الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: اتجاهات نحو العقيدة
أولا: صواب البدء بالعقيدة
…
المبحث الأول: اتجاهات نحو العقيدة
لا شك أنها نقطة بداية صحيحة أن نبدأ من العقيدة، فإنها الأساس، لكن الخطأ والخطر أن نقف عندها، أو أن نتغالى فيها.
وقبل أن نبين الخطأ والخطر فيها نبين الصواب فيها، مشيرين إلى ظروف نشأتها، فهذان بحثان بإذن الله.
أولًا: صواب البدء بالعقيدة
البدء بالعقيدة عين الصواب؛ لأن الإسلام يقيم بناءً له أساس، وأساسه العقيدة، وبناء الإسلام ليس من حجارةٍ ولا من صخور، وإن كان بعد قيامه أثبت من الرواسي، وأصلب من الصخور.
إنه بناء معنويّ، بناء قيم ومُثُل، بناء شريعة أساسها عقيدة، وهذا البناء لا يقام في فراغ.
ولا يقام كذلك على جماد، لكنه يقام على أكرم ما خلق الله، على الإنسان، ثم هو يقام في أعز مكانٍ في الإنسان، وأغلى قطعة فيه، أنه يقام في قلبه.
"التقوى ها هنا وأشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قلبه"1.
"ألا وأن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب"2.
والذين أقاموا الحضارات غير الإسلامية أخطأوا نقطة البدء، بل أخطأوا مكان البناء نفسه؛ فأقاموا بناء الحضارة خارج الإنسان؛ من الآلة، والمصنع، وناطحات السحاب، وهم حتى حين نظروا إلى الإنسان، نظروا إلى أحطِّ شيء فيه؛ غرائزه، فكانت حضارتهم إشباعًا لهذه الغرائز، وإثارةً لها، حتى شقي الإنسان بحضارتهم أيَّما شقاء.
وأهملوا في الإنسان أعزَّ شيء فيه، وأغلى قطعة منه، أهملوا قلبه، وهذا هو الفارق بين حضارتهم وحضارة الإسلام!
والظروف التي دعت للنداء بالعقيدة:
قريبة من الظروف التي دعت الإسلام للنداء بها أول مرة، فكثير من المجتمعات الإسلامية خلال القرنين الثاني عشر والثالث
1 من حديث طويل رواه الشيخان.
2 رواه البخاري في كتاب الإيمان 39، ومسلم وابن ماجه.
عشر، وبعضها لا يزال حتى القرن الرابع عشر الحالي، يتنازعها تقاليد وأفكار، إن لم تكن هي الشرك فهي قريبة منه، بل إن بعض هذه المجتمعات أو شك يومًا أن يعبد شجرةً، أو مكانًا حاطه البعض بشيء من التقديس.
ولا يزال كثير مما يحدث حتى اليوم فيما يسمى بالموالد، له شكل الشرك، ولا ينقصه إلّا النية، والله أعلم بالنوايا.
وبرغم أن أصحاب هذه الموالد برءاء مما أحدث الناس، بل إن بعضهم لو كان على الحياة لحرق كثيرًا من أولئك الضالين، كما فعل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بمن ألهوه من دون الله سبحانه وتعالى.
وبرغم ما يقال من أن إحياء هذه الموالد، إحياءٌ لمبادئ وقيم أصحابها وتذكير بها، فإن ما غلب عليها من بدع، وما يرتكب فيها، أو باسمها من آثام، كفيل بالانتهاء عنها.
فإن من أسباب تحريم الخمر والميسر، قول الله:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} .
فضلًا عن أن درء المفسدةِ مقدَّمٌ على جلب المصلحة، وسَدُّ الذرائع كفيلٌ بترك ما لا بأس به، خشية أن يكون به بأس.
طواغيت:
والطواغيت التي أمرنا الله أن نكفر بها ليصحَّ إيماننا، ليست ولم تكن الأوثان والأصنام فحسب،
إن تلك الأوثان والأصنام مجرد صورةٍ واحدةٍ، أو مَثَلٍ واحدٍ، لكن صور الطواغيت كثيرة:
معتقدات..مبادئ..
أفكار..أشخاص..عواطف ومشاعر..سلوك..صور للتنسك.
وجماع هذه جميعًا أن تعطيها، أو تعطي شيئًا منها، بعض صفات الله، أو بعض أفعاله التي اختص بها وحده سبحانه.
ولا يَهِمُّ أن تفردها بهذا العطاء، أو أن تشركها مع الله فيه، فمن أعطى شخصًا، أوهيئًة مبدأ صفة "الحكم" أي: وضع القواعد والتشريعات ابتداءً، وهذا خالص حق الله، سواءً في مجال العقيدة، أو الأخلاق، أو العبادات أو المعاملات: اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، فقد اتخذ الشخص أو الهيئة أو المبدأ طاغوتًا.
فإن أفرده بهذه الصفة، فقد اتخذه طاغوتًا من دون الله، وإن أشركه مع الله في هذه الصفة، فقد اتخذه طاغوتًا مع الله، وفي الحالين إن توافرت له الإرادة، فقد انتفى عنه الإيمان..
إلى قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 1.
1 النساء: 60 و65.
فلينظر الذين يقولون: "أنا مسلم العقيدة، ماركسيّ المذهب".
فإن العقيدة لا تصح حتى يسقط كل طاغوتٍ يعطيه الإنسان بعض حق الله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 1 ولذا، كان النفي في شهادة التوحيد سابقًا على الإثبات: لا إله إلّا الله!
العقيدة الصحيحة:
والعقيدة الصحيحة ليست قاصرةً على نطق اللسان: لا إله إلّا الله، محمد رسول الله، إنها قبل ذلك علم القلب وعمله، وهي ليست قاصرةً بعد ذلك على عمل الجوارح، إنها إن اقتصرت على الأولى: شهادة اللسان، وانتفت الثانية، كانت نفاقًا، وإن اقتصرت على الثانية دون الأولى، كانت كفرًا، وإن اقتصرت على الأولى والثانية دون الثالثة، كانت فسقًا، ثم إنها ليست قاصرةً على جانب من صفات الله دون الجانب الآخر، إنها كما تشمل الاعتقاد بأن الله خالق، تشمل كذلك الاعتقاد بأنه رزاق، تشمل كذلك الاعتقاد بأنه: حكم أو حاكم..
والإخلال في جانب من هذه، كالإخلال بالجانب الآخر، سواءً بسواء2.
1 البقرة 256.
2 تفصيلًا لذلك.. بحثًا مفصلًا "الإيمان الحق: شهادة وعقيدة وعبادة" الدكتور على جريشة، دار الشروق، الطبقة الأولى، سبتمبر سنة 1975م، والمراجع المشار إليها في هذا البحث.