الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: المقومات السياسية
لم يفصح اليهود عن نواياهم الاستعمارية؛ لأن مقوماتها دينية محضة، ومبناها على نصوص التوراة وتعاليم التلمود والكبالا، كما رأينا، ومن تلك المصادر الدينية، وضعت الصهيونية الحديثة قواعد دستورها المعروف بـ بروتوكولات حكماء1 صهيون، وقد كانت هذه التعاليم من أسباب تألب الرأي العام الأوربيّ على اليهود، وما أصابهم من اضطهادٍ وتعذيبٍ، لما تضمنته من أطماعٍ عدوانيةٍ، وتعاليم فاسدة جانحة، تثير الحقد والبغضاء، وتعيث في الأرض بالفساد والخراب.
وفي القرن الماضي استغل اليهود رواج النظريات القومية، وتفجر الحركات الاستقلالية في أوربا، فالتمسوا الذرائع التي توسلت بها الشعوب لتحقيق مطالبها القومية، وقد ساعد اليهود في الوصول إلى هدفهم ما ظفروا به من حريةٍ في ظلال الحكومات الكبرى؛ كبريطانيا وفرنسا، أسوةً بسائر الشعوب المهضومة الحقوق، وبذلك تمكَّن اليهود من الجهر بمطالبهم، واستدرار الشفقة والعطف عليهم، بعد ما عانوه من صنوف الذل والاضطهاد.
وقد استهدف الصهيونيون في حركتهم العلنية مطلبًا يعتبر بالنسبة لأطماعهم الأصلية متواضعًا محدودًا؛ إذ اقتصر على السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين باعتبارها وطنًا قوميًّا لهم، يماسرون فيه حقوقهم القومية بمنجاة من ويلات الاضطهاد والتعذيب.
وقد استندوا في تبرير هذا المطلب إلى دعوى القومية اليهودية الخاصة التي يزعمون أنهم يتمتعون بها، ويدين بها كافة اليهود في بقاع الأرض، وأن من حق هذه القومية اليهودية التوطن في فلسطين بالذات؛ لما لهم فيها من حقوق دينية وتاريخية رددتها كتبهم المقدسة، ومن
1 لفظ "حكماء" جمع حكيم يقابل: حاخامات، جمع حاخام باللغة العبرية، وما أبعد تلك التعاليم عن الحكمة.
شأن هذا الوطن القوميّ أن يعصمهم مما يحيق بهم من اضطهادٍ عنصريٍّ لا حقهم على مدى التاريخ.
وكان موسى هيس1 اليهوديّ الألمانيّ أول من نادى بالقومية اليهودية، يحاول أن يربط بها بين أشتات اليهود أينما استقروا، وجعل منها الدعامات السياسية للحركة الصهيونية.
والمسوغات الاجتماعية والسياسية التي استحدثها اليهود الصهيونيون للاستيلاء على فلسطين، تتلخص في ثلاثة أنواعٍ رئيسية من الحقوق:
1-
حق القومية اليهودية في التوطن في صعيد واحد يجمع شمل اليهود.
2-
حق اليهود التاريخيّ في العودة إلى فلسطين، وطن أسلافهم الذين شُرِّدُوا منه.
3-
الحق الإنسانيّ في تجنيب اليهود ما يلاقون من اضطهادٍ عنصريٍّ أينما استقر المقام بأوزاعهم في فجاح الأرض.
والأسباب السياسية والاجتماعية التي يدَّعيها اليهود الصهيونون، لم تكن هي دعامة النظرية الصهيونية وعمادها، وإنما هي تعللات محدثة، ومسوغات طارئة غير أصلية، ابتدعوها تكأةً يعتمدون عليها في الإسفار عن دعوتهم، وقناعًا تبدي به للعيان ظاهرة الجرم، مستخفية المعالم المريبة، تموه به أطماعها الخفية، وقد استمدت المسوغات السياسية والاجتماعية اعتمادًا على:
1-
ما قررته الثورتان الأمريكية والفرنسية من حقوقٍ طبيعية للإنسان، حفز اليهود على المطالبة بحقوقهم الفردية والجماعية المسَّلَّمِ بها، والتي تواتر اعتراف الدول بها لمواطنيها، تلك الحقوق التي منحتهم حرية الرأي، وشجعتهم على إنشاء الجمعيات الخاصة، وتنظيم الحملة الدعائية المركزة التي وطأت لهم أذهان العالم، والضمير العالميّ، واستمالت الرأي العام على أوسع نطاق.
1 1812-1875.
2-
نشاط الحركات القومية خلال القرن التاسع عشر الميلادي -الثالث عشر الهجريّ، وتقرير حق المصير للقوميات المختلفة، مما وجدت فيه الصهيونية مسوغًا لادعاء حقوق قوميةٍ لهم، أسوة بالقوميات الناهضة.
3-
قيام المذابح اليهودية في شرق أوربا وفي روسيا القيصرية خاصة، وانتهاز فرصة انفعال الرأي العام في أوربا عطفًا وإشفاقًا على اليهود، مما أتاح لهم المبرر لطلب التجمع في وطن قوميٍّ يلوذون به.
ولم تكن الأهداف الاقليمية اليهودية مرتبطة بفلسطين بالذات، فقد كان هدف اليهود المضطهدين تجميعهم في دولةٍ يهوديةٍ بمتنعون فيها، ويمارسون فيها حياتهم العنصرية بمنجاة من الاضطهاد، أيًّا كانت هذه الدولة، دون التقيد بأقليمٍ معيّن، غير أنهم ما إن استشعروا تعاطفًا من المجتمع الدوليّ حتى ظهرت رغبتهم الدفينة في امتلاك فلسطين، وفشلت كل المشاريع والعروض في جعل وطنهم القوميّ في الأرجنتين أو كندا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو جنوب أفريقيا أو استراليا أو أوغندا.. إلخ.
وكان تيودور هرتزل، قد اقترح أن يجمع شتات اليهود من أرجاء العالم في الأرجنتين أو في فلسطين، ولكن المؤتمر الصهيونيّ الأول الذي انعقد في مدينة بال بسويسرا عام 1897م، قرر تخصيص فلسطين، وقد حاول هرتزل عام 1901م، إغراء الخليفة العثمانيّ، السلطان عبد الحميد، ببيع فلسطين لليهود، ولكن السلطان رفض التنازل عنها بأيِّ ثمنٍ، وأصدر أمر بحظر دخول اليهود إلى فلطسين، ولما كرر الصهيونيون المحاولة برئاسة هرتزل، وبَّخَ السلطان عبد الحميد رئيس ديوانه لسماحه بدخول هرتزل عليه، وطرده شر طردة.
وبعد سنواتٍ قليلةٍ قام أعوان اليهود من ضباط حزب الاتحاد والترقي بالانقلالب على السلطان عبد الحميد كما هو معروف، وقام الحكام الذين خلفوا عبد الحميد من الاتحاديين -ومعظمهم من أعضاء المحفل الماسوني أو من الدونمة1 بفتح باب الهجرة لليهود إلى فلسطين، وعملوا على الإسراع في تصفية الدولة العثمانية، وإلغاء منصب الخلافة..
1 هم طائفة من اليهود الذين نزلوا مدينة سلاتيك في الدولة العثمانية، وتظاهروا باعتناق الإسلام نفاقًا ليتمكنوا من الهدم من الداخل.