المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المحدث يجب أن يعرض آراءه على الكتاب والسنة: - أصول بلا أصول

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول سُلطَانُ المَنَامَاتِ

- ‌تعريف الرؤيا:

- ‌نقد موقف المدرسة النفسية المادية من المنامات

- ‌فرويد" لم يعرف من الرؤى إلا أضغاث الأحلام:

- ‌يقول الأستاذ الدكتور "سعد الدين السيد صالح" في معرض نقده نظرية الأحلام الفرويدية:

- ‌ويقول الدكتور عمر الأشقر -حفظه اللَّه

- ‌القول الفصل، والمنهج الوسط في شأن الرؤى

- ‌تنبيه: حول معنى كون الرؤيا جزءًا من النبوة:

- ‌غلو المُفرِطين في شأن الرُّؤى

- ‌نماذج واقِعِيَةٌ مِن انحِرَاف النَّاسِ في التَّعَامُلِ مَعَ المَنَامَاتِ

- ‌ دِمَاءُ المُسْلِمِينَ لَا تُسْفَكُ بِالأَحْلامِ:

- ‌ لا يُطعَنُ في الرَّاوِي بِمجرد منام:

- ‌الرُّؤْيَا تَسُرُّ، وَلَا تَغرُّ:

- ‌الفراغ" من أسباب ظاهرة الاستغراق في المنامات

- ‌مَنَامَات في خدمَةِ البِدَعِ والضَّلَالَاتِ

- ‌ قال ابن عربي:

- ‌ وزعم ابْنُ الفَارِضِ:

- ‌أما البوصيري صاحب "البردة" فيقول:

- ‌ الأمِيرُ بُرهَان نظَام شَاه:

- ‌ عَصَا العَيدَرُوسِ:

- ‌أضرِحَةُ المنَامَاتِ .. والمَزَارَات المُزَوَّرَات

- ‌هذه الظَّاهِرَةُ .. إلى متى

- ‌ثم لماذا رقم (13)

- ‌رُؤيَة رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَنَامِ

- ‌فائدة:

- ‌نَمَاذِجُ مِن الاستِغلَالِ السَّيِّئ لِمَا يزُعَمُ مِن رُؤيَةِ النبي صلى الله عليه وسلم في المَنَامِ

- ‌الوَصِيَّةُ الخُرَافيَّةُ المُزمِنَةُ

- ‌ من افتِرَاءَاتِ صَاحِبِ الوصيةِ المَزعُومَةِ:

- ‌الرؤيا ليست حجة شرعية

- ‌الأدلة على أن الرؤيا ليست، مصدرًا للتشريع:

- ‌قول الإمام أبي إسحاق الشاطبي

- ‌1 - قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى

- ‌نصوص أُخَر لبعض أهل العلم في المسألة

- ‌وأخيرًا إليك هذه الوقائع:

- ‌الأولى:

- ‌الثانية:

- ‌الثالثة:

- ‌الرؤيا والاستخارة

- ‌دلالة رؤى الأنبياء على الأحكام

- ‌رؤى الأنبياء عليهم السلام:

- ‌من فوائد الرؤى

- ‌أولًا: البشارة والنذارة

- ‌ثانيًا: الرؤيا قد تصحح مسار حياة الإنسان

- ‌ثالثًا: الرؤى دليل على بقاء الأرواح بعد فناء الأبدان

- ‌رابعًا: الرؤى وسيلة تواصل مع الأموات

- ‌خامسًا: وقد تفيد الرؤية تزكية بعض الصالحين، وذم من سواهم

- ‌سادسًا: وقد تكون الرؤية وسيلة لاكتشاف ما ينفع البشر

- ‌الفصل الثاني دَلَالَات خوارِقِ العَادَاتِ

- ‌وخَرقُ العَادَةِ أَنوَاعٌ

- ‌بَينَ المعُجِزَةِ والكرامَةِ

- ‌الكرَامَةُ تَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ، لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى العِصمَةِ

- ‌من ضَوَابِطِ الحُكمِ عَلَى خَرقِ العَادَةِ النَّظَرُ فيِ سِيَرةِ واستِقَامَةِ مَن خُرِقَتْ لَهُ

- ‌مِن شُرُوطِ الكرَامَةِ

- ‌خَرقُ العَادَةِ بمُجَرَّدِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ

- ‌مَنِ القادِرُ عَلَى التَّمييزِ بَينَ "الأَحوَالِ الرَّحمانِيَّةِ" وَ "الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ

- ‌أَمثِلَةٌ مِنَ الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ

- ‌التَّفْرِيقُ بَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ وَالأحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ:

- ‌حِيَلٌ لَا خَوَارِقُ

- ‌الإمام شهاب الدين القرافي وحِيل النصارى

- ‌ابن تيمية يكشف حِيَلَ الرهبان

- ‌الفَصل الثَّالِث دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً

- ‌أ- ذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ نُصُوص التِّجَانية تُصَرِّحُ بِإِيمَانِهِمْ بِرؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، فِي الدُّنيَا:

- ‌ب- ذِكرُ أَدلَّتِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهَا:

- ‌الدَّلِيلُ الأَوَّلُ:

- ‌الدليل الثَّاني للتِّجانية:

- ‌ المناقشة:

- ‌ليس كلُّ مُمكنٍ يقعُ في الوجود

- ‌الدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِن أَدِلَّتِهِم:

- ‌ المناقشة:

- ‌دَلِيلُهُم الرَّابعُ:

- ‌ المناقشة:

- ‌دَليلُهُمُ الخَامِسُ:

- ‌ المناقشة:

- ‌فَصلٌ فِيمَا يَدَّعِي التِّجَانِيَّةُ تَلَقِّيَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعدَ مَوتِهِ يَقَظَةً

- ‌المناقشة:

- ‌تَنبِيهَاتٌ:

- ‌الأوَّلُ: ذكر العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله اختلاف العلماء في هذه المسألة

- ‌الثَّاني: بحسب قلة علم الرجل يُضِلُّه الشيطان:

- ‌الفَصلُ الرَّابِع الإِلهَامُ والكَشفُ والتَّحدِيث

- ‌تعريف الإلهام لغة:

- ‌تعريف الإلهام اصطلاحًا:

- ‌إلهام الأنبياء وحي

- ‌فالمقامات ثلاثة:

- ‌الأول: الإلقاء في روع الموحَى إليه

- ‌المقام الثاني: تكليم الله لرسله من وراء حجاب:

- ‌المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة مَلَك الوحي جبريل عليه السلام

- ‌حكم مُنكِر إلهامِ الأنبياء

- ‌إلهام غير الأنبياء

- ‌أثر التقوى في تنوير البصيرة

- ‌موقف ابن تيمية من الكشف

- ‌ويُعرف خطأ الكشف عند ابن تيمية بأحد أمور

- ‌الإلهام منقوض بالمعارضة بالمثل

- ‌(قال: وهو -أي الإلهام- على ثلاث درجات:

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌نقد موقف أبي حامد الغزالي من الكشف والإلهام

- ‌فائدة:

- ‌لَا عِلمَ إلَّا بدَلِيلٍ أو شَاهِدٍ

- ‌ قال الإمام المحقِّقُ ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-

- ‌الصُّوفِيَّةُ والإلهَامُ

- ‌ذِكْرُ الأَدِلَّةِ علَى أنَّ الخَضِرَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ وَليًّا فحَسْبُ:

- ‌التَّحدِيثُ وَالمُحَدَّثُونَ

- ‌الأحَادِيثُ الوَارِدَةُ في المُحَدَّثِينَ:

- ‌التَّحدِيثُ إلهَامٌ خاصٌّ

- ‌الصِّدِّيقُ أكمَلُ مِنَ المُحَدَّثِ

- ‌الفَرقُ بَينَ الفِرَاسَةِ والإلهَامِ

- ‌هل في الأُمَّةِ المُحَمَّديَّة مُحَدثَّونَ

- ‌الفَرقُ بَينَ النَّبِيِّ والمُحَدَّثِ

- ‌المُحدَّثُ يَجِبُ أن يعرضَ آراءَهُ علَى الكِتَابِ والسَّنَّةِ:

- ‌شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ يدحَضُ مقُولَةَ: "حدَّثَني قلبِي عن رَبِّي

- ‌فَصلٌ

- ‌الفَصلُ الخَامِسُ ادِّعَاءُ لُقيَا الخَضِرِ والتَّلَقِّي عَنهُ

- ‌خُلاصَةُ التصور الصُّوفيِ للْخَضِرِ عليه السلام

- ‌نُقُولٌ عَنِ الصُّوفِيَّة فيِ لُقيَا الخَضِرِ والتَّلَقِّي عَنهُ

- ‌وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى

- ‌إِبطَالُ دَعوَى الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الخَضِرَ حَيٌّ

- ‌ قال العلَّامةُ القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تَعَالَى

- ‌وقال ابن الجوزي في "عجالة المنتظر في شرح حال الخضر

- ‌وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تَعَالَى

- ‌وقال الإمام أبو الحسن بن المنادي رحمه الله

- ‌وقال الإمام أبو الخَطَّابِ بن دحية رحمه الله

- ‌وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه تعالى

- ‌وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى- في موضع آخر:

- ‌وقال العلامَةُ الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه

- ‌وَالسُّؤَالُ الآنَ:إذا صَدَقَ الذين زعموا لقيا الخَضِرِ، والخَضِرُ ميت على الراجح، فما الجواب عن حكاياتهم

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى

- ‌وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌فَصلٌ في إبطَالِ احتِجَاجِ الصُّوفِيَّةِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالخَضِرِ عَلَى أنَّ الوَليَّ يَخرُجُ عَن شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-

- ‌وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه اللَّه تعالى

- ‌فهرس‌‌ المراجع

- ‌ ا

- ‌ب

- ‌ح

- ‌(خ)

- ‌ر

- ‌س

- ‌ز

- ‌ش

- ‌ص

- ‌ع

- ‌ط

- ‌ف

- ‌غ

- ‌(ق)

- ‌ك

- ‌ل

- ‌م

- ‌(ن)

- ‌(و)

الفصل: ‌المحدث يجب أن يعرض آراءه على الكتاب والسنة:

يكن خطأ؛ فمني ومن الشيطان" (1).

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل المحدَّثين -إن وجِدوا-، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"إنِّي لأنْظُرُ إلى شَيَاطِينِ الجِن والأنْسِ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ"(2)، وقال عليه الصلاة والسلام:"إن اللهَ جعَلَ الحَق علَى لِسَانِ عُمَرَ وقَلْبِهِ"(3)، وقال صلى الله عليه وسلم: لَوْ كَانَ نَبي بعْدِي لكَانَ عُمَرَ" (4)، وكان علي رضي الله عنه يقول: "ما كنا نُبْعِدُ أن السكِينة تنطق على لسان عمر" (5).

وكان عمر يقول: "اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنه تتجلى لهم أمور صادقة"(6).

ومع ذلك لم يعتبر آراءه حقًّا صوابًا، بل كان يتَّهم نفسه؛ كما سبق؛ ولذلك كان يعرض آراءه على الكتاب والسنَّة.

‌المُحدَّثُ يَجِبُ أن يعرضَ آراءَهُ علَى الكِتَابِ والسَّنَّةِ:

لما كان المحدَّث لا يعلم أن ما في قلبه من الله؛ فإنه يلزمه -ليعلم صحة ذلك- أن يعْرضَهُ على ميزان صحيح واضح، وليس ذلك إلا كتاب الله، وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كانت هذه حالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع نفسه وغيره.

فليس في المحدَّثين أفضل من عمر، وقد وافق ربَّه في عدة أشياء، ومع هذا، فكان عليه أن يعتصم بما جاء به الرسول، ولا يقبل ما يرد عليه حتى يعرضه على الرسول، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله.

(1)"مدارج السالكين"(1/ 40).

(2)

"صحيح سنن الترمذي"(3/ 207)(2914).

(3)

"نفسه"(3/ 204)(2908).

(4)

"نفسه"(3/ 204)(2909).

(5)

"سير أعلام النبلاء: سير الخلفاء الراشدين" ص (76).

(6)

ذكره في "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (52).

ص: 218

وكان إذا تبين له من ذلك أشياء خلاف ما وقع له فيرجع إلى السنَّة.

وكان أبو بكر يبين له أشياء خفيت عليه، فيرجع إلى بيانه، وإرشاده؛ كما جرى يوم الحديبية، ويوم مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويوم ناظره في مانعي الزكاة، وغير ذلك، وكانت امرأة ترُدُّ عليه، وتذكر الحجة من القرآن، فيرجع إليها؛ كما جرى في مُهور النساء، ومثل ذلك كثير (1).

ومن الأمور التي بينها له أبو بكر رضي الله عنه وردَّه فيها إلى الصواب:

أمر موت النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قام عمر يقول: "والله، ما مات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم"، وكان يقول بعدها:"واللَّه ما كان يقع في نفسي إلا ذاك، وليبعثنه اللَّه، فيقطعن أيدي رجال، وأرجلهم"، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقبَّله، وقال:"بأبي أنت وأمي، طِبْتَ حيًّا وميِّتًا، والذي نفسي بيده لا يذيقك اللَّه الموتتين أبدًا"، ثم خرج، فقال:"أيها الحالفُ، على رِسْلِكَ"، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر: فحمِد اللهَ أبو بكر، وأثنى عليه، وقال:"ألَا من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد اللَّه، فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} "(2)[آل عمران: 144].

وكذلك في قصة الحديبية عندما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا، وثبت عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر، فقال:"يا أبا بكر، أليس رسولَ الله؟ " قال: بلى، قال:"أولسنا بالمسلمين؟ " قال: بلى، قال:"أوليسوا بالمشركين؟ " قال: بلى، قال:"فعلام نعطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟ "

قال أبو بكر: "يا عمر، الزم غَرْزَه؛ فإني أشهد أنه رسولُ الله"، قال عمر:

(1) انظر: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (53، 54).

(2)

رواه البخاري (7/ 19 - فتح).

ص: 219

"وأنا أشهد أنه رسولُ اللَّه"(1).

وقد قال عمر في ذلك: "ما زلت أتصدق، وأصوم، وأصلي، وأعتق؛ من الذي صنعتُ يومئذ مخافةَ كلامي الذي تكلمتُ به، حتى رجوتُ أن يكون خيرًا"(2)، لأنه قد قال للرسول صلى الله عليه وسلم مثل ما قال لأبي بكر.

وكذلك في قصة عيينة بن حصن عندما دخل عليه، فقال له:"هِي يابن الخطاب، فواللَّه، ما تعطينا الجَزلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل"؛ فغضب عمر حتى همَّ به، فقال له الحُرُّ:"يا أمير المؤمنين، إن اللَّه -تعَالَى- قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين"، قال ابن عباس الراوي:"واللَّه، ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب اللَّه"(3).

وقال ابن حجر رحمه الله: "إن المحدَّث منهم إذا تحقق وجوده لا يحْكمُ بما وقع له، بل لابد له من عرضه على القرآن، فإن وافقه، أو وافق السنَّة، وإلا تركه"(4).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

(وكذلك في قتال مانعي الزكاة، قال عمر لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإنْ فعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأمْوَالَهُمْ إلَّا بحَقِّهَا"، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألم يقل: "إلَّا بحَقِّهَا"، فإن الزكاة من حقها، واللَّه، لو منعوني عَناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فواللَّه، ما

(1) رواه بنحوه البخاري (8/ 281).

(2)

"سيرة ابن هشام"(2/ 317).

(3)

رواه البخاري (8/ 304، 305 - فتح).

(4)

"فتح الباري"(7/ 51).

ص: 220

هو إلا أن رأيت قد شُرحَ صدر أبي بكر للقتال، فعلمت أنه الحق.

ولهذا نظائر تبين تقدم أبي بكر على عمر، مع أن عمر رضي الله عنه مُحَدَّثٌ، فإن مرتبة الصديق فوق مرتبة المحدَّث؛ لأن الصديق يتلقى عن الرسول المعصوم كل ما يقوله ويفعله، والمحدَّث يأخذ عن قلبه أشياءَ، وقلبه ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبي المعصوم.

ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم، ويناظرهم، ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء، فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنَّة، ويقرهم على منازعته، ولا يقول لهم:"أنا محدَّث ملهم مخاطَب؛ فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني"، فأي أحد ادعى، أو ادعى له أصحابه أنه ولي للَّه، وأنه مخاطَب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله، ولا يعارضوه، ويسلموا له حاله من غير اعتبار بالكتاب والسنة؛ فهو، وَهُمْ مخطئون، ومثل هذا أضل الناس، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه، ويعرضون ما يقوله -وهو، وهُمْ- على الكتاب والسنَّة، وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يُؤْخَذُ من قوله ويُتْرَكُ، إلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم؛ فإن الأنبياء -صلوات اللَّه عليهم وسلامه- يجب لهم الإيمان بجميع ما يخبرون به عن اللَّه عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به، بخلاف الأولياء؛ فإنهم لا تجب طاعتهم في كل ما يأمرون به، ولا الإيمان بجميع ما يخبرون به، بل يعرض أمرهم وخبرهم على الكتاب والسنَّة، فما وافق الكتاب والسنَّة: وجب قبوله، وما خالف الكتاب والسنَّة: كان مردودًا، وإن كان صاحبه من أولياء اللَّه، وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله، له أجر على اجتهاده، ولكنه إذا خالف الكتاب والسنَّة كان مخطئًا، وكان من الخطأ المغفور إذا كان صاحبه قد اتقى اللَّه ما استطاع، فإن اللَّه -تعَالَى- يقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وهذا تفسير قوله -تَعَالَى-:

ص: 221

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].

قال ابن مسعود وغيره: "حق تقاته: أن يطاع فلا يُعْصَى، وأن يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأن يُشْكَرَ فلا يُكفر"، أي بحسب استطاعتكم؛ فإن اللَّه -تعَالَى- لا يكلف نفسًا إلا وسعها؛ كما قال -تعَالَى-:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال -تعَالَى-:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 42]، وقال -تعَالَى-:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152].

وقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى الإيمان بما جاءت به الأنبياءُ في غير موضع؛ كقوله -تعَالَى-: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

وقال -تعَالَى-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)} [البقرة: 1 - 5]، وقال -تَعَالَى-:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

وهذا الذي ذكرته من أن أولياء اللَّه يجب عليهم الاعتصام بالكتاب والسنَّة، وأنه ليس فيهم معصوم يسوغ له، أو لغيره اتباعُ ما يقع في قلبه من غير اعتبار بالكتاب والسنَّة هو مما اتفق عليه أولياء اللَّه عز وجل، ومن خالف في هذا

ص: 222