الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نقد موقف أبي حامد الغزالي من الكشف والإلهام
1 -
لقد غلا أبو حامد الغزالي في إثبات حجية "الكشف" و"الإلهام" حتى قال في "مشكاة الأنوار" -وبئس ما قال-: "فى الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء"(1).
بل بلغ اغترار بعض الصوفية بالكشف إلى حد قول بعضهم: "خُضْنا بحرًا، وقف الأنبياء بساحله".
ومما يستنكر على الغزالي -سامحه الله- قوله: "الأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر، وفاض على صدورهم النور، لا بالتعلُّم والدراسة، والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا، والتبري من علائقها، وتفريغ القلب من شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله -تعالى-.
ثم قال: فمن كان حاله كذلك، فإنه يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب". اهـ (2).
ولا شك أن جمعه -في مثل هذا السياق- بين الأنبياء والأولياء (3) أمر مرفوض بالكلية، إذ لا يُقاس الأولياء على الأنبياء للافتراق بينهما في علة إرسال الرسل، وفي تلقيهم الوحي المعصوم، وفي غير ذلك، أضف إلى ذلك أن إرشاده مَن وصل إلى تلك الحال إلى أن يخلو بنفسه في زاوية مع الاقتصار على
(1)"مشكاة الأنوار" ص (45)، ضمن مجموعة "القصور العوالي"، ونقول تعقيبًا على هذا الضلال المبين:"لماذا إذن بكى الصحابة رضي الله عنهم لانقطاع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! "، وانظر ص (164، 165).
(2)
"الإحياء"(1/ 18 - 20)، وانظر:"كيمياء السعادة" ص (88).
(3)
وله في الجمع بين الأنبياء والأولياء كلام شنيع يلزم منه انتقاص مرتبة النبوة، كما في "فيصل التفرقة" ص (130)، و"ميزان العمل" ص (75)، وغيرهما.
الفرائض والرواتب فيه انحراف عن هَدْي مَن هديُه خير الهدي صلى الله عليه وسلم، وهذه السلبية فيها هدم لأركان الدين، من الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو فعل الصحابة رضي الله عنهم ذلك لما فتحوا الفتوح، ولا نشروا الإسلام، ولا تعلموا الوحيين، ولا علَّموا الناس.
2 -
وادعى الغزالي أن "فكر المريد يتفرق بقراءة القرآن، وبالتأمُّل في كتب التفسير والحديث وغيرهما"(1).
وهذا الكلام النحس، والمذهب الشؤم، والرأي المظلم أوقعه فيه بُعده عن منهج أهل السنة والحديث، وهو الذي دفع الإمام ابن الجوزي إلى أن يعلق عليه قائلًا:"عزيز عليَّ أن يصدر هذا الكلام من فقيه، فإنه لا يخفى قبحه، فإنه على الحقيقة طيٌّ لبساط الشريعة التي حثت على تلاوة القرآن وطلب العلم"(2).اهـ.
3 -
ويرشد الغزالي المريد الذي يريد أن يجمع قلبه إلى أن يجتهد حتى لا يخطر بباله شيء سوى الله -تعالى-، وتكون غايته -في حَلِّه وتَرْحَاله- تحصيلَ مرتبة الكشف والإلهام، كما فتحها على الأنبياء والأولياء.
والجواب: أن هذا التعبد بقصد الاطلاع على العوالم المغيبة، وحصول الكشف والإلهام وما أشبه ذلك (3) مما ينافي الإخلاص، ويُكَدِّر صفاءه، لأن العابد هنا جعل العبادة وسيلة إلى ما لم تقره الشريعة، بجانب أن التعبد بهذا القصد يضعف الإخلاص في حالة عدم حصول مراده، وربما أعرض عن العبادة.
وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد لله في غار حراء، لم يكن يطلب كشفًا ولا إلهامًا، ولا شيئًا ينزل عليه من السماء، ولم يخطر له ذلك
(1) انظر: "الإحياء"(3/ 19، 20)، (2/ 66).
(2)
وله في الجمع بين الأنبياء والأولياء كلام شنيع يلزم منه انتقاص مرتبة النبوة، كما في "فيصل التفرقة" ص (130)، و"ميزان العمل" ص (75)، وغيرهما.
(3)
كالاطلاع على عالم الأرواح، ورؤية الملائكة، وحصول خوارق للعادات.
على بال، قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 86]، بل حين جاءه الوحي كان مفاجأة هائلة له، ورجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده، ويقول:"زمِّلوني، زمِّلوني"، ويقول:"لقد خشيت على نفسي".
وقد رُوي أن بعض الناس سَمِعَ بالقول المأثور: "مَن أخلص للَّه أربعين صباحًا، ظهرت ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه"، فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يُفتح له بابها، فبلغت القصة أحد الفضلاء، فقال:"هذا أخلص للحكمة، ولم يخلص لله".
- والشرع الشريف لم يأمرنا بتطلب الكشف والإلهام، لأنه وهبي وليس كسبيًّا، وإنما أُمِرنا بطلب العلم.
- أن هذا النوع من القصد -إن أُريد به تثبيت القلوب وزيادة طمأنينة النفوس- ففي عالم الشهادة من الآيات القريبة السهلة المأخذ ما يدهش الألباب، وقد أمرنا الله بالنظر والتفكر في الآيات الكونية التي يدركها الحس كما قال عز وجل:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} الآيات [ق: 6، 7]، وقال -تعالى-:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، وقال سبحانه:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الآيات [الغاشية: 17 - 20].
ولم يأمرنا قط بالنظر فيما حُجِب عنا، ولا سبيل إلى الاطلاع عليه في العادة، كالملائكة والعوالم الغيبية.
- ومِن جهة أخرى فهذا المسلك مسلك فلسفي منقول عن الحكماء المتقدمين والفلاسفة المتعمقين والهندوس الوثنيين، والرهبان الضالين، مشروط برياضات معينة، لم تأت بها شريعتنا الإسلامية، فهو مسلك أجنبي دخيل على الإسلام، و"خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم".
ومن أراد أن يكون لله وليًّا فليطلب ذلك بالإيمان والعمل الصالح، قال
تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، وبالفرائض والنوافل كما في حديث الوَلاية (1).
- وكما لم يكلفنا الله بالتطلع إلى المحسوسات البعيدة عنا في أقطار الأرض وأعماقها، كذلك لا يكلفنا هذا بالنسبة للأمور الغيبية.
- وأخيرًا: "فإن هذه الطريقة لو كانت حقًّا، فإنما تكون في حق مَن لم يأته رسول، فأما مَن أتاه رسول وأُمِر بسلوك طريق، فمَن خالفه ضلَّ، وخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم قد أمر أُمَّته بعبادات شرعية مِن صلاة وذكر ودعاء وقراءة، لم يأمرهم قط بتفريغ القلب مِن كل خاطر وانتظار ما ينزل!
فهذه الطريقة لو قُدِّر أنها طريق لبعض الأنبياء لكانت منسوخة بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف وهي طريقة جاهلية لا توجب الوصول إلى المطلوب إلا بطريق الاتفاق، بأن يقذف الله -تعالى- في قلب العبد إلهامًا ينفعه؟ وهذا قد يحصل لكل أحد، ليس هو من لوازم هذه الطريق.
ولكن التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله، ويملأه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله، ويملؤه بعبادة الله، وكذلك يفرغه من محبة غير الله، ويملؤه بمحبة الله، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله، ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله، ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه، ولا يناقضه وينافيه، كما قال جندب وابن عمر:"تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانًا".
وأما الاقتصار على الذِكْر المجرَّد الشرعي مثل قول: "لا إله إلا الله " -فهذا
قد ينتفع به الإنسان أحيانًا، ولكن ليس هذا الذِكْر وحده هو الطريق إلى الله
(1) انظر: "الموافقات"(2/ 298 - 302)، و"مقاصد المكلفين" للدكتور عمر الأشقر ص (475 - 480).
-تعالى- دون ما عداه، بل أفضل العبادات البدنية الصلاة ثم القراءة ثم الذِكْر ثم الدعاء" (1).
ومما قاله الغزالي -أيضًا-: " فَأمَّا من يأخذ معرفة هذه الأمور (2) من السمع المجرد، فلا يستقر له فيها قدم، ولا يتَعَيَّنُ له موقف"(3) اهـ.
علَّق شيخ الإسلام ابن تيمية قائلًا: "قلت: هذا الكلام مضمونه أنه لا يُسْتَفَادُ من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم شيء من الأمور العلمية، بل إنما يُدْرِكُ ذلك كل إنسان بما حصَلَ له من المشاهدة والنور والمكاشفة".
وقال -أيضًا-: "وهذان أصلان للإلحاد؛ فإن كل ذي مكاشفة إن لم يَزِنْهَا بالكتاب والسنة، وإلا دخل في الضلالات"(4).
وقال رحمه الله: "وما جاء به الرسول معصوم لا يستقر فيه الخطأ، وأما ما يقع لأهل القلوب من جنس المخاطبة والمشاهدة: ففيه صواب وخطأ، وإنما يُفَرَّقُ بين صوابه، وخطئه بنور النبوة.
قال بعض الشيوخ ما معناه: قد ضُمِنَتْ لنا اْلعصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تُضْمَنْ لنا العصمة في الكشوف"، ثم قال شيخ الإسلام: "من المعلوم أن هذا -أي الكشف- لو كان ممكنًا؛ لكان السابقون الأوَّلُونَ أَحَق الناس بهذا، ومع هذا فما منهم من ادَّعى أنه أدرك بنفسه ما
(1)"مجموع الفتاوى"(10/ 399).
(2)
يقصد بهذه الأمور: معرفة ما يُتأول من الصفات الألهية وغيرها مما لا يُتأول، وقد حكى مذهب الأشعرية، ثم المعتزلة ثم الفلاسفة، ثم قال:"وحد الاقتصاد يين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض، لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع (يعني الأدلة السمعية من الكتاب والسنة)، فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه، وما خالف أولوه" اهـ. من "الأحياء"(1/ 104).
(3)
"نفس المصدر".
(4)
وانظر شيئًا من هذه الضلالات مفصلة في "الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة" ص (143 - 199)، و"أبو حامد الغزالي والتصوف" ص (179 - 201).
أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم" (1).
وقال الإمام المحقق ابن قيِّمِ الجوزية في ضمن شرحه لعبارة صاحب المنازل: "وأمَّا الدرجة الثالثة: فمكاشفة عين، لا مكاشفة علم"
…
إلخ.
"وليس مراد الشيخ في هذا الباب: الكشف الجزئي المشترك بين المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفجَّار؛ كالكشف عمَّا في دار إنسان، أو عمَّا في يده، أو تحت ثيابه، أو ما حَمَلَتْ به امرأته، بعد انعقاده ذكرًا أو أنثى، وما غاب عن العيان من أحوال البعد الشاسع ونحو ذلك، فإن ذلك يكون من الشيطان تارةً، ومن النفس تارةً؛ ولذلك يقع من الكفَّار؛ كالنصارى، وعابدي النيران، والصلبان؛ فقد كاشف ابن صياد النبي صلى الله عليه وسلم بما أضمره له، وخبَّأه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا أَنْتَ مِنْ إخوَانِ الكُهَّانِ"، فأخبر أن ذلك الكشف من جنس كشف الكهان، وأن ذلك قَدْرُهُ، وكذلك مُسَيْلمَةُ الكذَّاب، مع فرط كفره، كان يُكَاشِفُ أصحابه بما فعله أحدهم في بيته، وما قاله لأهله، يخبره به شيطانه، ليُغويَ الناس، وكذلك الأسود العنسي، والحارث المتنبي الدمشقي الذي خرج في دولة عبد الملك بن مروان، وأمثال هؤلاء ممن لا يحصيهم إلا الله، وقد رأينا نحن وغيرنا منهم جماعة، وشاهد الناس مِن كَشْفِ الرُّهْبَان عُبَّاد الصليب ما هو معروف.
والكشف الرحماني من هذا النوع: هو مثل كشف أبي بكر لما قال لعائشة رضي الله عنهما: إن امرأته حامل بأنثى، وكشف عمر رضي الله عنه لمَّا قال:"يا ساريةُ الجبلَ"، وأضعاف هذا من كشف أولياء الرحمن.
والمقصود: أن مراد القوم بالكشف في هذا الباب أمر وراء ذلك، وأفضله وأجله: أن يكشف للسالك عن طريق سلوكه؛ ليستقيم عليها، وعن عيوب نفسه ليصلحها، وعن ذنوبه ليتوب منها.
(1)"درء تعارض العقل والنقل"(5/ 348 - 354)، وانظر:"مجموع الفتاوى"(2/ 91).