد حلاوة وطلاوة، حتى إنه ليعاب على خطبة ليس فيها آية من القرآن الكريم. بلغت زمن الخلفاء الراشدين عنفوان شبابها (2)، فإن القرآن بما اشتمل عليه من أبدع الأساليب، أعانهم على الخوض فى عباب التفنن فى دائرة الإرشادات الجاذبة بمغناطيسها الأفئدة. وكانوا لا يتقيدون بوقت، بل كلما دعت الحاجة اجتمعوا، فألقيت عليهم استشارة أو وعظ أو تذكير أو إعلان أمر
…
إلخ.
كان الخطيب إذا قام لأمر ما سحر الألباب، وملك بمرصعات المواعظ ما لا يملك بمرهفات السيوف والرماح (3) يؤلف بين من تفرق، ويسكن
(1) ص 116 ج 1 زاد المعاد (وكذلك كانت خطبه صلى الله عليه وسام)، (والفقر) جمع فقرة كسدرة: وهى آخر السجعة.
(2)
عنفوان الشئ: أوله.
(3)
رهف السيف أرهفه: رققه، ورهف ككرم: دق ولطف.
الفتن، ويزيل المخاصمات، ويقطع المنازعات، يقيمهم إن شاء الله، ويقعدهم إن أراد بقوة اقتداره وشدة تأثيره. وكانت الخطابة يقوم بها الخلفاء الراشدون والرؤساء العظام، وكانت موضع احترام. كان يخطب الخطيب قائماً إلا خطبة النكاح، آخذاً بيده عصاً أو مختصرة أو قناة (1) أو غير ذلك.
فلما جاءت الدولة المروانية واستولى الترف (2) وعمّ، وتولى كرسى المملكة الوليد بن عبد الملك بن مروان، بدأ يخطب- وااسفاه- جالساً، ترفعاً منه واستهانة بهذا الموقف الجليل.
ومن هذا أخذت الخطابة فى الاضمحلال والتلاشى، فكان آخر خطيب آجاد من أئمة الإسلام المأمون بن هارون الرشيد من خلفاء الدولة العباسية، وترك الملوك الخطابة ووكلوا أمرها كغيرها من الأمور لغيرهم، فصارت منحطة القدر بعد الرفعة، وموضع الاستهانة بعد التجلة، تولاها أناس ما قدروها حق قدرها، وما دروا المقصود منها بجهالتهم المطبقة، حتى إنك لو طالبت أحدهم بتغيير الخطة المتبعة بما يستدعيه الزمان، ما أجابك إلا بقوله: لا يمكن للنفوس الآن أن تتزحزح هن غيها، وإن الخطب الآن هى من قبيل الرسوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله (3).
(4)
الجماعة فى الجمعة
يشترط لصحة الجمعة أن تكون فى جماعة، وعليه أجمع العلماء، إلا أنهم اختلفوا فىالعدد الذى تنعقد به الجمعة (فقال) ابو حنيفة ومحمد والأوزاعى والثورى: أقله ثلاثة سوى الإمام، واختاره المزنى والسيوطى، لأن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، لأنه جمع تسمية ومعنى، ولأن قوله تعالى فى الآية:
(1) المخصرة، بكسر الميم: قضيب ونحوه. والقناة: الرمح.
(2)
الترف بفتحتين: النعم.
(3)
من ص 188 إلى هنا كان الكلام فى الشرط الثالث من شروط صحة الجمعة وهو الخطبة.
"فاسعوا" يقتضى ساعين. وأقل الجمع ثلاثة. وقوله " إلى ذكر الله " يقتضى ذاكراً يسعى إليه وهو الإمام. ويؤيده ما روى عن طارق بن شهاب أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو صبى، أو مريض، أو امرأة. أخرجه أبو داود والبيهقى والدارقطنى، وصححه غير واحد (1). [226].
قال أبو داود: طارق قد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئاً. وقال البيهقى: هذا الحديث مرسل جيد. وقال النووى: هذا على شرط الشيخين.
(وجه) الدلالة منه أنه أطلق الجماعة، فشمل كل ما يسمى جماعة، وذلك صادق بثلاثة غير الإمام. ويشترط أن يكونوا ممن تصح إمامتهم.
(وقال) أبو يوسف والليث: أقل الجماعة اثنان سوى الإمام، لأن فى المثنى اجتماع واحد بآخر، والجمعة مشتقة من الجماعة، وفى اثنين اجتماع لا محالة.
(وقالت) المالكية: أقل الجماعة التى تنعقد بهم الجمعة اثنا عشر رجلا سوى الإمام ممن تجب عليهم الجمعة، بأن يكونوا ذكورا بالغين أحراراً مقيمين مستوطنين بنية التأييد، لحديث جابر: ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائماً يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام، فانفتل الناس غليها حتى لم يبق غلا اثنا عشر رجلا (الحديث) أخرجه أحمد والشيخان والترمذى وصححه، وهذا لفظ مسلم (2). [227].
(1) ص 209 ج 6 المنهل العذب (الجمعة للمملوك والمرأة) وص 172 ج 3 سنن البيهقى (من تجب عليه الجمعة) وص 164 سنن الدارقطنى.
(2)
ص 105 ج 6 الفتح الربانى. وص 288 ج 2 فتح البارى (إذا نفر الناس عن الإمام فى صلاة الجمعة .. ) وص 150 ج 6 نووى مسلم (قوله تعالى: وإذا رأوا تجارة أو لهواً .. ) وص 200 ج 4 تحفة الأحوذى (سورة الجمعة). و (العير) بالكسر: الإبل تحمل الطعام، ثم غلب على كل قافلة.
(وجه) الدلالة أن العدد المعتبر فى الابتداء يعتبر فى الدوام، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثنى عشر، دل على أن هذا العدد كاف.
(ورد) بأنه إنما يدل على صحتها باثني عشر، ولا يدل على أنها لا تصح بدون هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقى اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها انه لو بقى اقل من هذا العدد لم تتم بهم. أفاده السيوطى (1)
(وقالت) الشافعية والحنبلية وإسحاق: اقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون بالإمام.
(واحتجوا) بأحاديث ضعيفة. وأقرب ما يحتج به ما تقدم عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا فى نقيع الخضمات. قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون (2).
(وجه) الدلالة أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد فى الجمعة، فلا تصح إلا بعدد ثبت فيه التوقيف. وقد ثبت جوازها بأربعين، فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح. وتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلوا كما رأيتموني أُصلى (3). ولم تثبت صلاته بأقل من أربعين.
(ورد) بأنه لا دلالة فيه على اشتراط الأربعين، لأن هذه واقعة عين، وذلك أن الجمعة فرضت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة، فلم يتمكن من إقامتها هناك من أجل الكفار؛ فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا، واتفق أن عدتهم إذ ذاك كانت أربعين. وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة.
(1) ص 90 ج 1 الحاوى للفتاوى (ضوء الشمعة فى عدد الجمعة) ..
(2)
تقدم أثر رقم 37 ص 158.
(3)
تقدم رقم 23 ص 27 (صلاة الخوف).
وقد تقرر فى الأصول أن الأعيان لا يحتج بها على العموم. وقولهم: لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بأقل من أربعين، يرده:
(أ) حديث الانفضاض السابق، فإنه أتمها باثنى عشر. فدل ذلك على أن تعيين الربعين لا يشترط.
(ب) ما تقدم عن أبى مسعود الأنصارى قال: أول من قدم من المهاجرين إلى المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة، جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم اثنا عشر رجلا (1).
(واغرب) من ذلك استدلال البيهقى بقول ابن مسعود: جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا، فقال: إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم، فمن أدرك ذلك فليتق الله، وليأمر بالمعروف، ولينه عن المنكر، وليصل الرحم (2). [228].
(فاستدلاله) بهذا فى غاية العجب، لان هذه واقعة قصد فيها النبى صلى الله عليه وسلم ان يجمع أصحابه ليبشرهم، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد، فهل يظن انه لو حضر اقل منهم لم يفعل ما دعاهم لأجله؟ وتمامه فى الحاوى (3).
(وروى) عن أحمد وعمر بن عبد العزيز أنها لا تصح إلا بخمسين (لحديث) أبى أمامة أن نبى الله صلى الله عليه وسلم قال: الجمعة على الخمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة. أخرجه الدارقطنى والطبرانى (4). [229].
وفيه جعفر بن الزبير متروك ضعيف جداً. فالحديث ضعيف. وعلى فرض صحته فهو محتمل للتأويل، لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة. ولا يلزم من عدم وجوبها على ما دون الخمسين عدم صحتها منهم.
(1) تقدم اثر 36 ص 157.
(2)
ص 180 ج 3 سنن البيهقى (عدد الأربعين له تاثير فيما يقصد منه الجماعة).
(3)
ص 92 ج 1 الحاوى للفتاوى.
(4)
ص 164 سنن الدارقطنى. وص 176 ج 2 مجمع الزوائد (عدة من يحضر الجمعة).
(وقال) ابن حزم وداود والنخعى: تنعقد بواحد مع الإمام.
(وحكى) عن المازرى انها لا تنعقد إلا بثمانين. ولا مستند لهذا.
(قال) السيوطى: أما اشتراط ثمانين أو ثلاثين او عشرين أو تسعة أو سبعة، فلا مستند له ألبتة. وأما الذى قال باثنين، فإنه رأى العدد واجباً بالحديث والإجماع، رأى أنه لم يثبت دليل فىاشتراط عدد مخصوص، ورأى أن أقل العدد اثنان، فقال به قياساً على الجماعة. وهذا في الواقع دليل قوى لا ينقصه إلا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا أو بذكر عدد معين. وهذا لا سبيل إلى وجوده.
وأما من قال بثلاثة، فإنه رأى العدد واجباً في حضور الجمعة كالصلاة، فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة، فإنه لا يحسن عد الإمام منهم وهو الذى يخطب ويعظ (1).
وأما من قال بأربعة، فمستنده ما تقدم عن طارق بن شهاب (2).
ثم قال السيوطى: والحاصل أن الأحاديث والآثار دلت على اشتراط إقامتها في بلد يسكنه عدد كبير بحيث يصلح أن يسمى بلداً، ولم تدل على اشتراط ذلك العدد بعينه في حضورها لتنعقد، بل أى جمع أقاموها به صحت بهم. وأقل الجمع ثلاثة غير الإمام، فتنعقد بأربعة أحدهم الإمام. هذا ما أدانى الاجتهاد إلى ترجيحه. وقد رجح هذا القول المزنى (3).
(فائدة) الجماعة في الجمعة شرط انعقاد عند ابى يوسف ومحمد وهو يتحقق بالتحريمة. وشرط اداء عند أبى حنيفة والشافعى نوهو لا يتحقق إلا بإدراك ركعة، وشرط بقاء عند مالك وأحمد، وهو لا يتحقق إلا بتمام الصلاة
(1) ص 89 ج 1 الحاوى للفتاوى.
(2)
تقدم رقم 226 ص 275.
(3)
ص 95 ج 1 الحاوى للفتاوى.
وثمرة الخلاف انه إن انصرف المأمومون أو بعضهم- ولم يبق مع الإمام ما تنعقد به الجماعة في الجمعة- قبل التحريمة، صلى الإمام الظهر اتفاقاً.
وإن انصرفوا بعد التحريمة وقبل سجود الإمام لا تبطل جمعته، بل يتمها عند ابى يوسف ومحمد. وتبطل عند الأئمة الأربعة ويستأنفها ظهراً. وإن انصرفوا بعد سجود الإمام لا تبطل ويتمها جمعة عند ابى حنيفة وصاحبيه، وكذا عند الشافعية إن نووا المفارقة بعد تمام الركعة الأولى. وتبطل عند مالك وأحمد.
(قال) الشيخ إبراهيم الحلبى: ويشترط بقاؤهم إلى السجدة الأولى عند ابى حنيفة، فلو نفروا قبلها او نقصوا يستقبل من بقى الظهر. وعندهما (يعنى الصاحبين) يشترط بقاؤهم إلى التحريمة، فلو نفروا بعدها يتم من بقى الجمعة. وعند زفر يشترط بقاؤهم إلى تمامها بالقعود قدر التشهد، فلو نفروا قبل ذلك يستأنف من بقى الظهر. للإمام (1) أن الجماعة شرط فلابد من دوامه كالوقت. وللصالحين (2) أنها شرط للانعقاد، فلا يشترط دوامها كالخطبة. وأبو حنيفة يقول: نعم هى شرط للانعقاد، لكن انعقاد الصلاة وتحقق تمامه موقوف على وجود تمام الأركان، لأن دخول الشئ في الوجود بدخول جميع أركانه، فما لو يسجد فيها لا تسمى صلاة، ولذا لا يحنث بها لو لف لا يصلى، فكان ذهاب الجماعة قبل السجود كذهابهم قبل التكبير من جهة أنه عدمت الجماعة قبل تحقق مسمى الصلاة، بخلاف الخطبة، لأنها تنافى الصلاة، فلا يشترط دوامها إلى تحقق الصلاة. ولا عبرة ببقاء النسوان والصبيان، لأنها لا تنعقد بهم ابتداء، فكذا بقاء بخلاف العبيد وغيرهم من سائر من لا تجب عليه لما تقدم (3).
(1) يعنى الدليل لبى حنيفة.
(2)
الصاحبان: أبو يوسف ومحمد.
(3)
ص 558 غنية المتملى في شرح منية المصلى (الجمعة).