الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د- أن الكرامة غالبًا لا تحدث إلا مرة واحدة في العمر، وربما مرة واحدة على امتداد الزمان، بينما يرى -التجانيون أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا تقع لآلاف البشر في الوقت الواحد، وكل ذلك يبطل القول بأنها من باب الكرامة، واللَّه أعلم.
دَلِيلُهُم الرَّابعُ:
"أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته في الدنيا قد وقعت لجمع غفير من سلف هذه الأمة؛ منهم: الشيخ أبو مدين المغربي شيخ الجماعة، والشيخ عبد الرحمن القناوي، والشيخ أبو العباس المرسي، والشيخ أبو السعود بن أبي العشائر، وإبراهيم المتبولي، والشيخ جلال الدين السيوطي، وغيرهم"(1).
*
المناقشة:
1 -
إذا ظهر في كلام الأولياء والصالحين ما يخالف الشرع والعقل فينبغي أن يُحمَلَ على أحسن المحامل، ويُصارَ إلى تأويله؛ إذ قد يُنْقَلُ عنهم الكلام، ويُفْهَمُ على غير ما أرادوا؛ لتفاوت المدارك واختلاف العقول، فمن ذلك مثلًا ما قاله أبو العباس المُرْسِي:"لي أربعون سنة ما حُجِبتُ عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولو حُجِبْتُ طرفةَ عين، ما أعددتُ نفسي من جملة المسلمين". قال الشيخ الأهدل: "فهذا كلام فيه تجوُّز يقع مثله في كلام الشيوخ والصالحين، والمراد به أنه لم يُحْجَبْ حجابَ غفلةٍ ونسيان عن دوام المراقبة واستحضارها في الأعمال والأقوال، ولم يُرِدْ أنه لم يحجب عن الروح الشخصية؛ فذلك مستحيل"(2).
أما من لم يبلغ درجة أولئك في الصلاح والتقوى فلا عبرة بما يقوله، إنما هو
(1)"رماح حزب الرحيم"(1/ 199).
(2)
"شرح المواهب اللدنية" للزرقاني (5/ 300، 301).
شيطان تمثل له، وأخبر قرينه بخبر كاذب، بل قد يتمثل الشيطان لعباد اللَّه الصالحين؛ كما حدث لعبد القادر الجيلاني، فقد رأى الشيطان في النوم، فقال له:"أنا ربك قد أبحت لك المحرمات"، فقال:"اخسأ يا لعين"، فقيل له:"بم عرفت أنه شيطان؟ " قال: "بقوله: أبحت لك المحرمات، وبقوله: أنا ربك، ولم يقل: أنا اللَّه"(1).
وقد روى سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قصَّ عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صِف لي الذي رأيتَه)، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: لم تره"(2).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والضُّلَّال من أهل القبلة يرون من يعظمونه، إما النبي صلى الله عليه وسلم وإما غيره من الأنبياء يقظة، ويخاطبهم ويخاطبونه، وقد يستفتونه ويسألونه عن أحاديث، فيجيبهم"، ثم قال:"لكن كثيرًا من الناس يكذِّب بهذا، وكثيرًا منهم إذا صدَّق به يظن أنه من الآيات الإلهية، وأن الذي رأي ذلك رآه لصلاحه ودينه، ولم يعلم أنه من الشيطان، وأنه بحسب قلة علم الرجل يضله الشيطان، ومن كان أقل علمًا قال له ما يعلم أنه مخالف للشريعة. وهو -وإن ظن أنه قد استفاد شيئًا- فالذي خسره من دينه أكثر"(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضًا:
"والشياطين كثيرًا ما يتصورون بصورة الإنس في اليقظة والمنام، وقد تأتي لمن لا يعرف، فتقول: أنا الشيخ فلان أو العالِم فلان، وربما قالت: أنا أبو بكر وعمر، وربما أتى في اليقظة دون المنام وقال: أنا المسيح، أنا موسى، أنا
(1)"نفسه"(5/ 298).
(2)
قال الحافظ: "إسناده صحيح".اهـ. من "فتح الباري"(12/ 383، 384).
(3)
"مجموع الفتاوى"(27/ 391، 392)، و "الجواب الباهر" ص (54، 55).
محمد، وقد جرى مثل ذلك أنواع أعرفها، وثَمَّ من يصدق بأن الأنبياء يأتون في اليقظة في صورهم، وثَمَّ شيوخ لهم زهد وعلم وورع يصدقون بمثل هذا.
ومن هؤلاء من يظن أنه حين يأتي إلى قبر نبي أن النبي يخرج من قبره في صورته فيكلمه
…
، وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية، ودخل، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه، وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك، وجعل ذلك من كراماته، حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك:"ويحك! أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؟ فهل من هؤلاء من سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأجابه؟ وقد تنازع الصحابة في أشياء فهلا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم، وهذه بنته فاطمة تنازع في ميراثه، فهلا سألته فأجابها؟ "(1).
2 -
إن ما وقع لهؤلاء الشيوخ هل ثبت عنهم أنه كان يقظة أو منامًا؟ وإذا ثبت أنه كان يقظة، فهل ثبت عنهم بسند صحيح يوثق به؟ وإذا ثبت أنه كان يقظة بسند صحيح يوثق به، فهل هم معصومون من تلبيس الشيطان عليهم؟
كل هذه الأسئلة لا نجد الجواب عليها!!
3 -
إن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد موته لم تُنقل عن أحد من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير من المصطفى صلى الله عليه وسلم.
إذ كيف يظهر صلى الله عليه وسلم للمفضول ولا يظهر للفاضل؟ وقد حدثت حوادث كانت الحاجة فيها إلى ظهوره شديدة جدًّا (2) لو كان ذلك ممكنًا؛ منها:
1 -
اختلاف المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم على الخلافة، وقد بقي النزاع بينهم مستمرًّا ثلاثة أيام، حتى شغلهم ذلك عن دفن النبي -صلى اللَّه
(1)"مجموع الفتاوى"(10/ 407).
(2)
انظر: "الفكر الصوفي" ص (474) وما بعدها.