الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب- ذِكرُ أَدلَّتِهِمْ وَمُنَاقَشَتُهَا:
الدَّلِيلُ الأَوَّلُ:
يستدل التجانيون على إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً بعد موته في الدنيا بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ رآني فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاني فِي اليَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"(1)، قالوا: فالحديث صريح في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يَقَظَةً بعد موته في الدنيا، قال ابن أبي جمرة:"ودعوى الخصوص بغير مخصِّص منه عليه السلام تَعَسُّفٌ"(2).
ومناقشة هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: من حيث لفظ الرواية:
(1)
جاء الحديث من عدة طرق عن أبي هريرة إحداهن باللفظ المذكور آنفًا:
"من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي"، وأما سائر الطرق:
ففي إحداهن: "ومَن رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل صورتي"(3).
وفي الثانية: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي"(4).
(1) رواه البخاري (12/ 383 - فتح)، رقم (6993)، واللفظ له، ومسلم (15/ 26 - شرح النووي)، وأبو داود (13/ 366 - عون).
(2)
"رماح حزب الرحيم"(1/ 205).
(3)
رواه من طريق أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: البخاري رقم (6197)، والإمام أحمد (1/ 400)، (2/ 463).
(4)
رواه من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: مسلم في "صحيحه"(15/ 24 - نووي)، والإمام أحمد (2/ 411، 472).
والثالثة (1) الرابعة (2) مثل الثانية.
وفي الخامسة: "من رآني في المنام فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتشبه بي"(3).
وفي رواية بالشك: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، أو: فكأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي"(4).
(ب) وقد جاء الحديث عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم غير أبي هريرة رضي الله عنه وألفاظها جميعًا متقاربة لكنها تخالف الرواية المشكِلة بلفظ: "فسيراني في اليقظة، وهاك بيانها:
اللفظ الأول:
رواه أنس بن مالك، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو سعيد الخدري، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو جحيفة رضي الله عنهم مرفوعًا:"من رآني في المنام فقد رآني"(5).
اللفظ الثاني:
رواه أبو قتادة، وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما مرفوعًا:"من رآني فقد رأى الحق"(6).
(1) رواه من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ابن ماجه رقم (3901).
(2)
رواه من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: الإمام أحمد (2/ 232، 342).
(3)
رواه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: الإمام أحمد (2/ 261).
(4)
رواه من طريق محمد بن شهاب الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة -رضي
الله عنه- مرفوعًا: الإمام أحمد (5/ 306)، وقد اختُلف على الزهري في لفظ الحديث.
(5)
انظر: "صحيح البخاري" رقم (6994)، و"سنن ابن ماجه" رقم (3902)، (3903)، (3905)، و "سنن الترمذي"(3/ 238)، (3904).
(6)
انظر: "صحيح البخاري" رقم (6996)، (6997)، و"صحيح مسلم"(15/ 26 - نووي).
اللفظ الثالث:
رواه جابر رضي الله عنه مرفوعًا: "من رآني في النوم فقد رآني". فظهر من هذين الوجهين أن الرواية التي استدل بها القوم جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب أبي هريرة عنه رضي الله عنه، بل جاءت مخالفة لجميع ألفاظ مَن روى هذا الحديث مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني:
ونتيجة لهذا الاختلاف حكم العلماء بأن لفظ: "فسيراني في اليقظة" مشكل، ومِن ثَمَّ أخذوا يتأولونه، ويذكرون له أجوبة كي يتوافق مع روايات الجمهور، وأولوه على عدة تأويلات على النحو التالي:
1 -
قال ابن التين: "المراد به من آمن به في حياته ولم يره؛ لكونه حينئذ غائبًا عنه (1)، فيكون بهذا مُبَشِّرًا لكل من آمن به، ولم يره، أنه لا بد أن يراه في اليقظة قبل موته (2)، والمعنى: أن اللَّه سيوفقه للهجرة إليه، والتشرف بلقائه في حياته، ويكون اللَّه -تَعَالَى- جعل رؤيته في المنام علامة على رؤياه في اليقظة.
ب- وقال ابن بَطَّالٍ: معناه: سيرى تأويل تلك الرؤيا في اليقظة وصحتها، وخروجها على الوجه الحق (3).
جـ- وقيل: إنه على التشبيه والتمثيل، ويدل على ذلك قوله في الرواية الثانية:"فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ"(4).
د- وقيل المعني أنه يراه يَقَظَة في الآخرة، وفي هذا بِشَارَةٌ لرائيه بأن يموت
(1) أي لأنه لم يكن هاجر في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
"فتح الباري"(12/ 385).
(3)
"نفس المرجع"(12/ 385)، "شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 293).
(4)
"نفسه"(12/ 385).
مسلمًا؛ لأنه لا يراه تلك الرؤية الخاصة باعتبار القرب إلا من تَحَقَّقَ موته على الإسلام.
هـ- أنه يراه في المرآة التي كانت له إن أمكنه ذلك، وهو قول ابن أبي جمرة، قال في "الفتح":"وهذا من أبعد المحامل"(1).
و- أنه يراه حقيقة في الدنيا، ويخاطبه (2).
وهذا الاحتمال الأخير باطل، كما بينه:
الوجهُ الثالثُ: ذِكر الأدلة النقلية على استحالة وقوع ذلك شرعًا:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات؛ فادعاء حياته بعد موته صلى الله عليه وسلم قبل يوم القيامة مستحيلٌ شرعًا؛ لأنه يلزم منه مخالفته لقوله -تَعالَى-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30].
وقال الألوسي -رحمه اللَّه تعالى-: "ويكفي في إبطال هذا القول قولُه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42]، فإذا أمسك التي قضى عليها فمن أين لها التمكن من التصرف؟ ومن أين لأحدٍ أن يراها؟ "(3).
وقال الصنعاني -رحمه الله تعالى--:
"والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمعلوم من الضرورة الدينية، أنَّ من وَارَاهُ القبر لا يخرج منه إلا في المحشر، قال اللَّه -تَعَالَى-:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55]، ولم يقل: تَارَاتٍ أُخَرَ، وقال -تَعَالَى-:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)} [عبس: 21، 22]، وقال الله -تَعَالَى-:{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31].
وأما الأحاديث النبوية فإنها متواترة: أن من أُدْخِلَ قبره لا يخرج منه إلا عند
(1)"نفسه"(12/ 385).
(2)
"نفسه"(12/ 385).
(3)
"غاية الأماني في الرد على النبهاني"(1/ 52).
النفخة الثانية في الصور
…
وبالجملة، فالقول بخروج الميت من قبره، وبروزه بشخصه لقضاء أغراض الأحياء - قوله مخالف للعقل والنقل" (1).
ولا يَرِدُ على ذلك أن الأنبياء أحياء في قبورهم، وكذلك الشهداء، ولا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه تُرَدُّ عليه روحه حتى يَرُدَّ السلام على من سَلَّمَ عليه (2)، فإن تلك حياة برزخية تختلف عن هذه الحياة؛ ولذا يُقْتَصَرُ في شأنها على ما ورد في النصوص، ثم إنه يلزم من ذلك: أن يُطَالَبُوا بالتكاليف، وأن يخرجوا ليجاهدوا أعداء الله، واللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
إذن لم يثبت بدليل شرعي حصولُ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته صلى الله عليه وسلم، بل الأدلة تدل على استحالة ذلك شرعًا، وغاية ما دلت عليه النصوص إمكانية الرؤيا المنامية، ورواية الجمهور للحديث المذكور في صدر الكلام تؤكد ترجيح ألفاظها على اللفظ المشكل الذي فيه:"من رآني في المنام فسيراني في اليقظة"(3)، فهذه الرواية فيها تعليق الجواب على الشرط، وذلك يستلزم أن من رآه صلى الله عليه وسلم في المنام يراه في اليقظة، وهذا مخالف للحس والواقع، فقد رآه صلى الله عليه وآله وسلم جمعٌ كثير من سلف الأمة وخَلفها في المنام، ولم يذكر أحد منهم أنه رآه صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومعلوم أن خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم لا يتخلف أبدًا (4)، فدل هذا على مرجوحية اللفظ المشكِل ووجوب تأويله.
(1)"الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف" للصنعاني ص (51).
(2)
رواه أبو داود، وسكت عنه "سنن أبي داود"(6/ 26 - عون)، والإمام أحمد في "مسنده"(2/ 527)، وصحح ابن القيم إسناده، كما في "عون المعبود"(6/ 30).
(3)
انظر: تخريجه ص (134) هامش (1).
(4)
انظر: "فتح الباري"(12/ 385).
الوَجْهُ الرابع: الدليل العقلي على استحالة وقوع ذلك:
قال القرطبي رحمه الله: "اختُلِف في معنى الحديث، فقال قوم: هو على ظاهره، فمن رآه في النوم رأى حقيقته كمن رآه في اليقظة سواء، وهذا قولٌ يُدرَك فسادُه بأوائل العقول، ويلزم عليه: أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها.
- وأن لا يراه رائيان في آنٍ واحدٍ في مكانين.
- وأن يحيا الآن، ويخرج من قبره، ويمشي في الأسواق، ويخاطب الناس، ويخاطبوه، ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده، فلا يبقى في قبره منه شيء، فَيُزَارُ مجردُ القبر، ويُسلَّمُ على غائب؛ لأنه جائز أن يُرَى في الليل والنهار، مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره، وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مُسْكَةٍ من عقل" (1).
واعتُرِض على هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يراه شخصان في مكانين مختلفين في وقت واحد، كما تُرى الشمس أو القمر في أماكنَ متعددةٍ في آنٍ واحدٍ من جماعة كثيرين، وأنشد بعضهم:
كالشمس في كبد السماء وضوءها
…
يغشى البلادَ مشارِقًا ومغاربا (2)
وأجيب عن هذا الاعتراض بأن النبي صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ولم يكن له حجم الشمس وارتفاعها، حتى يمكن أن يراه جمع كثير في وقت واحد، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيته لا يراه إلا من كان معه في البيت، دون من كان خارجه، وكذلك الشمس؛ فإنها لو رُؤِيَتْ فرضًا داخل بيتٍ في جرْمِها، لاستحال رؤية جرمها في بيت آخر (3).
(1)"شرح الزرقاني على المواهب اللدنية"(5/ 293).
(2)
"غاية الأماني"(1/ 52).
(3)
"شرح الزرقاني"(5/ 295).
3 -
أنه على فرض صحة هذا الاحتمال لا يليق بعالم بَلْهَ غيره أن يصرف هذا الدليل إلى هذا الاحتمال: لأن من القواعد الأصولية أن الدَّليلِ إذَا تَطَرَّقَ إِلَيهِ الاحْتِمَالُ بَطَلَ بِهِ الاسْتِدْلَالُ، فكيف إذا كان هذا الاحتمال ينقضه نفسُ الحديث، ويرده الشرع والعقل؟!
4 -
ما نقلوه عن ابن أبي جمرة من قوله: "ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه عليه السلام فمتعسف".
مردود بأن الحديث ليس نصًّا صريحًا في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا، ولا في الآخرة، فتخصيصه بالدنيا بغير مخصص تعسف -أيضًا- لكن لما كان تأويله برؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا مخالفًا للشرع والعقل؛ حمله جمهور العلماء على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة في الآخرة، واللَّه أعلم.
الوجه الخامس: اضطراب مقالات القوم في كيفية الرؤية:
(فلما اشتد الإنكارعلى هؤلاء القائلين برؤيته صلى الله عليه وسلم في الدنيا بعد وفاته يقظة لا منامًا، اضطربت مقالاتهم في كيفية تلك الرؤيا، فمنهم من أخذته العزة بالإثم فنفى الموت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية، وزعم أن موته صلى الله عليه وسلم هو تستره عمن لا يفقه عن اللَّه (1).
- ومنهم من زعم أنه صلى الله عليه وسلم يحضر كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه ويسير حيث شاء في أقطار الأرض في الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته (2).
- ومنهم من زعم أن له صلى الله عليه وسلم مقدرة على التشكل والظهور
(1) كما حكاه الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي، وقد تقدم نقله ص (131).
(2)
"رماح حزب الرحيم"(1/ 210).