الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَرقُ العَادَةِ بمُجَرَّدِهِ لا يَدُلُّ عَلَى الوَلَايَةِ
قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه تَعَالى-:
"وكل من خالف شيئًا مما جاء به الرسول، مقلدًا في ذلك لمن يظن أنه وَليٌ للَّه، فإنه بنى أمره على أنه ولي للَّه، وأن ولي اللَّه لا يُخَالَفُ في شيء، ولو كان هذا الرجل من أكبر أولياء اللَّه؛ كأكابر الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، لم يُقْبَلْ منه ما خالف الكتاب والسنة، فكيف إذا لم يكن كذلك؟!
وتجد كثيرًا من هؤلاء عمدتهم في اعتقادِ كَوْنهِ وليًّا للَّه أنه قد صدر عنه مُكَاشَفَةٌ في بعض الأمور، أو بعض التصرفات الخارقة للعادة؛ مثل أن يُشِيرَ إلى شخص فيموت، أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها، أو يمشي على الماء أحيانًا، أو يملأ إبريقًا من الهواء (1)، أو ينفق بعض الأوقات من الغيب، أو يختفي أحيانًا عن أعين الناس، أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاءه، فقضى حاجته، أو يُخْبِرَ الناس بما سُرِقَ لهم، أو بحالِ غائِبٍ لهم أو مريض، أو نحو ذلك من الأمور، وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها ولي اللَّه، بل قد اتفق أولياء اللَّه على أن الرجل لو طار في الهواء، أو مشى على الماء، لم يُغْتَرَّ به حتى يُنْظَرَ متابعته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وموافقته لأمره ونهيه (2).
وكرامات أولياء اللَّه -تَعَالَى- أعظم من هذه الأمور الخارقة للعادة -وإن كان قد يكون صاحبها وليًّا للَّه- فقد يكون عَدُوًّا لله، فإن هذه الخوارق تكون لكثير من الكفَّار، والمشركين، وأهل الكتاب، والمنافقين، وتكون لأهل
(1) أي: يملأ إبريقًا ماءً من الهواء.
(2)
قال موسى بن عيسى: قال أبي: قال أبو يزيد: "لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يُرفَعَ في الهواء؛ فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدوه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وأداء الشريعة".
أخرجه البيهقي في "الشعب"(2/ 301).
البدع، وتكون من الشياطين، فلا يجوز أن يُظَنَّ أن كل من كان له شيء من هذه الأمور أنه ولي لله، بل يُعْتبَرُ أولياء الله بصفاتهم، وأفعالهم، وأحوالهم التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وُيعْرَفُونَ بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام الظاهرة.
مِثَال ذلك: أن الأمور المذكورة وأمثالها، قد توجد في أشخاص، ويكون أحدهم لا يتوضأ، ولا يصلي الصلوات المكتوبة، بل يكون مُلَابِسًا للنجاسات، معاشرًا للكلاب، يأوي إلى الحمامات، والقمامين، والمقابر، والمزابل، رائحته خبيثة، لا يتطهر الطهارة الشرعية، ولا يتنظف
…
"، إلى أن قال رحمه الله: "فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن" (1). اهـ.
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله:
(ومن هنا يُعْلَمُ أن كل خارقة حدثت أو تحدث إلى يوم القيامة، فلا يصح رَدُّها ولا قبولها إلا بعد عرضها على أحكام الشريعة، فإن ساغت هناك؛ فهي صحيحة مقبولة في موضعها، وإلا لم تُقْبَلْ إلا الخوارق الصادرة على أيدي الأنبياء عليهم السلام؛ فإنه لا نظر فيها لأحد؛ لأنها واقعة على الصحة قطعًا؛ فلا يمكن فيها غير ذلك، ولأجل هذا حَكَمَ إبراهيم عليه السلام فى ذبح ولده بمقتضي رؤياه، وقال له ابنه:{يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، وإنما النظر فيما انخرق من العادات على يد غير المعصوم.
وبيان عرضها أن تُفرض الخارقة واردة من مجاري العادات، فإن ساغ العمل بها عادة وكسبًا، ساغت في نفسها، وإلا فلا؛ كالرجل يكاشف بامرأة أو عورة، بحيث اطَّلع منها على مالا يجوز له أن يَطَّلِعَ عليه، وإن لم يكن مقصودًا
(1)"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" ص (61، 62)، وانظر:"وَلاية الله والطريق إليها" ص (252 - 254).
له، أو رأى أنه يدخل على فلان بيته وهو يُجَامِعُ زوجته ويراه عليها، أو يكاشَف بمولود في بطن امرأة أجنبية؛ بحيث يقع بصره على بَشَرتها، أو شيء من أعضائها التي لا يسوغ النظر إليها في الحس، أو يرى صورة مكيفة مقدرة تقول له:"أنا ربك"، أو يرى ويسمع من يقول له:"قد أحللتُ لك المحرماتِ"(1)، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا يقبلها الحكم الشرعي على حال، ويُقَاسُ على ذلك ما سواه، وباللَّه التوفيق) (2). اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر -ورحمه الله-:
"خرق العادة قد يقع للزنديق بطريق الإملاء والإغواء، كما يقع للصِّدِّيق بطريق الكرامة والإكرام، وإنما تحصل التفرقة بينهما باتباع الكتاب والسنة"(3).
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله:
"ولا يجوز للولي أن يعتقد في كل ما يقع له من الواقعات والمكاشفات أن ذلك كرامة من اللَّه -سبحانه-، فقد يكون من تلبيس الشيطان ومكره، بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة: فإن كانت موافقة لها؛ فهي حق، وصدق، وكرامة من اللَّه -سبحانه-، فإن كانت مخالفة لشيء من ذلك؛ فليعلم أنه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان؛ فلبَّس عليه"(4). اهـ.
وقال الدكتور تقي الدين الهلالي داعية التوحيد والسنة في بلاد المغرب - بل في كثير من بلاد العالم الإسلامي رحمه الله تَعَالَى: "
…
ومن هذا تَعْلَمُ أن ظهور الخوارق، وما في عالم الغيب، ليس دليلًا على صلاح من ظهرت له تلك الخوارق، ولا على وَلايته لله البتة؛ فإن كل مرتاضٍ رياضة روحية تظهر له
(1) انظر: ص (47).
(2)
"الموافقات"(2/ 481، 482) بتصرف، وانظر:"مدارج السالكين"(1/ 48، 49).
(3)
"فتح الباري"(12/ 385).
(4)
"ولاية الله والطريق إليها" ص (249)، وطمع فيه، وبه: اشتهاه ورغب فيه، أو: حَرَصَ عليه.