الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رُؤيَة رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَنَامِ
قد يظُنُّ بعض الناس أن هناك نوعًا من الرؤيا لا يحتاج إلى تبين، فهي عندهم صادقة أبدًا، وهي رؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام، ولا شَكَّ أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم حقٌّ وصدقٌ؛ وذلك لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَأَى الحَقَّ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَزَايَا بي"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"من رآني فإني أنا هو، فإنه ليس للشيطان أن يتمثل بي"(2) وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ رَآنِي في المنَامِ فَسَيَرَانِي في اليَقَظَةِ -وفي روايةٍ عند مسلم: "أو: لكأنما رآني في اليقظة"-، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ رَآنِي في المَنَامِ فَقَدْ رَآني، إنَّهُ لَا يَنْبَغِي للشَّيْطَانِ أنْ يَتَمَثَّلَ في صُورتي"(4).
ولكن ينبغي أن نَعْلَمَ أن رُؤيَا الرسول صلى الله عليه وسلم تكون حقًّا إذا كانت الصورة المرئية له هي صورته الحقيقية التي كان عليها، والتي جاء وصفها في الأحاديث الصحيحة، فإنها هي الصورة التي لا يتمثل بها الشيطان، أما إذا رُؤِيَ بصورة غير صورته، وزعمت الصورة المرئية أنها الرسول، فالأمر ليس كذلك، فالممنوع أن يَتَمَثَّلَ الشيطان في الصورة الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم، أما أن يزعم الشيطان أنه الرسول، وقد تَمَثَّلَ في صورة غير صورة
(1) رواه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه: البخاري (6996)(12/ 383)، ومسلم (2267)، ومعنى:"لا يَتَزَايَا بي": لا يظهر في زيي، وفي رواية أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه:"فإن الشيطان لا يتكونني" أي: لا يتكون في صورتي، كما قال الحافظ في "الفتح"(12/ 383).
(2)
رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: الترمذي (2280)، وهو في "صحيح سنن الترمذي" برقم (1859).
(3)
رواه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري (6993)(12/ 383)، ومسلم (2266)(11).
(4)
رواه من حديث جابر رضي الله عنه: الإمام أحمد (3/ 350)، ومسلم (2268)(12)، وابن ماجه (3902).
الرسول، فهذا أمر لم ينفِهِ الحديث.
إذن هناك فرق كبير بين أن يقول: "من رآني"، وبين:"من رأى شخصًا يدعي أنه أنا"، أو"من رأى شخصًا، وظن أنه أنا"، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"من رآني" يعني رؤيته صلى الله عليه وسلم بشكله، وصورته التي كان عليها.
وهناك فرق -أيضًا- بين قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الشيطان لا يتمثل بي"، وبين:"فإن الشيطان لا يدعي أنه أنا"؛ فالأولى تعني أن الشيطان لا يستطيع أن يتراءى بصورة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشكله الذي كان عليه في حياته؛ بحيث لو رآه أحد الصحابة رضي الله عنهم لعرفه صلى الله عليه وسلم.
إن الشيطان ممنوع من أن يتمثل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس ممنوعًا من أن يقول:"أنا رسول اللَّه"، ويكون في صورة غير صورته صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: (وقوله: "لا يستطيع أن يتمثل بي" يشير إلى أن اللَّه -تعالى- وإن أمكن الشيطان من التصور في أي صورة أراد؛ فإنه لم يُمَكِّنه من التصور في صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب إلى هذا جماعة فقالوا في الحديث: إن محل ذلك إذا رآه الرائي على صورته التي كان عليها)(1).
وقال العلَّامة ابن مفلح المقدسي رحمه الله:
(قال أهل العلم: إنما تصح رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لأحد رجلين: أحدِهما: صحابي رآه يعلم صفته؛ فإنه إذا رآه في المنام جزم بأنه رأى مَثَلَه المعصوم من الشيطان.
(1)"فتح الباري"(12/ 386).
وثانيهما: رجل تكرر عليه سماع صفاته المنقولة في الكتب، حتى انطبعت في نفسه صفاته صلى الله عليه وسلم، وأما غير هذين فلا يحصل الجزم؛ بل يجوز أن يكون من تخييل الشيطان، ولا يُفيده قول المرئي:"أنا رسول الله"، ولا قولُ من يحضر:"هذا رسول اللَّه"، لأن الشيطان يكذب لنفسه، ويكذب لغيره، فلا يحصل الجزم) (1).
وروى الترمذي في "الشمائل" عن عوف بن أبي جميلة، عن يزيد الفارسي -وكان يكتب المصاحف- قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام زمن ابن عباس رضي الله عنهما، فقلت لابن عباس:"إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النوم"، فقال ابن عباس: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "إن الشيطان لا يستطيع أن يتشبه بي، فمن رآني في النوم فقد رآني"، هل تستطيع أن تنعت هذا الرجل الذي رأيته في النوم؟ فقال: نعم، أَنْعَتُ لك رجلًا بين الرجلين، جسمه ولحمه أسمر إلى البياض، أكحل العينين، حسن الضحك، جميل دوائر الوجه، قد مَلَأَت لحيته ما بين هذه إلى هذه، قد ملأت نحره، قال عوف: ولا أدري ما كان هذا النعت.
فقال ابن عباس: "لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا"(2).
وروى الحافظ في "الفتح"(من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب -وهو من شيوخ البخاري- عن حَمَّاد بن زيد، عن أيوب قال: "كان محمد -يعني ابن سيرين- إذا قَصَّ عليه رجل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "صِفْ لي الذي رأيته"، فإن وصف له صفة لا يعرفها، قال: "لم تَرَهُ"، وسنده صحيح). اهـ (3).
(1)"مصائب الإنسان من مكائد الشيطان" ص (172).
(2)
"الشمائل" للترمذي رقم (412)، وحسنه الألباني رحمه الله.
(3)
"فتح الباري"(2/ 384).
وعن عاصم بن كُليب قال: حدثني أبي؛ أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثلني"، قال أبي: فحدثت به ابن عباس، فقلت: قد رأيتُه -أي النبي- صلى الله عليه وسلم -في المنام- فذكرتُ الحسنَ بنَ علي رضي الله عنهما فقلت: شبَّهْتُه به، فقال ابن عباس رضي الله عنهما:"إنه كان يُشبهه"(1).
- فمِن ثم قال الحافظ رحمه الله: "قال علماء التعبير: إذا قال الجاهل: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم)؛ فانه يُسأل عن صفته، فإن وافق الصفة المروية؛ وإلا فلا يُقبل منه". اهـ (2).
(وقصة الشيخ عبد القادر مع الشيطان معروفة، وذلك حين قال له الشيطان:"أنا ربك، قد أبحتك من فرائضي"، فقال له الشيخ:"اخْسأ يا عدو الله"، فقال الشيطان:"غَلَبْتَنِي بفقهك يا عبد القادر"، فَسُئِلَ عن كيفية وقوفه على خُدْعَةِ الشيطان، فقال: إن الشيطان قال: "أنا ربك"، ولم يجرؤ على أن يقول:"أنا الله"، وزعم أنه قد أَحَلَّنِي من فرائض العبادات، والله عز وجل لم يُحِلَّ ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم، فكيف يحلها لي؟
فإذا كان يُمْكِنُ للشيطان أن يقول: أنا ربك؛ ألا يمكنه أن يقول "أنا النبي"، من غير أن يتمثَّل بالنبي صلى الله عليه وسلم بالضرورة) (3).
إن رؤياه صلى الله عليه وسلم في المنام آمرًا بشيء، أو ناهيًا عن آخر، أو مظهرًا حبه لأمر أو شخص أو طائفة، أو مبديًا كراهته وسخطه على فرد أو جماعة، أو موقف أو عمل -كل ذلك لا يؤخذ به، ولا يثبت بمثله حكم شرعي
(1) أخرجه الترمذي في "الشمائل" رقم (411)، والحاكم (4/ 393). وصححه، ووافقه الذهبي،
وجوَّد إسناده الحافظ في "الفتح"(12/ 384)، وصححه الألباني.
(2)
"فتح الباري"(12/ 387).
(3)
انظر: "شبهات أهل الفتنة وأجوبة أهل السنة" ص (394).