الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد يكون من جنس كُفْرِ اليهود والنصارى، وقد يكون أعظم، وقد يكون أخفَّ، بحسب أحوالهم" (1).
وقال الإمام ابن القَيِّمِ مُسْتَنْكِرًا احتجاج المتصوفة بِقِصَّةِ الخَضِرِ مع موسى على جواز خروج الأولياء عن الشريعة الإسلامية:
"فمن ادَّعَى أنه مع مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كالخَضِرِ مع موسى، أو جَوَّز ذلك لأحد من الأمة؛ فليجدد إسلامه، وليتشهد شهادة الحق؛ فإنه بذلك مُفَارِقٌ لدين الإسلام بالكلية؛ فضلًا عن أن يكون من خاصة أولياء اللَّه، وإنما هو من أولياء الشيطان، وخلفائه، ونُوَّابِهِ، وهذا الموضع مُقَطَّعٌ، ومُفَرَّقٌ، بين زنادقة القوم، وبين أهل الاستقامة منهم، فَحَرِّكْ تَرَهُ"(2).
وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق -حفظه اللَّه تعالى
-:
"إن وجود الخَضِرِ- عليه السلام على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمرا سائغًا، وسنة من سنن اللَّه قبل بعثة محمد- صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يُبْعَثُ إلى قومه خَاصَّة؛ ولذلك كان موسى رَسُولًا، إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رَسُولًا، للعالمين، ولذلك لما سَلَّم موسى عليه السلام على الخَضِرِ، قال الخَضِرُ: وأَنَّى بأرضك السلام؟ قال له موسى: أنا موسى، قال الخَضِرُ: موسى بني إسرائيل؟! قال: نعم
…
أي أنت مبعوث إلى بني إسرائيل، ومنهم.
ولذلك لم تكن شريعة موسى لازمة للخضر، ولجميع الناس في زمانه، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يجوز شرعًا أن يكون هُنَاكَ من هو خَارجٌ عن شريعته؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول العالمين، لا يَسَعُ الخَضِرَ ولا غيره أن يتخلف عن الإيمان به واتباعه؛ ولذلك لا وجود بتاتًا
(1)"نفس المرجع"(24/ 339).
(2)
"مدارج السالكين"(2/ 476).
للخَضِرِ، أو أمثاله، بعد بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم" (1).
ولو طاوعتِ الأُمةُ الصوفيةَ، واتبعت مزاعمهم في هذا الباب؛ احتِجَاجًا باستغلالهم السيئ لقصة موسى والخَضِرِ عليهما السلام، لبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولَفُتِحَتِ الذريعة للزنادقة لاستحلال المحرمات، وإسقاط التكاليف؛ كما تذرعت إلى ذلك الباطنية بمفهومهم للباطن والظاهر.
إن قصة موسى والخَضِرِ حق من عند اللَّه، أما استغلال الصوفية لها، فإنما يريدون به الباطل؛ وذلك لوجوه تسعة (2):
الوَجْه الأوَّل: أن موسى عليه السلام كان يعلم منزلة الخَضِرِ في العلم، وبأنه أكثر عِلْمًا منه، وهذا كافٍ لأخذ ما عند الخضر بلا إنكار ولا اعتراض، ومع ذلك فقد أنكر موسى عليه، بينما لم يُخْبِرِ اللَّه العباد عن حقيقة صِدْقِ مشايخ وأولياء الصوفية، أو كذبهم، ولا أنزل فيهم ذِكْرًا يجعل الناس واثقين من أن ما يَرَوْنَهُ منهم من الأعمال المنكرة، قد يكون له تأويلات مشابهة لأعمال الخَضرِ.
فإنه حين سُئِلَ موسى عليه السلام: أي الناس أعلم؟ قال: "أنا"، فَعَتَب اللَّه عليه؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه، فقال له:"بَلَى، لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ"، قَالَ:"أَيْ رَبِّ مَنْ لي بِهِ؟ " قَالَ: "تَأخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ في مِكْتَلٍ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ"(3)، أي يكون في المكان الذي أضعت عنده الحوت.
إذن، فموسى على علم بمنزلته في العلم، وبمكانه الذي يَلْقَاهُ عنده، بل وهو
(1)"الفكر الصوفي" ص (132).
(2)
منقولة بتصرف من "أبو حامد الغزالي والتصوف"، للشيخ عبد الرحمن دمشقية، ص (290 - 296).
(3)
انظر:"فتح الباري"(6/ 431، 432).
مأمور بملاقاته كما يُسْتَفَادُ ذلك من الحديث؛ قال الطبري:
"وكان موسى قد حَدَّثَ نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تَكَلَّمَ به، فمِن ثَمَّ أُمِرَ أن يأتي الخَضِرَ".
الوَجْه الثَّانِي: أن ما فعله الخَضِرُ عليه السلام كان مأمورًا به، ولم يفعله من عنده؛ لقوله تعالى:{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82]، وقد ذهب المفسرون إلى أن الأمر ههنا هو الوحي -وفي مقدمتهم الرازي-؛ بحجة استحالة قتل غلام ونحوه، من غير حصول وحي قاطع يأمر بذلك، فهل مشايخ الصوفية مأمورون من اللَّه بفعل المنكرات المخالفة لأوامره ونواهيه، ودينه الذي أتمه وارتضاه لعباده؟ وهل يحصل لهم الوحي في ذلك كما حصل للخَضِرِ عليه السلام؟ إن قالوا بحصول الوحي: فإنهم حينئذٍ دَجَاجِلَة، لا فرق بينهم وبين مسيلمة الكذَّاب.
وإن نَفَوْا أن يكونوا قد فعلوا هذه المنكرات بمقتضى وحي ما،، فإنه حينئذ يُقَالُ لهم: ما تفعلونه مخالف لما أوحاه الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فلا وجه يَصِحُّ في استدلالكم بقصة الخَضِرِ، وبأفعاله التي كانت وَحْيًا، ولم يفعلها عن أمره؟!
الوَجْه الثَّالِث: أنهم باستدلالهم بقصة موسى والخَضِرِ ينتقصون من مكانة وقدر موسى عليه الصلاة والسلام؛ فإنهم يُنَزِّلُونَهُ منزلة العوامِّ الذين يرون ظواهر الأعمال، ولا يتفطنون إلى معرفة حقائقها.
وهم -أي مشايخ الصوفية- يَدَّعُونَ أنهم يعرفون ذلك، ويُقَدِّمُونَ بذلك دَرَجَةَ العارف "الصوفي" على رتبة النبي (1) جاعلين موسى في مصافِّ العوامِّ الذين لم ينالوا درجة الصوفي العارف.
(1) كما قال ابن عربي في "الفصوص"(1/ 62، 134).
الوَجْه الرَّابع: أنه لا يجوز الخروج على شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إلى شريعة أخرى، وهذه القصة حدثت في بني إسرائيل لم نُؤْمَرْ بالتعبد بفعلها، قال -تعالى-:{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134].
فقد أمر اللَّه -تعالى- مريم وزكريا أن يُمْسِكَا عن الكلام ثلاثة أيام بقوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26].
وقوله لزكريا عليه السلام: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم: 10]؛ فهل يجوز أن يتخذ أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الصيام عبادة له؛ فيصوم عن الكلام؛ مُسْتَدِلًّا بورود ذلك في القرآن؟ ومعلوم أن الخَضِرَ وموسى- بل وسائر الأنبياء -عليهم أفضل الصلوات وأتم التسليم- لو كانوا أحياء لما وَسِعَهُمْ إلا أن يتبعوا شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي كان يُرْسَلُ إلى قومه خاصَّةً، ونبينا صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ إلى الناسِ عامَّة -إِنْسِهِمْ وجِنِّهِمْ- وحين يَنْزِلُ المسيح آخر الزمان؛ فإنه يحكم بين الناس بشريعة القرآن، لا يحكم بإنجيل ولا توراة.
والمسيح عليه السلام هو من الرسل الخمسة أولي العزم، وهو خاتَم أنبياءِ بني إسرائيل، ومع هذا فإنه يَتَّبعُ ما أنزل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ويحكم بين الناس فيه.
الوَجْه الخَامِس: أن موسى والخَضِر عليهما السلام لم يخرجا عن الشريعة والنصوص في شيء، وإنما كان موقف موسى مع الخَضِرِ كموقف المُجْتَهِدِ المتمسك بعموم الدليل مع صاحب النص الخاصِّ المتمسك بالدليل الخاصِّ، وكلاهما على الدليل يعتمد، ومن الشريعة يستقي؛ لأن هذا مأمور، وذاك مأمور.
الوَجْه السَّادِس: أنَّ الخَضِرَ -أولًا- لم ينكر على موسى إنكاره عليه مطلقًا،
بل أنكر عليه إقدامَهُ على الإنكار قبل أن يسأله عن مأخذه الشرعي، مع أنه حَذَّرَهُ أنه لن يستطيع معه الصبرَ على ما لم يُحِطْ به خُبْرًا.
وثَانِيًا: أنه اشترط عليه ألَّا يسأله عن شيء حتى يُحْدِثَ له منه ذِكْرًا، ولكن كان من شأن موسى عليه السلام وطبعه أن يسارع في الحق؛ كما قص اللَّه -تعالى- علينا من خبر إقدامه على قتل القبطي، وأخذه بلحية أخيه هارون ورأسه، وإلقائه الألواح، وقد بادر ههنا إلى قوله:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي} [الكهف: 76].
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى، لَوْ لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لَأَبْصَرَ الْعَجَبَ"(1).
فأين هذا من أوامر الصوفية الصريحة بعدم الاعتراض على الشيخ مهما ارتكب من المحرمات الظاهرة، فإن مُجَرَّدَ الاعتراض أو الاستدراك على الشيخ مُوجِبٌ عندهم للمقت، والطرد من رحمة اللَّه، وسلب المال، والسقوط في امتحان الشيخ؛ كما يُلَفِّقون.
الوَجْه السَّابع: أن إنكار موسى يُستدل منه على أن الفطر السليمة -الخالصة من شوائب العبودية، والتقديس لغير الحق الذي أنزله الله- لا بد وأن تُنْكِرَ المُنْكَرَ، وكل الناس مأمورون بذلك؛ عَمَلًا بقوله -تعالى-:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ولم يُسْتَثْنَ من هذه الآية شَيْخٌ، ولا ولي، بل ولا صحابي أو تابعي، وقد كان الصحابة يُنْكِرُ الواحد منهم على الآخر إن خالف في شيء ما، فإذا كان ذلك يقع بين الصحابة -وهم أفضل أولياء اللَّه على الإطلاق- فما بالك بأولياء
(1) انظر: "تفسير الطبري"(15/ 186)، و"فتح الباري"(8/ 424).
الصوفية إن كانوا أولياء لله حقًّا؟! ثم إن الله أمرنا أن نُنكِرَ المُنْكَرَ، في حين أنه لم يُؤتِنَا عِلْمَ الغيب الذي يمكن معه معرفة حقيقة مراد الشيخ الصوفي بالمنكر الذي يزعم أنه يبدو منكرًا في ظاهره.
فترك المُنْكَرِ بحجة ما حصل بين موسى والخَضِرِ لا حجة فيه، بل الحجة كل الحجة في الإنكار على من خالف شرع الله في شيء ما؛ لأن الوعيد الوارد في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثير من الآيات والأحاديث، وقد لُعِنَ بنو إسرائيل بسبب تركهم هذا الأصلَ العظيمَ من أصول الدين، والذي به يُحْفَظُ الدين من فساد المفسدين، وضلال المُضِلِّينَ، وبِدَع المُبْتَدِعِينَ، الذين يأخذون ما تشابه من قصة موسى والخَضِرِ عليهما السلام، ويتركون المُحْكَمَ من الآيات والأحاديث الدالَّة على حِلِّ الطيبات، وتحريم الخبائث.
وعلامة ضلالهم أنهم لا يَحُثُّونَ الناس على العمل بهذا الأصل، ولا يُذَكِّرُونَهُمْ بقوله -تعالى-:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وإنما يُحَذِّرُونَهُم من الإنكار؛ مُسْتَدِلِّينَ بقصة موسى والخَضِر التي لا تشهد إلا ضدهم، وبالحديث القدسي:"مَنْ عَادَى لي وَليًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحَربِ"، ولكن الحديث لم يَعْنِهِمْ بذلك؛ لأن أولياء الله ليسوا مُخَرِّفَةً ولا مُبْتَدِعَةً، فلا يرقصون عند السماع، ولا يجعلون دعاءهم للَّه مُكَاءً وتصديةً، ولا ينشرون الوثنية والدَّجلَ بين العوامِّ.
الوَجْه الثَّامِن: أن فَهْمَ المتصوفة للقصة فَهم شاذٌّ، وتأسيهم بها شَاذٌّ -أيضًا-؛ فالصحابة، والتابعون، وتابعو التابعين، لم يفهموا منها هذا الفَهْمَ، ولم يبنوا عليها منهجًا يُرتِّب على أساسها العلاقةَ بين المريد والشيخ، ولا يُعْقَلُ أن يكون المتصوفة قد انفتح عليهم من فَهْمِ هذه الآية، وأُخْفِيَ على أولئك الأفاضل الذين لم يُقَلِّدْ أحد منهم- ولا أفاضل الأئمة -فيما بينهم- ما حَدَثَ بين
موسى والخَضِرِ، حتى جاء الصوفية، وتذرعوا بتلك القصة؛ تلبيسًا منهم على عوامِّ الخلق.
الوَجْه التَّاسِع: إذا كان الخَضِرُ عليه السلام قال لموسى عليه السلام: "يَامُوسى، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِن علمِ اللهِ عَلَّمَنيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ"، وإذا كان هذا خروجًا من الخَضِرِ عن شريعة موسى في هذا الباب، فإن ذلك لا يجوز قوله في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، التي قال اللَّه فيها:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فما خَرَجَ الخَضِرُ عن شريعة موسى في هذا الباب إلا لشرع آخر من الله أمره به، أما شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنها باقية إلى قيام الساعة، ولا يُسْتَبْدَلُ أويُسْتَغْنَى عنها بشيء آخر البتة، ولا يجوز أن يقول قائل: أنا على علم من اللَّه لم يُؤْتَهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؛ إذْ ما نُزِّلَ عليه صلى الله عليه وسلم هو المصدر الوحيد الذي يجب أن يكون مشكاة للمسلمين كُلِّهِمْ، لا يُسْتَثْنَى منهم أحد في الخروج عنه، وقد قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
فذلك تأكيد من اللَّه على عدم حصول وحي منه على أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الوقت نَفْسِهِ يفيد تحريم أخذ شيء من الأمور التعبدية عن غير هذا الطريق.
* * *
وهذا آخر ما تيسر جمعه في هذا الباب، وصلى اللَّه على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.