الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخوارق على أي دين كان، وقد سمعنا وقرأنا أن العُبَّاد الوثنيين من أهل الهند تقع لهم خوارق عظام" (1). اهـ.
"إذن، فيجب على كل مسلم التحقق من ذلك، ولا يجوز القطع بوَلاية كل من فعل خارقًا من خوارق العادات؛ لأن الغاية من خرق العادة عند المُشَعْوذِينَ: التلبيس على المسلمين في دينهم، كما كانت الشياطين تخدع المشركين، فَتَدْخُلُ في أجواف الأصنام، وتُصْدِر أصواتًا، يظنون أن أصنامهم تتحدث إليهم، أو تحركها الشياطين من مكانها، فيظنوا أنها تتحرك من تلقاء نفسها.
ولقد ذكر الشعراني أن الشيطان كان يدخل في أجواف الأصنام، والغربان، والعصافير، ويتكلم على ألسنتها بما شاء، حتى عُبدت من دون اللَّه" (2).
مَنِ القادِرُ عَلَى التَّمييزِ بَينَ "الأَحوَالِ الرَّحمانِيَّةِ" وَ "الأَحوَالِ الشَّيطَانِيَّةِ
"؟
يتمكن إبليس من الإنسان على قدر حظه من العلم، فكلما قَلَّ علمه، اشتد تَمَكُّنُ إبليسَ منه، وكلما كثر العلم، قل تَمكُّنُهُ منه؛ ولذلك لا تشتبه "الكرامة الرحمانية" بالحال "الشيطانية" إلا عند الجُهَّال، وأهل الأهواء، بخلاف أهل العلم والبصيرة.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالَى-: "فإذا كان العبد من هؤلاء فَرَّقَ بين حال أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، كما يُفَرِّقُ الصيرفي بين الدرهم الجيد والدرهم الزيف، وكما يُفَرِّقُ من يعرف الخيل بين الفرس الجيد والفرس الرديء، وكما يُفَرِّقُ من يعرف الفروسية بين الشجاع والجبان، وكما أنه يجب الفرق بين النبي الصادق وبين المتنبي الكذَّاب، فَيُفَرَّقُ بين محمدٍ الصادق الأمين
(1) نقله عنه في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (466).
(2)
"الرفاعية"(ص 94، 95).
رسولِ ربِّ العالمين، وموسى، والمسيح، وغيرهم، وبين مسيلمة الكذَّاب، والأسود العنسي، وطلحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وباباه الرومي، وغيرهم من الكذَّابين، وكذلك يُفَرِّقُ بين أولياء اللَّه المتقين، وأولياء الشيطان الضالين" (1). اهـ.
وقال ابن الجوزي رحمه الله:
"ومن العُبَّاد من يرى ضوءًا أو نورًا في السماء، فإن كان في رمضان، قال: (رأيت ليلة القدر)، وإن كان في غيره قال: (فُتِحَتْ لي أبوابُ السماء)، وقد يتفق له الشيء الذي يطلبه، فيظن ذلك كرامة، وربما كان اختبارًا، وربما كان من خِدَع إبليس، والعاقل لا يُسَاكنُ شيئًا من هذا، ولو كان كرامة"(2). اهـ.
كان أبو ميسرة فقيه المغرب يختم كل ليلة في مسجده، فرأى ليلة نورًا قد خرج من الحائط، وقال:"تَمَلَّ مِن وجهي، فأنا ربك"، فبصق في وجهه، وقال:"اذهب يا ملعون"(3) فَطَفِئَ النور (4).
وقال ابن الجوزي رحمه الله أيضًا:
(وكم اغتر قوم بما يشبه الكرامات، فقد روينا بإسنادٍ: عن حسن عن أبي عمران قال: قال لي فرقد: "يا أبا عمران، قد أصبحتُ اليوم وأنا مهتم بضريبتي، وهي ستة دراهم، وقد أهلَّ الهلال وليست عندي، فدعوت، فبينما أنا أمشي على شط الفرات إذا أنا بستة دراهم، فأخذتها فوزنتها، فإذا هي ستة لا تزيد ولا تنقص"، فقال:"تَصَدَّقْ بِهَا، فإنها ليست لك"، قلت: -أبو عمران هو إبراهيم النخعي فقيه أهل الكوفة فانظروا إلى كلام الفقهاء، وبُعد الاغترار
(1)"الفرقان" ص (66).
(2)
"تلبيس إبليس" ص (529).
(3)
لأن الله تعالى لا يُرى في الدنيا، ونور الله -تعالى- لا يقوم له شيء، ولما ظهر للجبل منه أدنى شيء ساخ الجبل، وتدكدك، انظر:"مدارج السالكين"(3/ 229).
(4)
"سير أعلام النبلاء"(15/ 396).
عنهم، وكيف أخبره أنها لُقَطَة، ولم يلتفت إلى ما يُشْبِهُ الكرامة، وإنما لم يأمره بتعريفها لأن مذهب الكوفيين أنه لا يجب التعريف لما دون الدينار، وكأنه إنما أمره بالتصدُّق بها لئلا يَظُنَّ أنه قد أُكرم بأخذها وإنفاقها.
وبإسناد: عن إبراهيم الخراساني أنه قال: "احتجت يومًا إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة، رأسه ألين من الخَزِّ -وهو أحسن الحرير الخالص- فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتركتهما، وانصرفت".
قلت: في هذه الحكاية من لا يُوثَقُ بروايته، فإن صَحَّتْ دلت على قِلَّةِ علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز، ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، واللَّه -تَعَالَى- لا يكرم بما يمنع استعماله شرعًا، إلا إن أُظْهِرَ له ذلك على سبيل الامتحان) (1).
قال القشيري: (قال إبراهيم الخوَّاص: طَلَبْتُ الْحلال في كل شيء، حتى طلبته في صيد السمك، فأخذت قصبة، وجعلت فيها شَعْرًا، وجلست على الماء، فألقيت الشِّصَّ، فخرجت سمكة، فطرحتها على الأرض، وألقيت ثانية، فخرجت لي سمكة، إذ مِن ورائي لطمة لا أدري مِن يَدِ مَنِ هي، ولا رأيت أحدًا، وسمعت قائلًا يقول: "أنت لم تُصِبْ رزقًا في شيء إلا أن تَعْمَدَ إلى مَنْ يذكرنا فتقتله؟ "، قال إبراهيم: "فقطعت الشعر، وكسرت القصبةَ، وانصرفت" (2).
ولو أن هذا الصوفي تَدَبَّرَ قوله -تَعَالَى-: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96]، لجزم قاطعًا بأن اللاطم لم يكن سوى إبليس؛ إذ اللَّه لا يعاقِب على صيد ما أباحه، ولا يحرم صيد الأسماك؛ لأنها تذكر اللَّه عز وجل فإنه ما من شيء إلا يُسَبِّحُ بحمده ويذكره، ولو تركنا ذبح الأنعام -وهى تذكر اللَّه -تعالى- أيضًا-، لم يكن لنا ما يقيم قُوى الأبدان.
(1)"تلبيس إبليس" ص (533).
(2)
"الرسالة القشيرية" ص (84).
وذكر محمد بن أبي الفضل الهمداني المؤرخ قال: حدثني أبي قال: كان السرمقاني المقرئ يقرأ على ابن العلاف، وكان يأوي إلى المسجد بدرب الزعفراني، واتفق أن ابن العلاف رآه ذات يوم في وقت مجاعة، وقد نزل إلى دجلة، وأخذ منه أوراق الخس مما يرمي به أصحابُه، وجعل يأكله، فشق ذلك عليه، وأتى إلى رئيس الرؤساء، فأخبره بحاله، فتقدم إلى غلام بالقرب إلى المسجد الذي يأوي إليه السرمقاني أن يعمل لِبابه مفتاحًا من غير أن يُعْلمه، ففعل وتقدم إليه أن يحمل كل يوم ثلاثة أرطال خبزًا سميدًا (1)، ومعها دجاجة، وحلوى سكرًا، ففعل الغلام ذلك، وكان يحمله على الدوام، فأتى السرمقاني في أول يوم فرأى ذلك مطروحًا في القبلة، ورأى الباب مغلقًا فتعجب، وقال في نفسه: هذا من الجنة، ويجب كتمانه، وألَّا أتحدث به، فإن من شروط الكرامة كتمانَها (2)، وأنشدني:
مَنْ أَطْلَعُوه عَلَى سِرٍّ فَبَاحَ بِهِ
…
لَمْ يَأْمَنُوهُ عَلَى الْأَسْرَارِ مَا عَاشَا
فلما استوى حاله، وأخصب جسمُه، سأله ابن العلاف عن سبب ذلك، وهو عارف به، وقصد المُزاحَ معه، فأخذ يُوري ولا يصرح، ويَكْني ولا يُفْصِح، ولم يزل ابن العلاف يستخبره حتى أخبره أن الذي يجده فى المسجد كرامة؛ إذ لا طريق لمخلوق عليه، فقال له ابن العلاف:"يجب أن تدعو لابن المسلمة، فإنه هو الذي فعل ذلك"، فنغص عيشه بإخباره، وبانت عليه شواهد الانكسار (3). اهـ.
(1) السَّميد: لغة في السميذ، معرب، وهو لُباب الدقيق.
(2)
وقد قالوا: "الشأن في الكرامة إخفاؤها، وفي المعجزة إظهارها".
(3)
"تلبيس إبليس" ص (533، 534)، ويشبه هذا: أن شخصًا صلى الفجر بالمسجد النبوي الشريف بعد التوسعة الأخيرة، وجلس يذكر الله، وإذا به يفاجأ بانفتاح جزء من سقف المسجد فرأى السماء، وحسبها كرامة، ونوى أن يكتم ذلك، ولا يحدث به الناس، ثم اكتشف بعد أنه يُفتح آليَّا لإدخال ضوء النهار.