الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وهذه الأرواح الشيطانية هي الروح الذي يزعم صاحب "الفتوحات" أَنه أَلقى إِليه ذلك الكتاب، ولهذا يذكر أَنواعًا من الخلوات بطعام معين، وشيء معين، وهذه مما تفتح لصاحبها اتصالًا بالجن والشياطين، فيظنون ذلك من كرامات الأَولياء، وإنما هو من الأَحوال الشيطانية، وأَعرف من هؤلاءِ عَدَدًا، ومنهم من كان يُحْمَلُ في الهواء إلى مكان بعيد ويعود، ومنهم من كان يُؤْتَى بمال مسروق، تسرقه له الشياطين وتأتيه به، ومنهم من كانت تدله على السرقات بِجُعْلٍ يحصل له من الناس، أَو لعطاء يعطونه إذا دَلَّهُمْ على سرقاتهم، ونحو ذلك.
ولما كانت أحوال هؤلاء شيطانية، كانوا مناقضين للرسل -صلوات اللَّه- تعالَى -وسلامه عليهم-، كما يُوجَدُ في كلام صاحب "الفتوحات المكية"، و"الفصوص"، وأشباه ذلك؛ يَمْدَحُ الكفارَ؛ مثل قوم نوح، وهود، وفرعون، وغيرهم، وينتقصُ الأَنبياءَ؛ كنوح، وإبراهيم، وموسى، وهارون، ويَذُمُّ شيوخ المسلمين المحمودين عند المسلمين؛ كالْجُنَيْدِ بن محمد، وسهل بن عبد اللَّه التستري، وأَمثالهما، ويَمْدَحُ المذمومين عند المسلمين؛ كالحلاج ونحوه؛ كما ذكره فى تجلياته الخيالية الشيطانية) (1). اهـ.
التَّفْرِيقُ بَيْنَ كَرَامَاتِ الْأَوْليَاءِ وَالأحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ:
(وبين كرامات الأَولياء، وبين ما يشبهها من الأَحوال الشيطانية فروق متعددة:
منها: أَن كرامات الأَولياء سببها الإيمان والتقوى، والأَحوال الشيطانية، سببها ما نهى اللَّه عنه ورسوله.
وقد قال -تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]،
(1)"الفرقان" ص (87).
فالقول على اللَّه بغير علم، والشرك، والظلم، والفواحش؛ قد حرَّمها اللَّه -تَعَالَى- ورسوله، فلا تكون سببًا لكرامة اللَّه -تَعَالَى- بالكرامات عليها، فإذا كانت لا تحصل بالصلاة، والذكر، وقراءَة القرآن، بل تحصل بما يُحِبُّهُ الشيطان، وبالأُمور التي فيها شرك؛ كالاستغاثة بالمخلوقات، أَو كانت مما يُسْتَعَانُ بها على ظلم الخلق، وفعل الفواحش، فهي من الأَحوال الشيطانية (1)، لا من الكرامات الرحمانية.
ومن هؤلاء من إذا حضر سماع المكاءِ والتصدية يتنزَّل عليه شيطانه حتى يَحْمِلَهُ في الهواءِ، ويخرجه من تلك الدار، فإذا حضر رجل من أَولياء اللَّه - تَعَالَى، طرد شيطانه فيسقط، كما جرى هذا لغير واحد.
(1) ولا تحصل هذه الخوارق عند تلاوة القرآن الكريم، وإنما تحصل عند استعمال الآلات الموسيقية كالطبل والدف والمزامير وغيرها، وهذا دليل على أن هذه أحوال شيطانية لا إيمانية، ولذلك كان يشترط بعضهم على من يحضرهم ألا يقرءوا قرآنًا، ولا يتكلموا بشيء البتة، وقد طلب بعض الرفاعية من أحد الشباب الانصراف عنهم حين كان ذلك الشاب يتمتم بالذكر وقراءة القرآن، مما أدى إلى جرحهم لدى إدخالهم الشيش، حتى قالوا:"إن بين الحاضرين رجلًا روحه شريرة، فلينصرف عنا".
وقال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في أثناء كلامه على طائفة محمد بن عيسى "أكلة الثعابين والنار": "وقد أحرجتُ واحدًا منهم، وأردته على أن يمكنني من وضع النار حيث أريد من بدنه، فلم يقبل، ثم استتبته، فأظهر التوبة عن مخادعة الناس بذلك ". اهـ. من "المنار" المجلد العاشر ص (290).
وقال أيضًا رحمه الله: "إن ما يفعله الرفاعية من اقتحام النار وضرب الشيش وإدخال الحديد المحميِّ في ألسنتهم، وأكل الحيات والحشرات، إنما هو من الشعوذة التي لا ينفردون بها عن غيرهم، بل إنها منتشرة بين كثيرين من المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة وفي أفكار عديدة". اهـ. كما حكاه عنه الشيخ عبد الرحمن دمشقية -حفظه الله-، ثم قال:
"وقد زعم أمامي واحد من أهل الطريقة الرفاعية أن إكرام الله لهم حاصل في كونهم يأكلون الزجاج أمام الكفار، وأنهم عاينوا الزجاج في بطنه، وتأكدوا من صحة ذلك، وأدّى ببعضهم إلى الإسلام، فقلت: هذا من جهل أولئك بحقيقة الأمر، فإنهم لو علموا أن هذا يحدث للوثنيين والبوذيين لربما ارتدوا على أعقابهم، بل يحدث مثل ذلك أيضًا على مسارح السيرك، حيث يدخِل الساحر الشيش في الأجساد، بل يَقْسِم الفتاة بالسيف نصفين". اهـ. بتصرف من "الرفاعية" ص (104، 105).
ومن هؤلاء من يستغيث بمخلوق، إِمَا حي أو ميت، سواءٌ كان ذلك المخلوق مسلمًا، أَو نصرانيًّا، أَو مشركًا، فيتصور الشيطان بصورة ذلك المستغاث به، ويقضي بعض حاجة ذلك المستغيث؛ فيظن أنه ذلك الشخص، أَو هو مَلَكٌ تصوَّر على صورته، وانما هو شيطان أَضلَّه لَما أَشرك باللَّه، كما كانت الشياطين تدخل في الأَصنام، وتكلِّم المشركين، ومن هؤلاء من يتصوَّر له الشيطان، ويقول له: أَنا الْخَضِرُ، وربما أَخبره ببعض الأُمور، وأَعانه على بعض مطالبه، كما قد جرى ذلك لغير واحد من المسلمين، واليهود، والنصارى، وكثيرٌ من الكُفَّار بأَرض المشرق والمغرب، يموت لهم الميت، فيأتي الشيطان بعد موته على صورته، وهم يعتقدون أَنه ذلك الميت، ويقضي الديون، ويرد الودائع، ويفعل أَشياءَ تتعلق بالميت، ويدخل إلى زوجته ويذهب، وربما يكونون قد أَحرقوا ميتهم بالنار، كما تصنع كُفَّار الهند، فيظنون أَنه عاش بعد موته، ومن هؤلاء شيخ كان بمصر أَوصى خادمه فقال:"إذا أنا مت فلا تدع أحدًا يغسلني، فأنا أجيء وأغسل نفسي"، فلما مات رأى خادمه شخصًا في صورته، فاعتقد أَنه هو، دخل وغسل نفسه، فلما قضى ذلك الداخل غسله؛ أَي غسل الميت، غاب، وكان ذلك شَيْطَانًا، وكان قد أَضلَّ الميت، وقال:"إنك بعد الموت تجيءُ فَتُغَسِّلُ نفسك"، فلما مات جاءَ -أيضًا- في صورته ليغوي الأحياءَ، كما أَغوى الميت قبل ذلك.
ومنهم من يرى عرشًا في الهواء، وفوقه نور، ويسمع من يخاطبه، ويقول: أَنا ربك. فإن كان من أَهل المعرفة، عَلِمَ أَنه شيطان، فزجره، واستعاذ باللَّه منه، فيزول.
ومنهم من يرى أَشخاصًا في اليقظة يدَّعى أَحدهم أَنه نبي أَو صِدِّيقٌ، أَو شيخٌ من الصالحين، وقد جرى هذا لغير واحد، وهؤلاء منهم من يرى ذلك عند قبر الذي يزوره، فيرى القبر قد انشق وخرج إليه صورة، فيعتقدها الميت، وإنما هو
جني تصوَّر بتلك الصورة، ومنهم من يرى فارسًا قد خرج من قبره، أو دخل في قبره، ويكون ذلك شيطانًا، وكل من قال: إنه رأَى نَبِيًّا بعين رأسه فما رأَى إلا خيالًا.
ومنهم من يرى في منامه أَن بعض الأكابر؛ إِما الصدِّيق رضي الله عنه، أَو غيره قد قص شعره، أَو حلقه، أَو أَلبسه طاقيته، أَو ثوبه، فيصبح وعلى رأسه طاقية، وشعره محلوق، أَو مُقَصَّرٌ، وإنما الجن قد حَلَقُوا شعره، أَو قَصَّرُوهُ، وهذه الأَحوال الشيطانية تحصل لمن خرج عن الكتاب والسنة، وهم درجات، والجن الذين يقترنون بهم من جنسهم وعلى مذهبهم، والجن فيهم الكافر، والفاسق، والمخطئُ، فإن كان الإنسي كافرًا، أَو فاسقًا، أو جاهلًا، دخلوا معه في الكفر، والفسوق، والضلال، وقد يعاونونه إذا وافقهم على ما يختارونه من الكفر؛ مثل الإقسام عليهم بأسماءِ من يُعَظِّمونه من الجن وغيرهم، ومثل أن يكتب أَسماءَ اللَّه، أو بعض كلامه بالنجاسة، أَو يقلب "فاتحة الكتاب"، أو سورة "الإخلاص"، أو آية الكرسي، أو غيرهنَّ، ويكتبهنَّ بنجاسة، فيغوِّرون له الماءَ، وينقلونه، بسبب ما يرضيهم به من الكفر، وقد يأتونه بمن يهواه من امرأَة أَو صبي؛ إما في الهواء، وإما مدفوعًا مُلْجَأً إليه، إلى أَمثال هذه الأُمور التي يطول وصفها، والإيمانُ بها إيمان بالجبت والطاغوت، والجبت: السحر، والطاغوت: الشياطين والأصنام، وإن كان الرجل مُطِيعًا للَّه ورسوله باطنًا وظاهرًا؛ لم يمكنهم الدخول معه في ذلك، أَو مسالمته.
ولهذا لما كانت عبادة المسلمين المشروعة في المساجد التي هي بيوت اللَّه، كان عُمَّار المساجد أَبعد عن الأحوال الشيطانية، وكان أَهل الشرك والبدع، الذين يُعَظِّمُونَ القبور، ومشاهد الموتى، فيدعون الميت، أَو يدعون به، أَو يعتقدون أَن الدعاءَ عنده مستجاب -أَقْرَبَ إلى الأَحوال الشيطانية؛ فإنه ثبت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ".
وثبت في "صحيح مسلم" عنه أَنه صلى الله عليه وسلم قال قبل أَن يموت بخمس ليال: "إِنَ أَمَنَّ النَاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ وَذَاتِ يَدهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ، لَا يَبْقَيَنَّ فيِ الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلَّا سُدَّتْ، إِلَّا خَوْخَة أَبِي بَكْرِ، ألا إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلُكمْ كانوا يَتَّخِذُونَ قبورَ أنبيائهم مَسَاجِدَ، ألَا فَلَا تتَخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ".
وفي "الصحيحين" عنه أَنه ذُكِرَ له في مرضه كنيسة بأرض الحبشة، وذكروا من حُسْنِها، وتَصاوِيرَ فيها، فقال:"أُولَئِكَ إذا كان فِيهمُ الرَّجلُ الصَّالِحُ بَنوا عَلَى قبرهِ مَسْجِدًا، ثم صَوَّروا تلك الصور، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ") (1).اهـ.
وقال شيخ الإسلام -أيضًا-:
(وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة (2)، فلم يُكْرِمِ اللَّه عبدًا بمثل أن يُعِينَهُ
(1)"الفرقان" ص (136 - 140).
(2)
والمريد الصادق قد تكثر له الكرامات في ابتدائه تثبيتًا له وتأنيسًا ومعونة، فإذا كمل خفت عنه أو انعدمت لعدم احتياجه إليها، ومِن ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله:"مشى قوم على الماء، ومات بالعطش من هو أفضل منهم". انظر: "زاد المسلم"(3/ 179)، وقال الشاطبي رحمه الله:"وعَدُّوا مَن رَكَنَ إلى الكرامات مستدرَجًا، من حيث كانت ابتلاءً، لا من جهة كونها آية أو نعمة". اهـ. من "الموافقات"(1/ 549).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ومما ينبغي أن يُعرفَ: أن الكراماتِ قد تكون بحسب حاجة الرجل، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان أو المحتاج؛ أتاه منها ما يقوي إيمانه ويَسُدُّ حاجته، ويكون مَن هو أكمل وَلايةً لله منه مستغنيًا عن ذلك، فلا يأتيه مثلُ ذلك لعلو درجته وغناه عنها، لا لنقص وَلايته، ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة، بخلاف من تجري على يديه الخوارق لهداية الخلق أو لحاجتهم، فهؤلاء أعظم درجة". اهـ. من "الفرقان".
ولا يلزم من كون الرجل وليًا لله أن تقع له كرامات، فقد لا تقع الكرامات لمن هو من أعظم أولياء الله تعالى لاستغنائه عن ذلك لا لنقص في ولايته، ومن المُبَشرين بالجنة من الصحابة رضي الله عنهم مَن لم تقع له كرامات، فإن أعظم الكرامة: لزومُ الاستقامة، وانظر ص (196).
على ما يُحِبُّهُ ويرضاه، ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته.
- وجميع ما يؤتيه اللَّه لعبده من هذه الأمور، إن استعان به على ما يحبه اللَّه ويرضاه، ويُقَرِّبُهُ إليه، ويرفع درجته، ويأمره اللَّه به ورسوله، ازداد بذلك رِفْعَةً، وقربًا إلى اللَّه ورسوله، وعَلَتْ درجته، وإن استعان به على ما نهى اللَّه عنه ورسوله؛ كالشرك، والظلم، والفواحش؛ استحق بذلك الذَّمَّ والعقاب، فإن لم يتداركه اللَّه -تَعَالَى- بتوبة، أو حسنات مَاحِيَةٍ، وإلا كان كأمثاله من المُذنبين؛ ولهذا كثيرًا ما يُعَاقَبُ أصحاب الخوارق، تارة بسلبها، كما يُعْزَلُ الملك عن ملكه، ويُسلَب العَالِمُ علمه، وتارة بسلب التطوعات، فينقل من الوَلاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفسَّاق، وتارة يرتدُّ عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرًا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثيرًا منهم لا يعرف أَن هذه شيطانية، بل يَظُنُّها من كرامات أَولياء اللَّه، ويظن من يَظُنُّ منهم أن اللَّه عز وجل إذا أَعطى عبدًا خَرْقَ عادةٍ لم يحاسبه على ذلك، كمن يظن أن اللَّه إذا أعطى عبدًا مُلكًا، ومالًا، وتصرفًا، لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أُمور مباحة، لا مأمور بها، ولا منهي عنها، فهذا يكون من عموم الأَولياء، وهم الأَبرار المقتصدون، وأَما السابقون المقربون فأَعلى من هؤلاءِ، كما أَن العبد الرسول أَعلى من النبي الملِك.
ولما كانت الخوارق كثيرًا ما ينقص بها درجةُ الرجل، كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك، ويستغفر اللَّه -تَعَالَى-، كما يتوب من الذنوب؛ كالزنا، والسرقة، وتُعْرَضُ على بعضهم فيسأَل اللَّه زوالها، وكلهم يأمر المرِيدَ السالك ألا يقف عندها، ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها (1)، مع ظنهم أَنها
(1) قال ابن الجوزي رحمه الله -تعالى-: "ولما علم العقلاء شدة تلبيس إبليس حذروا من أشياء ظاهرها الكرامة، وخافوا أن تكون من تلبيسه .. ، وعن رابعة أنها أصبحت يوما صائمة في يوم بارد، قالت: (فنازعتني نفسي إلى شيء من الطعام السخن أفطر عليه، وكان عندي شحم، فقلت: =
كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها؟! فإني أَعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يُخاطِبُهُ الشيطان الذي دخل فيها، وأَعْرِفُ من يخاطبهم الحجرُ والشجر، وتقول:"هَنيئًا لك يا ولي اللَّه"، فيقرأ آية الكرسي، فيذهب ذلك.
وأعرف من يقصد صيد الطير، فتخاطبه العصافير وغيرها، وتقول:"خذني حتى يأكلني الفقراء"، ويكون الشيطان قد دخل فيها، كما يدخل في الإنس، ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق، فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح، وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة، وتكون الجن قد أَدخلته وأَخرجته بسرعة، أَو ترِيهِ أَنوارًا، وتُحْضِر عنده من يطلبه، ويكون ذلك من الشياطين، يتصورون بصورة صاحبه، فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة، ذهب ذلك كله.
وأَعرف من يخاطبه مخاطبٌ، ويقول له:"أَنا مِن أَمْرِ اللَّه"، ويعده بأنه المهدي الذي بَشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم، ويُظْهِرُ له الخوارق؛ مثل أَن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أَو الجراد يمينا وشمالًا، ذهب حيث أَراد، وإِذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي، أَو نومُه، أَو ذَهَابُه؛ حصل له ما أَراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة، وتأتي به، وتأتيه بأَشخاص في صورة جميلة، وتقول له:"هذه الملائكة الكروبيون أَرادوا زيارتك"، فيقول في نفسه:"كيف تصوروا بصورة المُرْدان؟ "، فيرفع رأسه فيجدهم بلِحَى، ويقول له: "علامة أَنك المهدي:
= لو كان عندي بصل أو كرات عالجته، فإذا عصفور قد جاء فسقط على المثقب في منقاره بصلة، فلما رأيته أضربت عما أردت، وخفت أن يكون من الشيطان). وبالأسناد عن محمد بن يزيد قال: كانوا يرون لوهيب أنه من أهل الجنة، فإذا أُخبر بها اشتد بكاؤه، وقال: قد خشيت أن يكون هذا من الشيطان". اهـ. من "تلبيس إبليس" ص (535، 536).
أَنك تنبت في جسدك شامة" (1)، فَتَنْبُتُ ويراها، وغير ذلك، وكله من مكر الشيطان.
وهذا باب واسع، لو ذَكَرْتُ ما أَعرف منه؛ لاحتاج إلى مجلد كبير، وقد قال -تَعَالَى-:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16]، قال اللَّه تبارك وتعالى:{كَلَّا} ، ولفظة (كلا) فيها زجر وتنبيه؛ زجرٌ عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به، ويأمر به بعده؛ وذلك أَنه ليس كل مَنْ حصل له نِعَمٌ دنيوية تُعَدُّ كرامة، يكون الله عز وجل مُكْرِمًا له بها، ولا كل من قَدَّر -أي: ضَيَّق- عليه ذلك يكون مُهِينًا له بذلك، بل هو -سبحانه- يَبْتَلِي عبده بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده؛ ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يُحِبُّهُ وُيوَاليهِ، لئلا ينقص بذلك مرتبته عنده، أَو يقع بسببها فيما يكرهه منه.
وأَيضًا كرامات الأَولياءِ لابد أَن يكون سببها الإيمان والتقوى (2)، فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان، فهو من خوارق أَعداء الله، لا من كرامات أَولياءِ اللَّه، فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة، والقراءَة، والذكر، وقيام الليل، والدعاء، وإِنما تحصل عند الشرك؛ مثل دعاءِ الميت، والغائب، أَو بالفسق، والعصيان، وأَكل المحرَّمات؛ كالحيات، والزنابير، والخنافس، والدم، وغيره من النجاسات، ومثل الغناءِ، والرقص، لاسيما مع النِّسوة الأجانب، والمردان، وحالة خوارقه تنقص عند سماع القرآن، وتقوى عند سماع مزامير الشيطان، فيرقص ليلًا طويلًا، فإذا جاءَت الصلاة صلَّى قاعدًا، أو ينقر الصلاة نقر الديك، وهو يُبغض سماع القرآن، وينفر عنه، ويتكلفه، ليس له
(1) وأمر هذه "الشامة" لا يُعرف له أصل في الأحاديث الصحيحة الواردة في حق المهدي، ومن الغريب أن "المهدي السوداني" عُني بأمر شامة كانت فيه، وكان يُعَوِّل عليها أحيانًا في إثبات مهديته.
(2)
وقد قيل: "الكرامة تَنتجُ عن استقامةٍ، أو تُنْتج استقامةً".