الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معارك طاحنة استمرت قرنين كاملين، وفي قصص التاريخ لبطولات المسلمين في هذه الحروب وتفننهم فيها، ما يحتاج إلى أن يكتب بأحرفٍ من نور.
وبرز نور الدين الشهيد محمود بن زنكي التركي، ثم برز صلاح الدين الأيوبي الكرديّ، وغيرهما ممن قادوا جماهير الأمة إلى النصر؛ لتثبت عالميّة هذه الدعوة، فلا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلا بالتقوى، وجاهد جماهير من التركستان الحبيبة -التي ترزح تحت الالحاد الشيوعيّ المجرم- وحرروا أرض الإسلام من جحافل الصليبية الحاقدة، بينما لم يجد هؤلاء من يقف إلى جوارهم يوم أعدمت روسيا منهم ثلاثة ملايين !.
وأيقن الغرب المسيحيّ أنه مهما ضعفت دولة الإسلام، فإنه لن يستطيع النَّيْلَ منها ومن أمتها حتى ينال أولّا عقيدتها وفكرها.
وكانت المرحلة الثانية: مرحلة الاستشراق والتبشير.
ثانيًا: الاستشراق
وقبل أن يظهر التبشير كبديل عن الحروب لتحطيم عقيدة المسلمين وفكرهم، نشير إلى أن الحروب الصليبية أنتجت كذلك إنتاجًا فكريًّا، هو الاستشراق؛ إذ نفر قوم من الغربيين يدفعهم التعصب الصليبيّ إلى الكتابة عن الإسلام، فأفقدهم التعصب أمانة العلم، وعمدوا إلى تشويه الإسلام من عدة نواح:
- فرددوا أن القرآن من وضع محمد عليه الصلاة والسلام، وأن سذاجة الصحابة وإيمانهم دفعهم إلى نقله على أنه من عند الله.
- وخلطوا في مصادر الأحكام الإسلامية بين المصادر الإلهية: القرآن والسنة، وبين الاجتهاد، ونظروا إلى الجميع على أنها من صنع البشر، فسووا بينها في المنزلة!
- ودعوا إلى التصرف الإسلاميّ لما يؤدي إليه في أكثر الأحيان من صرف أصحابه عن الجهاد، وهو أكثر ما يثير الصليبيين ويفزعهم. راجع "الصوفية في الإسلام" للمستشرق نيلكسون ص7، 8.
وقد بدأ الاستشراق في الأندلس -أسبانيا- في القرن السابع الهجري، حين اشتدت حملة الصليبيين الأسبان على المسلمين، فدعا "الفونس" ملك قشتالة، ميشيل سكوت؛ ليقوم بالبحث في علوم المسلمين وحضارتهم، فجمع سكوت طائفةً من الرهبان في بعض الأديرة بالقرب من مدينة طليطلة، وشرعوا يترجمون بعض الكتب من اللغة العربية إلى لغات الفرنجة، ثم قدمها سكوت لملك صقيلة الذي أمر باستنساخ نسخ منها، وبعث بها هديةً إلى جامعة باريس.
وكذلك قام رئيس أساقفة طليطلة "ريمون لول" بنشاط كبير في الترجمة، ومع الزمن، توسع الأوربيون بالنقل والترجمة في مختلف الفنون والعلوم من الهيات وطب وهندسة وفلك وغيرها، وبعد اختراع الطباعة، أنشئت في أوربا مطابع عربية لطبع عدد من الكتب التي كانت تدرس في المدارس والجامعات الأوروبية.
ولم يكن عمل المستشرقين منفصلًا عن عمل المبشرين، بل كانت مهمة كل من الطائفتين تدخل في الأخرى، وكان فشل الصليبيين في حملاتهم المتوالية على الشرق الإسلاميّ دافعًا للمزيد من الاهتمام بالثقافة الإسلامية، وقد ظهرت أخيرًا وثيقةٌ خطيرةٌ تلقي الضوء على تحوّل الصليبيين من الغزو العسكري إلى الغزو الفكريّ، وهذه الوثيقة تتضمن وصية القديس "لويس" ملك فرنسا، وقائد الحملة الصليبية الثامنة، التي انتهت بالفشل والهزيمة ووقوع "لويس" في أسر المصريين في مدينة المنصورة، وقد بذل الملك لويس فدية عظيمة للخلاص من الأسر، وبعد أن عاد إلى فرنسا، أيقن أنه لا سبيل إلى النصر والتغلب على المسلمين عن طريق القوة الحربية؛ لأن تدينهم بالإسلام يدفعهم للمقاومة والجهاد وبذل النفس في سبيل الله؛ لحماية ديار الإسلام وصون الحرمات والأعراض به، والمسلمون قادرون دومًا للانطلاق من عقيدتهم إلى الجهاد ودحر الغزاة، وأنه لابد من سبيلٍ آخر، وهو تحويل التفكير الإسلاميّ وترويض المسلمين عن طريق الغزو الفكريّ، بأن يقوم العلماء الأوربيون بدراسة الحضارة الإسلامية، وهكذا تحولت المعركة من ميدان السلاح إلى معركة في ميدان العقيدة والفكر، بهدف تزييف عقيدة المسلمين الراسخة التي تحمل طابع الجهاد، وتدفع المؤمنين إلى الاستشهاد.
وقد سار الأوربيون في طريق تنفيذ وصية القديس "لويس" في
تزييف العقيدة الإسلامية، وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان عن طريق التفرقة بين العقيدة والشريعة، وتصوير الإسلام بصورة الدين الذي يبذل غاية همه في العبادة كالمسيحية، إلى أن وصلوا إلى الفصل بين الدين والدولة، وفقد المسلمون ذلك السر الخطير الكامن في أصالة عقديتهم وجوهر دينهم1.
ويرى كثير من الباحثين أن الاستشراق تولد من الاستعمار والتبشير.
فالاستعمال: يرى في المفهوم الإسلاميّ السليم ما يعطي المجتمع الإسلاميّ قوةً تحول بينه وبين سيطرة الاستعمار، فعمل المستشرقون على تقويض العقيدة الإسلامية، وإحلال مفاهيم تحل الصداقة بين الدولة الغالبة والمغلوبة محلها، تحت اسم: الحضارة، أو العالمية، أو وحدة الثقافة والفكر البشريّ.
وأما التبشير: فإنه يستهدف الحيلولة دون توسيع الإسلام وانتشاره، وعدم منافسته للمسيحية في البلاد التي تحاول القيام بالتبشير ونشر المسيحية فيها.
والخطر الأكبر في نظر المبشرين هو في وصول مفاهيم الإسلام الصحيحة إلى عالم الغرب نفسه، ومما يذكر: أن المسلمين لما فتحوا مدينة القسطنطينية -عاصمة الدولة الرومانية الشرقية، وفيها مركز البابوية للكنائس الشرقية- هبَّ رجال الكنيسة، وقد هالهم الخطب العظيم، فأخذوا في الافتراء والتشنيع على الإسلام، وتشويه أحكامه الإلهية العادلة، وكان الدافع لهم في هذه الحملة الحيلولة بين رعاياهم الذين أقبلوا على الدخول في دين الله أفواجًا؛ ليصدوهم عن الإسلام الذي يبيح تعدد الزوجات والطلاق.
وجاءت الصهيونية فدخلت ميدان الاستشراق؛ لتحول دون اجتماع المسلمين في وحدة تقاوم اليهودية العالمية، وتواجه دولة اليهود الباغية -اسرائيل، والمستشرقون اليهود يعملون في هذا المجال.
1 "الإسلام في وجه التغريب: مخططات الاستشراق والتبشير" للأستاذ أنور الجندي ص7، 8.
تطور الاستشراق:
وفي مطلع القرن الثالث عشر الهجري -أواخر القرن الثامن عشر الميلادي- عمد المستشرقون إلى تغيير أساليبهم، وأرادوا أن يظهروا بمظهر جديد، هوما زعموا من تحرير الاستشراق من الأغراض التبشيرية، والاتجاه به وجهة البحث العلميّ البحت، فأنشئت كليات لتدريس اللغات الشرقية في عواصم أوربا؛ مثل: لندن وباريس وليدن وبرلين وبطرسبرج وغيرها، وظهرت فيها أقسام خاصة لدراسة اللغة العربية، وبعض اللغات الإسلامية؛ كالفارسية والتركية والأردية، وكان الغرض منها تزويد السلطات الاستعمارية بخبراء في الشئون الإسلامية، ثم أخذ الطلاب المسلمون يؤمون هذه الكليات الأوربية للدراسة فيها، وبذلك تأثر الفكر الإسلاميّ بما يلقيه المستشرقون في أذهان هؤلاء المبعوثين من أبناء المسلمين، ثم تسلل المستشرقون إلى الدوائر العلمية، والجامعات في الدول الإسلامية، بل إلى المجامع العلمية في القاهرة ودمشق وبغداد، وقامت المؤسسات الدينية والسياسية والاقتصادية في الغرب بما كان يقوم به الملوك في الماضي؛ من الأغداق على المستشرقين، وتقديم المنح والمعونات لهم.
وقد أنشأت الدول الاستعمارية عدة مؤسسات في البلاد الإسلامية التي خضعت لنفوذها، لخدمة الاستشراق ظاهريًّا، وكان هدفها الحقيقيّ خدمة الاستعمار والتبشير الكاثوليكيّ والبورتستانتي، من هذه المؤسسات في مصر: المعهد الشرقي بدير الدومينيكان، والمعهد الفرنسي، وندوة الكتاب، ودار السلام، والجامعة الأمريكية، وفي لبنان: جامعة القديس يوسف -وهي جامعة بابوية كاثوليكية، وتعرف الآن بالجامعة اليسوعية، والجامعة الأمريكية ببيروت، وكانت تسمى من قبل: الكلية السورية الإنجيلية، وهي بروتستنتية، وفي سورية: مدارس اللاييك، والفرير، ودار السلام، وغيرها، وهكذا في كل الأقطار الإسلامية..
أهداف المستشرقين:
أولًا: الحيلولة بين الشعوب النصرانية وبين الإسلام، فقد عمل المستشرقون على تشويه الإسلام وحجب محاسنه؛ لاقناع قومهم بعدم صلاحيته لهم نظام حياة، ولعل هذا هو أخطر الجوانب التي قام لأجلها
الاستشراق والتبشير، وذلك في أعقاب الحروب الصليبية، وعودة المحاربين إلى أوربا، يحملون صورة مشرقة لمعاملات المسلمين لهم، وسماحة الإسلام، وقد عمد رجال الكنيسة إلى إخراس الألسنة المنصفة، وحاولوا ترجمة القرآن لتزييف مفاهيمه وانتقاصها.
وقد استغل الاستشراق كراهية الأوربيين للإسلام بعد التوسع العثمانيّ في أوربا، وما صحبه من تعصب وحروب استمرت عدة قرون، فعمل المستشرقون على تعميق الكراهية والأحقاد في نفوس الأوربيين، وتغذيتها بالشبهات والأباطيل، بهدف حجب الإسلام عن أوربا، والحيلولة دون نفاذه إليها.
ثانيًا: تأييد الغزو الاستعماريّ لبلاد المسلمين، والعمل لتحطيم المقاومة الإسلامية، بتأويل الجهاد، وصرف أنظار المسلمين إلى الدعة، والقعود عن الجهاد في سبيل الله، ومدافعة الغزاة بالاشتغال بالعبادة والزهد، وتسميتها بالجهاد الأكبر، وتحطيم وحدة المسلمين، وتمزيق الدول الإسلامية، وعزل الشريعة الإسلامية عن التطبيق في المجتمع الإسلاميّ، وإحلال الأنظمة القانونية والاقتصادية والسياسية والتربوية لتحلَّ محلَّ الإسلام بالقوة.
ثالثًا: فصل المسلمين عن جذورهم الثابتة الأصيلة، بتشويه تلك الأصول، وعزلها عن مصادرها، وهدم المقوّمات الأساسية للكيان الفرديّ والاجتماعيّ والنفسيّ، أمام الاستعمار وثقافته وفكره، والتأثير في نفوس المسلمين، وزحزحة عقائدهم بما يفتح للتبشير المسيحيّ طريقًا إلى تحويل بعض ضعاف العقيدة إلى ملاحدة وأتباع1.
والخلاصة: فقد كان المستشرقون طلائع للمبشرين، يمهدون السبيل أمامهم؛ لتشكيك المسلمين في عقائدهم، ويفتحون أمام دعاة النصرانية السبيل للطعن في الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم بأنواعٍ شتَّى من الشعوذة العلمية، باسم البحث والاستنتاج التحليليّ.
تلاميذ المستشرقين:
وتبدو خطورة الاستشراق في آثاره الخطيرة التي يفرضها المستشرقون على مناهج التعليم والثقافة والفكر في العالم الإسلاميّ،
1 الإسلام في وجه التغريب ص370، 371.
وقد حرص المستشرقون على كسب الأنصار، واستخدام الأتباع؛ لترديد مفترياتهم على الإسلام، وافتعال معارك حول عقائده وآدابه ومختلف أحكامه؛ لتعميق المفاهيم التي يريدون فرضها وترسيخها في الأذهان، وتوسيع دائرة الانتقال بها.
ولقد كان طه حسين في مقدمة الذين أعلنوا الاعجاب والتقدير لمناهج المستشرقين، ويعتبر حامل لواء الدفاع عنهم وعن أهوائهم، وكثيرًا ما يقول:"أن هذه الحقيقة، أو تلك في تاريخ المسلمين، أو فكرهم، مما لا يرضى بها الاستشراق" وهذا أسلوب لا يقوم عليه إلّا واحدٌ من أهل التبعية، حتى قال بعضهم: أن طه حسين ليس إلّا مستشرقًا من أصل عربيٍّ، وقد كانت أمانته للفكر الغربيّ ولمذاهب الاستشراق تفوق أمانة المستشرقين أنفسهم، وهكذا كان متابعًا لهم، مقتنعًا بها يقولون إلى أبعد حدود الاقتناع، حتى في تلك المسائل الخطيرة، كقولهم ببشرية الرسول، وبشرية القرآن، وكانت كتاباته توحي بذلك، وإن لم يعلنه جهارًا، بعد أن صودر كتابه "في الشعر الجاهلي".
وأعجب ما في طه حسين ولاؤه الشديد لانطواء المسلمين تحت لواء الغرب، وانصهار الإسلام في بوتقة الأممية، والمسيحية واليهودية والغرب جميعًا، فهو لا يرى للعرب والمسلمين سبيلًا للنهضة إلّا في هذا الأنصهار، وهذا الاحتواء والذوبان، وقد صرّح بذلك في كتبه، وخاصَّةً ما أورده في كتاب "مستقبل الثقافة في مصر" فهو يرى أن العرب قومٌ مستعمرين؛ كالرومان والفرس.
ويظهر اتجاه طه حسين في حرصه على نشر الكتب التي تثير الشبهات، وفي مقدمتها "رسائل إخوان الصفاء" وتجديد طبع "ألف ليلة وليلة"، وعنايته بدراسة سير المجان من الشعراء في كتابه "حديث الأربعاء" وهو ثلاثة مجلدات، وقد خرج من دراستهم بشبهة مسمومة هي قوله:"إن القرن الثاني للهجرة كان عصر شكٍّ ومجون"، وقد اعتمد في بحثه على مصادر أساتذته من المستشرقين اليهود، وعلى "أنساب الأشراف" الذي طبع في الجامعة العبرية في القدس -التي تحتلها إسرائيل- وجارى مستشرقي اليهود في إنكار شخصية عبد الله بن سبأ -ابن السوداء، وفي الشك بوجود
إبراهيم وإسماعيل، وأعلن أنه يشك في وجودهما بالرغم من الإشارة إليهما في التوراة والقرآن1.
ومثل طه حسين في هذه التبعية للمستشرقين: سلامه موسى، وحسين فوزي، وزكي نجيب محمود، ومحمود عزمي، وعلى عبد الرازق، وغيرهم.
وقد لقحت مناهج المستشرقين في البحث والنقد العلميِّ قرائح كثير من تلاميذ المستشرقين؛ فنهجوا نهجهم، وأخذوا طريقهم فيما حاولوا من دراسات، وخاصةً في مجال الجامعة والثقافة والصحافة، وحملوا نفس الروح التي يحملها أساتذتهم في خصومة الإسلام، وكانوا أشد قسوةً على أهليهم من الغربيين2.
آثار الاستشراق:
1-
كان الاستشراق وراء كل شبهة أو دعوة خطيرة أحدثت تحولًا في المجتمع الإسلاميّ في العصر الحديث، فقد كان المستشرقون يلقون الشبهة أو الدعوة، ثم يتبعهم الكتاب والمفكرون الذين يكتبون باللغة العربية من أهل التبعية والتغريب والشعوبية، هذا واضح في الدعوة إلى العامية التي بدأها ولكوكس وويلمور وغيرهما، ثم تابعهما سلامة موسى، وأحمد لطفي السيد، في الدعوة إلى الإقليميات والقوميات الضيقة؛ كالفينيقية والفرعونية، بدأها فمبري وكرومر، وتابعهما طه حيسن ولطفي السيد وغيرهما.
2-
يعمل المستشرقون على إخضاع النصوص للفكرة التي يفرضونها حسب أهوائهم، والتحكم فيما يرفضونه أو يقبلونه من النصوص، وكثيرًا ما يحرفون النَّصَّ تحريفًا مقصودًا، ويقعون في سوء الفهم -وعن عمدٍ أحيانًا- في معنى النَّصِّ، حين لا يجدون مجالًا للتحريف.
3-
يتحكم المستشرقون في المصادر التي يختارونها، فهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث النبويّ، ومن كتب
1 الإسلام في وجه التغريب ص363، وقد كان هذا الإنكار، وأمور أخرى سببًا في طرد طه حسين من الجامعة المصرية، ومصادرة كتابه "في الشعر الجاهلي" ولكن نفوذ الاحتلال الإنجليزي، سرعان ما أعاده إلى الجامعة، ومضى به صعدًا لأعلى المناصب.
2 المرجع السابق ص363.
التاريخ ما يحكمون به في تاريخ الفقه، ويصححون ما ينقهل الدميري في كتابه "الحيوان" ويكذبون ما يرويه الإمام مالك في "الموطأ"..
4-
يجمع المستشرقون الشبهات المختلفة، ويؤلفون بينها؛ لاعطائها صورةً كاملة، مثال ذلك: ما قام به المستشرق الألمانيّ ولهلم هور نباخ -الأستاذ في جامعة بون بألمانيا- من جمع قطع ونتف وشذرات من كتاب "الإصابة" للحافظ ابن حجر، ثم ينشرها على أنها كتاب "الردة" لابن حجر، الذي ألفه أبو زيد بن الفرات، المتوفى عام 237هـ، وهو فارسيّ الأصل، وقد ضاع هذا الكتاب، فأشار ابن حجر إليه في بعض المواضع، فما كان من المستشرق ولهلم إلّا أن جمع هذه القطع على أنها تراجم لأشخاصٍ ارتدوا عن الإسلام، ولا يقوم بمثل هذا العمل إلّا مغرضٌ صاحب هوًى؛ لأنه يخالف البحث العلميّ السليم.
وشبيه بهذا ما أورده المستشرقون من الزعم بأن العرب كانوا قبل البعثة النبوية على حضارة ونهضة، وأن دور النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزد على أنه نهض بهم فنهضوا، مع أن الحقيقة الواضحة أن العرب في جاهليتهم كانوا قبائل متفرقة متصارعة، وأن الإسلام هو الذي وحَّدَهم في أمة واحدة، ودفعهم إلى آفاق النهوض والتوسع:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُم} 1، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} 2.
5-
وقد حرص المستشرقون على التنويه بشأن "القرامطة" وإظهارهم بمظهر طلاب العدل والإصلاح، وهم الذين عجزوا عن أن يحققوا أيّ منهج يمكن أن يوصفوا به على أنهم دعاة حقٍّ حين أمتلكوا زمام الحكم في القرن الرابع الهجري، بل انكشف باطلهم وزيفهم، وظهرت حقيقتهم، صنائع لليهود انقضوا على الدولة الإسلامية بالتآمر والتعاون مع أعداء المسلمين وخصومهم.
6-
وعمل المستشرقون على إحياء التراث الباطنيّ المجوسيّ
1 الانفال 63.
2 آل عمران 103.
والغنوص القديم، مستهدفين تحطيم أصالة الفكر الإسلاميّ، ويبدو هذا واضحًا في تركيزهم على إحياء كل المخطوطات التي تحمل هذه السموم، وخاصةً ما يتصل بالإلحاد والإباحية، وما يتصل بوحدة الوجود، والحلول والاتحاد، والمجون، أمثال: شعر بشار بن برد، وأبي نواس، وكتب الحلّاج وابن عربي، وابن سبعين، وكتب غلاة الرافضة والإسماعلية والفاطميين.
7-
ولا ريب أن أخطر آثار الاستشراق هو اعتبار كتب المستشرقين وبحوثهم مراجع أساسية في التاريخ واللغة والسيرة والفقه والعقائد وغير ذلك، وخاصةً في الجامعات والمعاهد العالية، أو في دراسات المبعوثين إلى الجامعات الغربية في أوربا وأمريكا، الذين يقعون دائمًا تحت سيطرة الاستشراق والأساتذة اليهود والنصارى المتعصبين، ثم يعودون إلى بلادهم فيحتلون مناصب التوجيه الثقافيّ والتعليميّ، ويفرضون ما تلقوه من الغرب من سموم باسم التجديد وحرية البحث.
وقد عملوا على نشر الموسوعات -دوائر المعارف- والقواميس؛ لتكون مراجع سهلة للباحثين، وملؤوها بالسموم والشبهات مثل:
دائرة المعارف الإسلامية.
المنجد في اللغة والعلوم والآداب.
الموسوعة العربية الميسرة.
لهذا ينبغي على من يود الرجوع إلى هذه المصادر، أن يكون على حذرٍ تامٍّ، وأن يتنبه لما بين سطورها من مغالطات، أو تشويه، أو تحريف في النقل، على أن روح مؤلفيها في الحقد على الإسلام لا يخفى على المطالع الحصيف.
نماذج من أبحاث المستشرقين:
1-
يتابع يوسف شاخت أستاذه جولد تسيهر -وهما مستشرقان يهوديان- في الغض من شأن الشريعة الإسلامية، ويحاول الادعاء بأن الشريعة الإسلامية لا تختلف عن أعراف الجاهلية، وهو ادعاءٌ باطلٌ تصدى له كثيرٌ من الباحثين.
ومن أكاذيب شخت وأضاليله: الادعاء بأن للفكر الإغريقيّ فضلًا على الفكر الإسلاميّ، وقد أثبت علماء الغرب أنفسهم مثل: سيديو، درابر، وسارطون، وغيرهم، أن الإسلام هو الذي أدخل إلى الغرب المنهج العلميّ التجريبيّ، وأن الحضارة العالمية المعاصرة مدينةٌ للمسلمين بهذا النهج الذي هو أساس الحضارة الإسلامية.
2-
أنكر برتلو أن تكون الكتب الكيمالية اللاتينية التي تحمل اسم جابر بن حيان، هي كتب عربية الأصل، كتبها عالم مسلم؛ لمجرد أن أصولها العربية فقدت، وقد تصدّى لبرتلو علماء راسخون ردوا عليه خطأه، بل اتهمه بعضهعم بالجهل والتحيز، وقال سارطون: إن أي شخص يعرف العربية لا يخطئ مطلقًا في اكتشاف أن هذه الكتب اللاتينية ترجمات لكتب عربية؛ إذ تبدو الأساليب العربية واضحةً من الترجمة اللاتينية، سواءً كانت لجابر أو لغيره.
3-
ويزعم سدرسكي أن جانبًا مما ورد في القرآن أو التفاسير، والسير من الأخبار، يرجع إلى الإجادة اليهودية والتوراة والأناجيل، وقد بيّن الدكتور بشر فارس، فساد هذا الرأي، وقال: إن بين النصوص الاسلامية والنصوص اليهودية والمسيحية مسافات، وإن اتفق بعضها أو تقارب.
4-
وحاول نلينو أن ينفي حقيقة أن قريشًا كانت أفصح العرب، وله في ذلك مغالطات واسعةٌ ترمي إلى التشكيك في هذه الحقيقة، ويقول: إن تفضيل لغة قريش لم يكن مصدره سوى حب العرب للرسول.
5-
وزعم لويس شيخو اليسوعي، أن معظم شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، كانوا نصارى، وأن الغسانيين كانوا نصارى، وهو قولٌ لا يُسَلِّمُ به المطلعون على أخبار العرب في عهد الجاهلية؛ لأن من الغساسنة مَنْ كان على الوثنية، ومنهم من دان باليهودية، وطائفة كانت
تدين بالنصرانية، وممن عدّهم نصارى من الشعراء، الأخنس بن شهاب، وامرؤ القيس، وأمية بن أبي الصلت، والسموأل.
وهكذا جرت بحوث المستشرقين وراء بثِّ الشبهات حول القرآن الكريم ولغته، والحديث الشريف والتشريع الإسلاميّ، ولا يتسع المقام للتوسع في ضرب الإمثال1.
المستشرقون المعتدلون:
لا نكران أن طائفةً من المستشرقين اتسموا بالاعتدال والإنصاف، على تفاوتٍ فيما بينهم، فمنهم من أخطأ وأصاب، ومنهم من انتهى به البحث الحرِّ النزيه إلى الإيمان والإسلام، ويعتبر من الفريق الأول:"رينان" الذي انتهى به بحثه عن المسيح عليه السلام إلى إثبات أنه لم يكن إلهًا، ولا ابن إله، وإنما هو إنسانٌ يمتاز بالخلق السامي والروح الكريمة، وأن السير العربية للنبيّ محمد صلى الله عليه وسلم كسيرة ابن هشام، لها ميزةٌ تاريخيةٌ أكبر من الأناجيل المتداولة بين النصارى.
ومنهم: "كارلايل" الذي عَدَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم في الأبطال، وخَصَّهُ بصفحات كثيرة من كتابه "الأبطال" يقول فيه: "من العار أن يصغي أيّ إنسان متمدين من أبناء هذا الجيل إلى وهم القائلين: أن دين الإسلام كذب، وأن محمدًا لم يكن على حقٍّ، فالرسالة التي دعا إليها هذا النبيّ ظلت سراجًا منيرًا أربعة عشر قرنًا من الزمان، لملايين كثيرة من الناس، وما الرسالة التي أداها محمد صلى الله عليه وسلم إلّا الصدق والحق، وما كلمته إلّا صوت حقٍّ صادقٍ صادرٍ من العالم المجهول، وما هو إلّا شبهات أضاء العالم أجمع، ذلك أمر الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومنهم: "تولستون" أكبر كتاب روسيا، فإنه لما رأى الحملة الظالمة على الإسلام ورسوله، كتب رأيه معربًا عن الإعجاب بالإسلام، وتحدَّث عن المسيحية، فأنكر على المسيحيين اعتقادهم بألوهية المسيح، وخلص إلى أن بولس لم يفهم تعليم المسيح، بل طمسها، والكنيسة زادت تعاليم المسيح في العقيدة غموضًا، ويقول: أن المسيحيين
1 راجع: "دفاع عن العقيدة" للشيخ محمد الغزالي، "الإسلام في وجه التغريب: مخططات الاستشراق والتبشير" للأستاذ أنور مجدي.
واليهودية والمسلمين يعتقد جميعهم بالوحي الإلهيّ، فالمسلمون يعتقدون نبوة موسى وعيسى، ولكنهم يعتقدون كما اعتقد بأنه دخل التحريف والتشويه على كتب الديانتين، وهم يعتقدون بأن محمدًا خاتم الأنبياء، وأنه أوضح في القرآن تعاليم موسى وعيسى، كما قالاها دون زيادة ولا نقص، وينتهي بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الإكبار والتعظيم، وكان مما قاله تولستوي:"لا ريب أن هذا النبيّ من كبار الرجال المصلحين، الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمةً جليلةً، ويكفيه فخرًا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسلام، وتكف عن سفك الدماء، وتقديم الضحايا، ويكفيه فخرًا أنه فتح طريق الرقيّ والتقدم، وهذا عملٌ عظيمٌ لا يفوز به إلّا شخص أولي قوة وحكمة وعلمًا، ورجل مثله جدير بالاحترام والإجلال"، وقد كان جزاؤه على كلمة الحق التي قالها أن حرمه البابا من الرحمة1.
ومن المستشرقين الذين انتهى بهم البحث عن الحقِّ إلى الإسلام: اللورد هيدلي، واتيين دينيه -ناصر الدين- والشاعر الألماني الكبير: جوتيه، والدكتور جرينييه، الذي كان عضوًا في مجلس النواب الفرنسيّ، وقد سئل عن سبب إسلامه فقال:"إني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، والتي درستها من صغري، وأعلمها جيدًا، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة، فأسلمت لأني تيقنت أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أتى بالحق الصراح، من قبل ألف سنة، من قبل أن يكون له معلم، أو مدرس من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون، أو علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلم جيدًا، كما قارنت أيضًا، لأسلم بلا شكٍّ، إن كان عاقلًا خاليًا من الأغراض"2.
وصدق الله العظيم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} 3.
1 التبشير والاستشراق: أحقاد وحملات" للمستشار محمد عزت إسماعيل الطهطاوي ص59-62.
2 المرجع السابق ص 67 و"أوربا والإسلام" للدكتور عبد الحليم محمود.
3 فصلت 53.