الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظام السياسيّ الإسلاميّ:
لا ينتظرن أحد أن نقدم له منهجًا مفصلًا لنظام سياسيٍّ إسلاميٍّ، فذاك لا يمكن قبل أن تقوم دولة الإسلام، ولا ينتظرن أحد أن نقدم صورًا من التاريخ الإسلاميّ، فذاك موضع دراسة أخرى.
إنما نقدم -بمشيئة الله- تخطيطًا لنظام سياسيٍّ إسلاميٍّ، يحوى خطوطه الرئيسية التي لا يصح -إن تخلفت كلها أو بعضها- أن يقال عن نظامٍ ما، أنه نظام إسلاميٌّ.
ونحن في هذا -بإذن الله -نقدم شيئًا بدون دليل، وفي اعتقادنا، أنه يلزم لنظام سياسيٍّ إسلاميٍّ ثلاثة خطوط:
أولها: شرعية الإسلام تظله.
ثانيها: أمة تحمله.
ثالثها: سلطة تحميه.
ونتناول كلًّا بكلمة:
أولًا: الشرعية الإسلامية
قد يظن أن هذا اللفظ مستعار من أنظمة أجنبية، لكن المتأمل يجد أنه في الأصل لفظ إسلاميّ من ناحية اشتقاقه، ثم من ناحية دلالته؛ فنحن أسبق من غيرنا إلى الشرعية، وأرسخ قدمًا والحمد لله، فالشرعية اشتقاق من فعل شرع، وبين الشرعية والشريعة جناس كامل من ناحية اللفظ، وكذلك من ناحية المعنى.
ففي فقه الإسلام لا شرعية بغير شريعة {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} 1، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2.
وحتى تظل الشرعية الإسلامية نظامًا ما لابد من ثلاثة شروط:
أولها: أن يكون لله الشرع ابتداءً:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
1 الجاثية 18.
2 الشورى 21.
وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} 1.
وألّا يشاركه هذا السلطان أحدٌ من البشر، وإلّا كان الشرك والكفر {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2.
ورَدُّ الشرع إلى الله ابتداءً لا يعني الجمود عن الاجتهاد فيما سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان، أو فيما جاء ظنيّ الدلالة، وذاك أمر الله إلينا {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} 3.
والاجتهاد، وإن لم يكن شرعًا ابتداءً، إلّا أنه شرع ابتناءً لا ابتداءً، أي: استمدادًا من شرع الله، واستنباطًا منه، ومن ثَمَّ، ففي ظل دائرة الاجتهاد نحن كذلك في ظلال الشرعية الإسلامية.
الشرط الثاني: أن تكون شريعة الله هي العليا
وشريعة الله لا تكون عليا إلّا حين لا تكون معها شريعة أخرى، ولا تكون فوقها شريعة أخرى، وليست الشريعة -كما أشرنا من قبل- قاصرةً على مجال الأحكام، وإنما تمتد إلى كل المجالات، وتشمل جميع الأنشطة.
ولقد حرص الكتاب على التنويه بجعل شريعة الله هي العليا في أكثر من موضع، فقوله تعالى:{وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} 4 تعني: أن تكون شريعة الله هي العليا؛ لأن لفظ "كلمة" اسم جامع لكلمات الله، وبكلماته نزلت شريعته.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" 5 تعني: نفس الشيء.
1 الشورى 53.
2 الشورى 21.
3 النساء 83.
4 التوبة 40.
5 رواه الستة.
وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
الآية الأولى تعني: لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، أي: لا يمكن لكم رأي ولا شرع ولا نظام فوق شرع الله ورسوله، وهو ما عنيناه بأن تكون شريعة الله هي العليا.
أما الثانية: فهي تحرم رفع الصوت فوق صوت النبيّ، وليس من المعقول أن يحرم رفع الصوت ماديًّا فوق صوت النبيِّ، ويجوز رفعه معنويًّا بجعل شرع أو رأيٍ فوق شرع النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل يمكن أن نقول: إن صوت النبيِّ هو الشرع {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} 2.
ولقد يكون هذا الشرط غريبًا على من قبلوا تطبيق شريعة الله، لكن يبدو لازمًا بالنسبة لقومٍ نصوا في بعض دساتيرهم على أن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسيّ؛ فأجازوا بذلك أن تكون معها شرائع أخرى، أو آخرون جعلوا الشريعة الإسلامية مصدرًا ثالثًا بعد التشريع الوضعيّ والعرف، فجعلوا فوق شريعة الله شرائع أخرى، كذلك بالنسبة لمن يطبقون، فقد يجعلون مع شريعة الله شرائع أخرى في بعض المجالات التي يظنون أن الشريعة سكتت عنها، وفي الحقيقة أنها لم تسكت، مثل النظم المصرفية، وكثير من النظم الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية!
من هنا كان لابد من التنويه بهذا الشرط لنقول: إنه إذا لم تكن شريعة الله هي العليا، لا شريعة معها، ولا شريعة فوقها، فإنه لا شرعية للنظام الذي يزعم لنفسه أنه إسلاميّ.
1 الحجرات 1، 2.
2 النجم 3، 4.
الشرط الثالث- أن تطبق شريعة الله شاملةً غير مجزأة:
وشريعة الله شاملة العقيدة والأخلاق، وشاملة الشعائر والمعاملات، وهي بهذا الشمول لا تقبل التجزئة:
فطرة:
لأنها بناء متكامل يشد بعضه بعضًا، وبتر بعض الشريعة كهدم بعض البناء، إن لم يؤد إلى هدمه كله، فعلى الأقل يعجزه عن أداء وظيفته كاملة.
أو هي شفاء متكامل، وترك بعض الدواء بؤدي إلى عدم الشفاء، إن لم يؤد إلى تفاقم المرض.
وهي لا تقبل التجزئة شرعًا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الإسلام هو هذه الشريعة المتكاملة، وبتر جزء، أو استبدال غيره به، لا نستطيع معه أن نقول إنه هو الإسلام الذي رضيه لنا الله!
فضلًا عن أن الله سبحانه حذَّرَنَا هذه الفتنة، فقال:{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 1.
وعقَّب على هذه التجزئة بقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2.
فالذي يأخذ كل نظامه من عند غير الله؛ كالذي يأخذ بعض نظامه من عند غير الله، قد رضي حكم الجاهلية، وأعرض عن حكم الله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حالت شفاعته دون حَدٍّ من حدود الله، فقد ضاد الله في حكمه "3 فجعل تعطيل حَدِّ واحدٍ من حدود الله، مضادة لله في حكمه، ومحادة له في أمره، فكيف بمن عطل أكثر من حَدٍّ، ومنع أكثر من حكم؟
وهكذا كانت تجزئة شريعة الله فتنةً.
1 المائدة 49.
2 المائدة 50.
وجاهلية، ومحادة لله ورسوله، ومن ثَمَّ كانت مرفوضة غير مقبولة.
وهكذا تكتمل للشريعة شروطها، إذا كان لله الشرع ابتداءً، إذا كانت شريعة الله هي العليا، إذا طبقت شاملة غير مجزأة.
قَدِمَ سليمان بن عبد الملك المدينة، فأرسل إلى أبي حازم، فكان مما قاله سليمان:
- يا أبا حازم: ما لنا نكره الموت؟
- لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب..
- فقال: يا أبا حازم: كيف القدوم على الله؟
- قال يا أمير المؤمنين: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء، فكالآبق يقدم على مولاه.
- فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما لي عند الله؟
- قال أبو حازم: أعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
- فقال سليمان: فأين رحمة الله؟
قال: قريب من المحسنين..
- ثم سأله بعد ذلك؟ ما تقول فيما لحن فيه؟
- قال أو تعفيني؟ ثم قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف، وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين، ولا رضًى منهم1.
1 تفصيل ذلك في تفسير القرطبي.
وقيام الشرعية الإسلامية على هذاالنحو، أو تطبيق الشريعة الإسلامية بهذه الشروط، يستتبع ويستلزم للنظام الإسلاميّ أن توجد أمة تحمله، وأن توجد سلطة تحميه، ولهذا وتلك من السمات والشروط ما يحتاج لشيء من التفصيل.
ثانيًا- أمة تحمل الحق:
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} 1.
وهذه الأمة التي جعل الله لها الخيرية على سائر الأمم، جعلها بحقها وشروطها، وهي إن قامت فيها هذه الشروط كتب الله لها الخلود، ولقد بقيت الأمة الإسلامية رغم المحن والأزمات، ورغم تقلبات الحكم والحاكم، بقيت -بحمد الله- حافظة لكتاب الله، محفوظة بعناية الله، حتى لقد صح ما قاله أحد الأئمة من أن العصمة في الإسلام للأمة لا للإمام، وصحَّ ما نقوله: من أن الأمة الإسلامية كانت بعد الكتاب العزيز من أكبر آيات الله العزيز الحميد.
فلو أن أمة أخرى تعرضت لما تعرضت له الأمة الإسلامية؛ من كيد وبطش وعسف، لما كان لها اليوم وجود.
وإن الأمة التي أخرجت أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وعمر بن عبد العزيز من الحكام، وأخرجت من العلماء العاملين: أبا حنيفة ومالكًا والشافعيَّ وأحمد بن حنبل، ومن بعدهم الذين {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} 2.
وحج الرشيد عامًا فلقيه عبد الله العمريّ في الطواف، فقال: يا هارون، قال: لبيك يا عم، قال: كم ترى هنا من الخلق لا يحصيهم إلّا الله، قال: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه، وأنت واحد تسأل عنهم كلهم، فانظر كيف تكون، فبكي هارون وجلس، فجعلوا يعطونه منديلًا للدموع، ثم قال له: إن الرجل ليسرع في مال نفسه فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن أسرع في مال المسلمين3.
1 الأعراف 181.
2 الأحزاب 22.
3 سراج الملوك، للعلامة أبي بكر محمد بن الوليد، طبعة سنة 1311، وهامش مقدمة ابن خلدون ص66.
والأمة الإسلامية، وإن كانت اليوم تبدو مفككة ضعيفة، فإنها تحمل عناصر الابتعاث، وهي في ابتعاثها لا تحتاج إلى وقت طويل! وقد أدرك ذلك بعض المستشرقون فقاله وحذر منه.
ونحن بحاجة في هذه العجالة، أن نشير إلى سمات هذه الأمة، وتكملها أخرى أشرنا إليها في مكان آخر.
فهي أولًا: آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر
ولا يمكن أن تأمر بمعروف ولا تأتيه، أو أن تنهى عن منكر وتأتيه، ففاقد الشيء لا يعطيه، فأمرها ونهيها يعني: أنها تقيم هذا المعروف، وتلفظ ذلك المنكر، وكل ما أمر به الله ورسوله معروف، بل هو أعرف المعروف، وكل ما نهى عنه الله ورسوله منكر، بل هوأنكر المنكر.
وهي ثانيًا: تؤمن بالله
وإيمانها بالله يعني: أنها تقوم على التوحيد، ولا تقارب بين توحيد وتثليث، ولا تقارب يبن توحيد وشرك، ولا تقارب بين توحيد وغيره من العقائد الفاسدة.
وهي ثالثًا: تقوم مع التوحيد على الوحدة
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} 1.
وهذه الجنسيات، وهذه الحدود دخيلة عليها، ليست من أمر الله في شيء، والأمة الواحدة هي التي انتصرت من قبل، ولقد رفض الله صلى الله عليه وسلم عصبية الجاهلية، وقال: دعوها فإنها منتنة، ورفض المناداة بالعصبية بين الأنصار والمهاجرين.
1 الأنبياء 92.
حين نادى أحدهم: يا للأنصار، ونادى آخر: يا للمهاجرين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا، وقال: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟
ونزل الكتاب العزيز يؤكد قول الرسول الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آَيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} 1.
وهكذا كانت الفرقة والجنسيات والحدود جاهليةً أو كفرًا، وكانت الوحدة أخت الإيمان:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} 2.
وامتدح الرباط الذي وحد الأمة في كتابه، فقال عن المهاجرين:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 3.
وهكذا قامت دولة الإسلام الأولى، تضم كل من قال: لا إله إلّا الله، بغير تفرقة لوطن، أو جنس، وبغير اعتراف بحدودٍ أو جنسية؟
وهكذا ينبغي أن نقوم مرة أخرى!
ثالثًا- سلطة تحمي الحق:
قلنا: لابد من أمة تحمل الحق، والسلطة تحمي الحق، هذه السلطة لابد لها من أمرين تقوم بهما:
1-
إقامتها شريعة الله:
وهذه أساس شرعيتها الأولى.
1 آل عمران 100، 101.
2 آل عمران 102، 103.
3 الحشر 8.
4 الحشر 9.
وبغيره تغدو سلطة غير شرعية يجب جهادها، وإقامتها شريعة الله لابد أن يكون على النحو الذي أشرنا إليه.
2-
قيامها على رضى المسلمين بها:
والأدلة على ذلك كثيرة، نذكر منها:
أ- أن الرضى أساس المعاملات في الإسلام {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} 1. والإمامة أو الخلافة عقد بين الخليفة والرعية يلزم له الرضى.
ب- أن الرضى لازم لصحة الإمامة الصغرى: إمامة الصلاة، فوجب الرضى من باب أولى لصحة الإمامة الكبرى: إمامة المسلمين.
ج- لقول الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} 2 فدلت الآية في الطاعة على الشرط الأول، وهو إقامة شريعة الله، ودلت بلفظ "منكم" على الشرط الثاني: وهو الرضى، فإنهم لا يكونون منا بغير رضًا منا.
د- لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد حرص على غرس هذا الأصل في المجال السياسيّ بما فعله ببيعة العقبة الأولى والثانية، مع أنه رسول الله، وما كان بحاجة إلى رضى الناس؛ لكنه حرص حين مهد لإقامة الدولة أن تكون إمامته ورئاسته لهذه الدولة برضى من المسلمين.
هـ- ثم ما فعله حين ترك تعيين خليفة من بعده؛ ليتم اختياره برضى المسلمين، الأمر الذي حرص عليه الخلفاء الراشدون من بعده على تفصيل ليس هنا محله.
و لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "فمن بايع رجلًا من غير مشورةٍ من المسلمين، فإنه لا بيعة له، ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلَا".
ز- وهذا ما طبقه عمر بن عبد العزيز حفيد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، حين ولي أمر المسلمين فقال: "أيها الناس، لقد ابتليت بهذا
1 النساء 29.
2 النساء 59.
الأمر من غير رضًا مني، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعةٍ، فاختاروا لأنفسكم".
فأعاد بذلك تصحيح الوضع إلى ما كان عليه في عهد الراشدين، فلذا قامت السلطة على شريعة الله، ثم على رضى المسلمين، فلا يهم الشكل بعد ذلك:
لا يهم أن نسميها خلافة، أو أن نسميها إمامة، أو نسميها إمارة، أو غير ذلك من الأسماء، ما دام قد توافر لها هذان الركنان الأساسيان، فإن انهار أحدهما انهارت الشرعية التي تستند إليها السلطة، وفي الأمر تفصيل ليس محله هذا المقام1.
1 راجع في تفصيل ذلك نظرية الخروج، المشروعية الإسلامية العليا: للدكتور على جريشة.
وبعد:
* فتلك شريعة الله، البذرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حينٍ بإذن ربها، وهي كما أشرنا في أكثر من موضع لا تقبل التجزئة.
* وواجب الدولة بالنسبة لكل جوانبها واجب مزدوج؛ فهو إيجابيّ من ناحية، يرعى ويصون ويوجه ويدافع بالكلمة، والصورة، والسيف!
وهو سلبيّ من ناحية أخرى، يمنع ويحول دون أن يخدش عقيدةً، أو خلقًا، أو شعائرَ، أو نسكًا، بالكلمة المنشورة أو المنظورة، وبالتربية في المدارس والبيوت وبالحدود، والقصاص، والتعزير!
وهو تعريف الخلافة، وتعريف كل حكم شرعيّ، أو يريد لنفسه الشرعية!
* ومن ثَمَّ:
فعلمانية القانون.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية التعليم.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية الإعلام.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية المجتمع.. بعلمانية تقاليده، وخلقه، وعاداته.. عدوان على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية الاقتصاد.. بقيامه على الربا، أو افتقاره لخصائصه الرئيسية.. عدوان كذلك على الشرعية الإسلامية.
وعلمانية الحكم..بقيامه على غير الشرعية، أو على غير رضى الناس.. عدوان صارخ على الشرعية الإسلامية.
تمامًا.. كما لا يقبل من الفرد أن يصلي ويترك الزكاة.
وكما لا يقبل منه أن يصوم، ويقول الزور أو يعمل به.
وكما لا يقبل منه أن يحج، ويرفث أو يفسق.
وكما لا يقبل منه أن يفعل ذلك كله، ثم يترك الجهاد، ذروة سنام الإسلام، أو يجاهد، ثم يستبيح لنفسه ما نهى عنه الإسلام؛ من كذب، أو خلف، أو خديعة، أو خيانة، إنها لكبيرة ممن وضع نفسه هذا الموضع.
كذلك هي كبيرةٌ ممن رفعوا شعارات الإيمان أو الإسلام، ثم أعرضوا عن حكم الله في الاقتصاد، أو في السياسة، أو في الاجتماع، أو في العقيدة، أو في الأخلاق!
* ويبقى -كيف لنا- أن نعود إلى تحكيم الشريعة كلها، كما كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن تبعهم بإحسان؟
والرد..
رسول الله بدأ من القاعدة، لكنه لم يغفل القمة؛ فكان تركيزه على الضعفاء والمساكين، وكانت رسله وكتبه إلى الملوك، ونحن كثيرًا ما بدأنا من القاعدة، وركزنا عليها، وتركنا القمة ليستعملها غيرنا في حربنا، وقامت أمامنا الصعاب في القاعدة.
فنحن نبني، وغيرنا يهدم؛ إذاعةً، تليفزيون، سينما، صحافة، رأي عام، وحرب القمم لنا -حرب مجردة من المبادئ والقيم الإنسانية التي كان يعرفها العرب في جاهليتهم، والتي دفعتهم أن يفكوا الحصار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين معه، بعد ما ظنوا فيه ثلاث سنين، ودفعت أمثال أبي سفيان أن يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا سئل عنه، وأمثال عتبة أن يشهد للقرآن شهادة حق..
فهل لنا أن نصبر على القاعدة حتى تخلص لنا قاعدة صلبة الإيمان، قوية اليقين؟
وهل لنا أن نبحث عن قمة عاقلة، تسمح لنا بالبناء دون أن تهدم، ودون أن تحارب من يبني، ولها ألّا تنازع الملك والسلطة؟
إن قناعة عريضة مؤمنة، وقمة عاقلة متبصرة، هي أمل الإسلام القريب، والله المستعان..