المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من القادر على التمييز بين "الأحوال الرحمانية" و "الأحوال الشيطانية - أصول بلا أصول

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول سُلطَانُ المَنَامَاتِ

- ‌تعريف الرؤيا:

- ‌نقد موقف المدرسة النفسية المادية من المنامات

- ‌فرويد" لم يعرف من الرؤى إلا أضغاث الأحلام:

- ‌يقول الأستاذ الدكتور "سعد الدين السيد صالح" في معرض نقده نظرية الأحلام الفرويدية:

- ‌ويقول الدكتور عمر الأشقر -حفظه اللَّه

- ‌القول الفصل، والمنهج الوسط في شأن الرؤى

- ‌تنبيه: حول معنى كون الرؤيا جزءًا من النبوة:

- ‌غلو المُفرِطين في شأن الرُّؤى

- ‌نماذج واقِعِيَةٌ مِن انحِرَاف النَّاسِ في التَّعَامُلِ مَعَ المَنَامَاتِ

- ‌ دِمَاءُ المُسْلِمِينَ لَا تُسْفَكُ بِالأَحْلامِ:

- ‌ لا يُطعَنُ في الرَّاوِي بِمجرد منام:

- ‌الرُّؤْيَا تَسُرُّ، وَلَا تَغرُّ:

- ‌الفراغ" من أسباب ظاهرة الاستغراق في المنامات

- ‌مَنَامَات في خدمَةِ البِدَعِ والضَّلَالَاتِ

- ‌ قال ابن عربي:

- ‌ وزعم ابْنُ الفَارِضِ:

- ‌أما البوصيري صاحب "البردة" فيقول:

- ‌ الأمِيرُ بُرهَان نظَام شَاه:

- ‌ عَصَا العَيدَرُوسِ:

- ‌أضرِحَةُ المنَامَاتِ .. والمَزَارَات المُزَوَّرَات

- ‌هذه الظَّاهِرَةُ .. إلى متى

- ‌ثم لماذا رقم (13)

- ‌رُؤيَة رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَنَامِ

- ‌فائدة:

- ‌نَمَاذِجُ مِن الاستِغلَالِ السَّيِّئ لِمَا يزُعَمُ مِن رُؤيَةِ النبي صلى الله عليه وسلم في المَنَامِ

- ‌الوَصِيَّةُ الخُرَافيَّةُ المُزمِنَةُ

- ‌ من افتِرَاءَاتِ صَاحِبِ الوصيةِ المَزعُومَةِ:

- ‌الرؤيا ليست حجة شرعية

- ‌الأدلة على أن الرؤيا ليست، مصدرًا للتشريع:

- ‌قول الإمام أبي إسحاق الشاطبي

- ‌1 - قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى

- ‌نصوص أُخَر لبعض أهل العلم في المسألة

- ‌وأخيرًا إليك هذه الوقائع:

- ‌الأولى:

- ‌الثانية:

- ‌الثالثة:

- ‌الرؤيا والاستخارة

- ‌دلالة رؤى الأنبياء على الأحكام

- ‌رؤى الأنبياء عليهم السلام:

- ‌من فوائد الرؤى

- ‌أولًا: البشارة والنذارة

- ‌ثانيًا: الرؤيا قد تصحح مسار حياة الإنسان

- ‌ثالثًا: الرؤى دليل على بقاء الأرواح بعد فناء الأبدان

- ‌رابعًا: الرؤى وسيلة تواصل مع الأموات

- ‌خامسًا: وقد تفيد الرؤية تزكية بعض الصالحين، وذم من سواهم

- ‌سادسًا: وقد تكون الرؤية وسيلة لاكتشاف ما ينفع البشر

- ‌الفصل الثاني دَلَالَات خوارِقِ العَادَاتِ

- ‌وخَرقُ العَادَةِ أَنوَاعٌ

- ‌بَينَ المعُجِزَةِ والكرامَةِ

- ‌الكرَامَةُ تَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ، لَكِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى العِصمَةِ

- ‌من ضَوَابِطِ الحُكمِ عَلَى خَرقِ العَادَةِ النَّظَرُ فيِ سِيَرةِ واستِقَامَةِ مَن خُرِقَتْ لَهُ

- ‌مِن شُرُوطِ الكرَامَةِ

- ‌خَرقُ العَادَةِ بمُجَرَّدِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ

- ‌مَنِ القادِرُ عَلَى التَّمييزِ بَينَ "الأَحوَالِ الرَّحمانِيَّةِ" وَ "الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ

- ‌أَمثِلَةٌ مِنَ الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ

- ‌التَّفْرِيقُ بَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ وَالأحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ:

- ‌حِيَلٌ لَا خَوَارِقُ

- ‌الإمام شهاب الدين القرافي وحِيل النصارى

- ‌ابن تيمية يكشف حِيَلَ الرهبان

- ‌الفَصل الثَّالِث دَعوَى رُؤيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً بَعدَ وَفَاتِه وَالتَّلَقِّي عَنهُ مُبَاشَرَةً

- ‌أ- ذِكْرُ جُمْلَةٍ مِنْ نُصُوص التِّجَانية تُصَرِّحُ بِإِيمَانِهِمْ بِرؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً بَعْدَ مَوْتِهِ، فِي الدُّنيَا:

- ‌ب- ذِكرُ أَدلَّتِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهَا:

- ‌الدَّلِيلُ الأَوَّلُ:

- ‌الدليل الثَّاني للتِّجانية:

- ‌ المناقشة:

- ‌ليس كلُّ مُمكنٍ يقعُ في الوجود

- ‌الدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِن أَدِلَّتِهِم:

- ‌ المناقشة:

- ‌دَلِيلُهُم الرَّابعُ:

- ‌ المناقشة:

- ‌دَليلُهُمُ الخَامِسُ:

- ‌ المناقشة:

- ‌فَصلٌ فِيمَا يَدَّعِي التِّجَانِيَّةُ تَلَقِّيَهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعدَ مَوتِهِ يَقَظَةً

- ‌المناقشة:

- ‌تَنبِيهَاتٌ:

- ‌الأوَّلُ: ذكر العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله اختلاف العلماء في هذه المسألة

- ‌الثَّاني: بحسب قلة علم الرجل يُضِلُّه الشيطان:

- ‌الفَصلُ الرَّابِع الإِلهَامُ والكَشفُ والتَّحدِيث

- ‌تعريف الإلهام لغة:

- ‌تعريف الإلهام اصطلاحًا:

- ‌إلهام الأنبياء وحي

- ‌فالمقامات ثلاثة:

- ‌الأول: الإلقاء في روع الموحَى إليه

- ‌المقام الثاني: تكليم الله لرسله من وراء حجاب:

- ‌المقام الثالث: الوحي إلى الرسول بواسطة مَلَك الوحي جبريل عليه السلام

- ‌حكم مُنكِر إلهامِ الأنبياء

- ‌إلهام غير الأنبياء

- ‌أثر التقوى في تنوير البصيرة

- ‌موقف ابن تيمية من الكشف

- ‌ويُعرف خطأ الكشف عند ابن تيمية بأحد أمور

- ‌الإلهام منقوض بالمعارضة بالمثل

- ‌(قال: وهو -أي الإلهام- على ثلاث درجات:

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌فَصلٌ

- ‌نقد موقف أبي حامد الغزالي من الكشف والإلهام

- ‌فائدة:

- ‌لَا عِلمَ إلَّا بدَلِيلٍ أو شَاهِدٍ

- ‌ قال الإمام المحقِّقُ ابن قيم الجوزية -رحمه الله تعالى-

- ‌الصُّوفِيَّةُ والإلهَامُ

- ‌ذِكْرُ الأَدِلَّةِ علَى أنَّ الخَضِرَ نَبِيٌّ وَلَيْسَ وَليًّا فحَسْبُ:

- ‌التَّحدِيثُ وَالمُحَدَّثُونَ

- ‌الأحَادِيثُ الوَارِدَةُ في المُحَدَّثِينَ:

- ‌التَّحدِيثُ إلهَامٌ خاصٌّ

- ‌الصِّدِّيقُ أكمَلُ مِنَ المُحَدَّثِ

- ‌الفَرقُ بَينَ الفِرَاسَةِ والإلهَامِ

- ‌هل في الأُمَّةِ المُحَمَّديَّة مُحَدثَّونَ

- ‌الفَرقُ بَينَ النَّبِيِّ والمُحَدَّثِ

- ‌المُحدَّثُ يَجِبُ أن يعرضَ آراءَهُ علَى الكِتَابِ والسَّنَّةِ:

- ‌شَيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ يدحَضُ مقُولَةَ: "حدَّثَني قلبِي عن رَبِّي

- ‌فَصلٌ

- ‌الفَصلُ الخَامِسُ ادِّعَاءُ لُقيَا الخَضِرِ والتَّلَقِّي عَنهُ

- ‌خُلاصَةُ التصور الصُّوفيِ للْخَضِرِ عليه السلام

- ‌نُقُولٌ عَنِ الصُّوفِيَّة فيِ لُقيَا الخَضِرِ والتَّلَقِّي عَنهُ

- ‌وقال الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى

- ‌إِبطَالُ دَعوَى الصُّوفِيَّةِ أَنَّ الخَضِرَ حَيٌّ

- ‌ قال العلَّامةُ القرآني محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تَعَالَى

- ‌وقال ابن الجوزي في "عجالة المنتظر في شرح حال الخضر

- ‌وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تَعَالَى

- ‌وقال الإمام أبو الحسن بن المنادي رحمه الله

- ‌وقال الإمام أبو الخَطَّابِ بن دحية رحمه الله

- ‌وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه تعالى

- ‌وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى- في موضع آخر:

- ‌وقال العلامَةُ الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه

- ‌وَالسُّؤَالُ الآنَ:إذا صَدَقَ الذين زعموا لقيا الخَضِرِ، والخَضِرُ ميت على الراجح، فما الجواب عن حكاياتهم

- ‌قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تعالى

- ‌وقال أيضًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

- ‌فَصلٌ في إبطَالِ احتِجَاجِ الصُّوفِيَّةِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالخَضِرِ عَلَى أنَّ الوَليَّ يَخرُجُ عَن شَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-

- ‌وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه اللَّه تعالى

- ‌فهرس‌‌ المراجع

- ‌ ا

- ‌ب

- ‌ح

- ‌(خ)

- ‌ر

- ‌س

- ‌ز

- ‌ش

- ‌ص

- ‌ع

- ‌ط

- ‌ف

- ‌غ

- ‌(ق)

- ‌ك

- ‌ل

- ‌م

- ‌(ن)

- ‌(و)

الفصل: ‌من القادر على التمييز بين "الأحوال الرحمانية" و "الأحوال الشيطانية

الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العُبَّاد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام" (1). اهـ.

"إذن، فيجب على كل مسلم التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بوَلاية كل من فعل خارقًا من خوارق العادات؛ لأن الغاية من خرق العادة عند المُشَعْوذِينَ: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين تخدع المشركين، فَتَدْخُلُ في أجواف الأصنام، وتُصْدِر أصواتًا، يظنون أن أصنامهم تتحدث إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها.

ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى عُبدت من دون اللَّه" (2).

‌مَنِ القادِرُ عَلَى التَّمييزِ بَينَ "الأَحوَالِ الرَّحمانِيَّةِ" وَ "الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ

يتمكن إبليس من الإنسان على قدر حظه من العلم، فكلما قَلَّ علمه، اشتد تَمَكُّنُ إبليسَ منه، وكلما كثر العلم، قل تَمكُّنُهُ منه؛ ولذلك لا تشتبه "الكرامة الرحمانية" بالحال "الشيطانية" إلا عند الجُهَّال، وأهل الأهواء، بخلاف أهل العلم والبصيرة.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالَى-: "فإذا كان العبد من هؤلاء فَرَّقَ بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يُفَرِّقُ الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يُفَرِّقُ من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يُفَرِّقُ من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذَّاب، فَيُفَرَّقُ بين محمدٍ الصادق الأمين

(1) نقله عنه في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (466).

(2)

"الرفاعية"(ص 94، 95).

ص: 104

رسولِ ربِّ العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذَّاب، والأسود العنسي، وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذَّابين، وكذلك يُفَرِّقُ بين أولياء اللَّه المتقين، وأولياء الشيطان الضالين" (1). اهـ.

وقال ابن الجوزي رحمه الله:

"ومن العُبَّاد من يرى ضوءًا أو نورًا في السماء، فإن كان في رمضان، قال: (رأيت ليلة القدر)، وإن كان في غيره قال: (فُتِحَتْ لي أبوابُ السماء)، وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة، وربما كان اختبارًا، وربما كان من خِدَع إبليس، والعاقل لا يُسَاكنُ شيئًا من هذا، ولو كان كرامة"(2). اهـ.

كان أبو ميسرة فقيه المغرب يختم كل ليلة في مسجده، فرأى ليلة نورًا قد خرج من الحائط، وقال:"تَمَلَّ مِن وجهي، فأنا ربك"، فبصق في وجهه، وقال:"اذهب يا ملعون"(3) فَطَفِئَ النور (4).

وقال ابن الجوزي رحمه الله أيضًا:

(وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات، فقد روينا بإسنادٍ: عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: "يا أبا عمران، قد أصبحتُ اليوم وأنا مهتم بضريبتي، وهي ستة دراهم، وقد أهلَّ الهلال وليست عندي، فدعوت، فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها، فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص"، فقال:"تَصَدَّقْ بِهَا، فإنها ليست لك"، قلت: -أبو عمران هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة فانظروا إلى كلام الفقهاء، وبُعد الاغترار

(1)"الفرقان" ص (66).

(2)

"تلبيس إبليس" ص (529).

(3)

لأن الله تعالى لا يُرى في الدنيا، ونور الله -تعالى- لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل، وتدكدك، انظر:"مدارج السالكين"(3/ 229).

(4)

"سير أعلام النبلاء"(15/ 396).

ص: 105

عنهم، وكيف أخبره أنها لُقَطَة، ولم يلتفت إلى ما يُشْبِهُ الكرامة، وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره بالتصدُّق بها لئلا يَظُنَّ أنه قد أُكرم بأخذها وإنفاقها.

وبإسناد: عن إبراهيم الخراساني أنه قال: "احتجت يومًا إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين من الخَزِّ -وهو أحسن الحرير الخالص- فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما، وانصرفت".

قلت: في هذه الحكاية من لا يُوثَقُ بروايته، فإن صَحَّتْ دلت على قِلَّةِ علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، واللَّه -تَعَالَى- لا يكرم بما يمنع استعماله شرعًا، إلا إن أُظْهِرَ له ذلك على سبيل الامتحان) (1).

قال القشيري: (قال إبراهيم الخوَّاص: طَلَبْتُ الْحلال في كل شيء، حتى طلبته في صيد السمك، فأخذت قصبة، وجعلت فيها شَعْرًا، وجلست على الماء، فألقيت الشِّصَّ، فخرجت سمكة، فطرحتها على الأرض، وألقيت ثانية، فخرجت لي سمكة، إذ مِن ورائي لطمة لا أدري مِن يَدِ مَنِ هي، ولا رأيت أحدًا، وسمعت قائلًا يقول: "أنت لم تُصِبْ رزقًا في شيء إلا أن تَعْمَدَ إلى مَنْ يذكرنا فتقتله؟ "، قال إبراهيم: "فقطعت الشعر، وكسرت القصبةَ، وانصرفت" (2).

ولو أن هذا الصوفي تَدَبَّرَ قوله -تَعَالَى-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، لجزم قاطعًا بأن اللاطم لم يكن سوى إبليس؛ إذ اللَّه لا يعاقِب على صيد ما أباحه، ولا يحرم صيد الأسماك؛ لأنها تذكر اللَّه عز وجل فإنه ما من شيء إلا يُسَبِّحُ بحمده ويذكره، ولو تركنا ذبح الأنعام -وهى تذكر اللَّه -تعالى- أيضًا-، لم يكن لنا ما يقيم قُوى الأبدان.

(1)"تلبيس إبليس" ص (533).

(2)

"الرسالة القشيرية" ص (84).

ص: 106

وذكر محمد بن أبي الفضل الهمداني المؤرخ قال: حدثني أبي قال: كان السرمقاني المقرئ يقرأ على ابن العلاف، وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني، واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة، وقد نزل إلى دجلة، وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابُه، وجعل يأكله، فشق ذلك عليه، وأتى إلى رئيس الرؤساء، فأخبره بحاله، فتقدم إلى غلام بالقرب إلى المسجد الذي يأوي إليه السرمقاني أن يعمل لِبابه مفتاحًا من غير أن يُعْلمه، ففعل وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزًا سميدًا (1)، ومعها دجاجة، وحلوى سكرًا، ففعل الغلام ذلك، وكان يحمله على الدوام، فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك مطروحًا في القبلة، ورأى الباب مغلقًا فتعجب، وقال في نفسه: هذا من الجنة، ويجب كتمانه، وألَّا أتحدث به، فإن من شروط الكرامة كتمانَها (2)، وأنشدني:

مَنْ أَطْلَعُوه عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ

لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ مَا عَاشَا

فلما استوى حاله، وأخصب جسمُه، سأله ابن العلاف عن سبب ذلك، وهو عارف به، وقصد المُزاحَ معه، فأخذ يُوري ولا يصرح، ويَكْني ولا يُفْصِح، ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده فى المسجد كرامة؛ إذ لا طريق لمخلوق عليه، فقال له ابن العلاف:"يجب أن تدعو لابن المسلمة، فإنه هو الذي فعل ذلك"، فنغص عيشه بإخباره، وبانت عليه شواهد الانكسار (3). اهـ.

(1) السَّميد: لغة في السميذ، معرب، وهو لُباب الدقيق.

(2)

وقد قالوا: "الشأن في الكرامة إخفاؤها، وفي المعجزة إظهارها".

(3)

"تلبيس إبليس" ص (533، 534)، ويشبه هذا: أن شخصًا صلى الفجر بالمسجد النبوي الشريف بعد التوسعة الأخيرة، وجلس يذكر الله، وإذا به يفاجأ بانفتاح جزء من سقف المسجد فرأى السماء، وحسبها كرامة، ونوى أن يكتم ذلك، ولا يحدث به الناس، ثم اكتشف بعد أنه يُفتح آليَّا لإدخال ضوء النهار.

ص: 107