الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَنبِيهَاتٌ:
الأوَّلُ: ذكر العلامة محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله اختلاف العلماء في هذه المسألة
، ومال إلى خلاف قول الجمهور، إلا أنه قال:
"إذا علمت ما قررناه من إمكان رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة كرامة لبعض خواص أكابر الأولياء
…
، فاعلم أن فائدة ذلك إنما تعود غالبًا على الرائي فقط، ولا يجوز أن يثبت بها حكم شرعي كائنًا ما كان ندبًا أو غيره من سائر الأحكام الشرعية، كما تعطيه قواعد الشرع المعلومة، وكما صرح به الأئمة؛ كالحافظ ابن حجر وغيره، فقد قال في "فتح الباري" بعد بحث طويل عند قوله عليه الصلاة والسلام:"وَلَا يَتَمَثَّلُ الشيْطَانُ بِي" ما نص المراد منه: ومع ذلك فقد صرح الأئمة بأن الأحكام الشرعية لا تثبت بذلك" (1).
وهذا كلام العلماء فيما يدعي النائم أنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحكام النوم، مع ثبوت رؤيته صلى الله عليه وسلم في النوم بالأحاديث الصحيحة، فكيف بما يزعمون أنهم أخذوه عنه صلى الله عليه وسلم بعد موته في اليقظة مع أنها مردودة شرعًا وعقلًا كما تم بيانه.
الثَّاني: بحسب قلة علم الرجل يُضِلُّه الشيطان:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمقصود أن الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يطمع الشيطان أن يضلهم كما أضل غيرهم من أهل البدع الذين تأولوا القرآن على غير تأويله، أو جهلوا السنة، أو رأوا وسمعوا أمورًا من الخوارق فِظنوها من جنس آيات الأنبياء والصالحين، وكانت من أفعال الشياطين
…
فأهل الهند يرون من يعظمونه من شيوخهم الكفار وغيرهم.
والنصارى يرون من يعظمونه من الأنبياء والحواريين وغيرهم.
(1)"زاد المسلم"(3/ 187).
والضُّلَّال من أهل القِبلة يرون من يعظمونه، إما النبي صلى الله عليه وسلم وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث فيجيبهم، ومنهم من يخيل إليه أن الحجرة قد انشقت، وخرج منها النبي صلى الله عليه وسلم، وعانقه هو وصاحباه
…
وأعرف ممن وقع له هذا وأشباهه عددًا كثيرًا، وقد حدثني بما وقع له في ذلك، وبما أخبر به غيره من الصادقين من يطول هذا الموضع بذكرهم
…
لكنْ كثير من الناس يكذِّب بهذا، وكثير منهم إذا صدَّق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأى ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان" (1).
التنبيه الثَّالثُ: "لو فرضنا جدلًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يعود بجسده الشريف أو روحه الطاهر- صلى الله عليه وسلم ليلقى بعض المسلمين، فإننا نجزم أن لقاءه هذا سيكون لتعزيز شريعته التي بثها في حياته لا لهدمها، فنتصور مثلًا في مثل التجاني أن يقول:(لا تكن أنت وأتباعك عبيدًا للاستعمار الفَرَنْسِيِّ ولا خدمًا للكفار، وقوموا بنصرة الدين، وجاهدوا في سبيل اللَّه).
وأما أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليقول للتجاني: (أقطعتُكَ الجنة وأتباعك -ولو كانوا مجرمين فاسقين- وكل من رآك دخل الجنة، ولو كان كافرًا، وأمُرْ أتباعك أن يَدْعوك من دون اللَّه، ويشركوا بالله في كل شىء
…
) إلخ كلامه" (2).
الرَّابعُ: يدعي التجانية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بتبليغ كل ما علمه، وأن ما لم يُبَلِّغْهُ في حياته يبلغه بعد وفاته لمن يلقاه من الخواص، قال
(1)"مجموع الفتاوى"(27/ 390 - 392) بتصرف.
(2)
"الفكر الصوفي" ص (360).
مؤلف "جوهر المعاني": "وسألته رضي الله عنه: هل خَبَرُ سيدِ الوجود بعد موته كحياته سواء؟ فأجاب رضي الله عنه بما نصه: الأمر العام الذي كان يأتيه عامًّا للأمة طوي بساط ذلك بموته صلى الله عليه وسلم، وبقي الأمر الخاص الذي كان يلقيه للخاص، فإن ذلك في حياته، وبعد مماته دائمًا لا ينقطع"(1).
وقال مؤلف "الجيش الكفيل": "فإذا تقرر هذا علمتَ ضرورة أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بتبليغ كل ما علمه، كيف وعنده علم الأولين والآخرين"(2). اهـ.
وقال -أيضًا-: "وسئل: هل كان صلى الله عليه وسلم عالمًا بفضل صلاة الفاتح لما أغلق؟ فقال: نعم، كان عالمًا به، قالوا: ولِمَ لَم يذكره لأصحابه؟ قال: لعلمه صلى الله عليه وسلم بتأخير وقته، وعدم وجود من يظهره اللَّه على يديه في ذلك الوقت"(3). اهـ.
فأين هؤلاء الظالمون المتعدون حدودَ اللَّه من قوله -تَعَالَى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية [المائدة: 3]؟ وأين هم من قوله -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} الآية [المائدة: 67]؟ وأين هم من تبري عليٍّ رضي الله عنه من أن يكون صلى الله عليه وسلم خصهم بشيء من العلم دون الناس، كما في حديث أبي جحيفه؟ (4).
وإذا كان يلزم من كلام أولئك الضالين عدم انقطاع خبر السماء بوفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلماذا قالت أم أيمن للشيخين رضي الله عنهما: "ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء"، فهيَّجَتْهما على
(1)"جوهر المعاني"(1/ 140).
(2)
"الجيش الكفيل بأخذ الثأر" ص (110، 111).
(3)
"نفسه" ص (110).
(4)
رواه البخاري، أرقام:(111)، (1870)، (3172)، وغيرها.
البكاء، فجعلا يبكيان معها (1)؟
وقد صح أن عمر رضي الله عنه قال في بعض الأمور: "ليتني سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنه".
وأين هؤلاء من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمسروق رحمه الله: "من حدثك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا مما أنزل عليه، فقد كذب، واللَّه يقول:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
…
الآية" (2).
وقال الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله: "
…
واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من زوجة أو ابنة عم أو ابن عم أو صاحبٍ على شيء من الشريعة كَتَمَهُ عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده عليه السلام سر ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلَّهم إليه، ولو كتمهم شيئًا لما بلَّغ كما أُمِر، ومن قال هذا: فهو كافر، فإياكم وكلَّ قول لم يبين سبيله، ولا وضح دليله، ولا تعوجوا عما مضى عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم" (3). اهـ.
* * *
(1) رواه مسلم (16/ 9، 10 - شرح النووي).
(2)
رواه البخاري (8/ 275 - فتح)، ومسلم (3/ 8، 9 - شرح النووي).
(3)
"الفَصْل"(2/ 116).