المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أدلة المجوزين للتراهن من غير محلل - الفروسية المحمدية - ت مشهور

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌تحمدة وتقدمة

- ‌مسابقته صلى الله عليه وسلم بالأقدام

- ‌مسابقة الصَّحَابَة على الْأَقْدَام بَين يَدَيْهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل

- ‌مصارعته صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل

- ‌مسابقته صلى الله عليه وسلم بَين الْخَيل

- ‌فصل

- ‌مسابقته صلى الله عليه وسلم بَين الْإِبِل

- ‌فصل

- ‌تناضل الصَّحَابَة بِالرَّمْي بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم

- ‌فصل

- ‌مراهنة الصّديق للْمُشْرِكين بِعِلْمِهِ وإذنه صلى الله عليه وسلم

- ‌هَل الْمُرَاهنَة على الْمسَائِل الَّتِي فِيهَا ظُهُور أَعْلَام الْإِسْلَام وأدلته وبراهينه مَمْنُوعَة

- ‌فصل

- ‌الْمُسَابقَة بالأقدام بعوض وَبلا عوض

- ‌فصل

- ‌الصراع بِالرَّهْنِ وَبلا رهن

- ‌السباحة بِالرَّهْنِ وَبلا رهن

- ‌المشابكة بِالْأَيْدِي

- ‌الْأَدِلَّة وَالتَّرْجِيح

- ‌فصل

- ‌الْمُسَابقَة بَين الْخَيل وَالْبِغَال وَالْحمير وَالْبَقر وَالْحمام والسفن

- ‌فصل

- ‌الْمُسَابقَة بَين الْإِبِل والفيل

- ‌فصل

- ‌النضال بِحَضْرَتِهِ صلى الله عليه وسلم وإذنه فِيهِ

- ‌كتاب عمر رضي الله عنه لعتبة بن فرقد وَشَرحه

- ‌فصل

- ‌فَوَائِد النضال

- ‌فصل

- ‌أَيْمَان الرُّمَاة لَغْو لَا كَفَّارَة فِيهَا

- ‌فصل

- ‌فضل الْمَشْي بَين الغرضين وَمن مَشى بَينهمَا من السّلف الصَّالح

- ‌فصل

- ‌المفاضلة بَين ركُوب الْخَيل وَرمي النشاب

- ‌وُجُوه تَفْضِيل سبق الْخَيل على الرَّمْي

- ‌المُرَاد بقوله تَعَالَى {وَالْعَادِيات ضَبْحًا}

- ‌عودة إِلَى وُجُوه تَفْضِيل سبق الْخَيل على سبق الرَّمْي

- ‌النَّهْي عَن تَقْلِيد الْخَيل الأوتار وَمَعْنَاهُ

- ‌فصل

- ‌أوجه تفضل الرَّمْي بالنشاب على ركُوب الْخَيل وَذكر منفعَته وتأثيره ونكايته فِي الْعَدو

- ‌فضل النزاع بَين تَفْضِيل الرَّمْي على ركُوب الْخَيل وَالْعَكْس

- ‌فصل

- ‌رميه صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ الْكَرِيمَة

- ‌فصل

- ‌طعنه صلى الله عليه وسلم بالحربة

- ‌فصل

- ‌فضل الرماح

- ‌الْأَشْيَاء الَّتِي تظهر فِيهَا الفروسية

- ‌أوجه الشّبَه بَين الجلاد بِالسَّيْفِ والجدال بِالْحجَّةِ

- ‌فروسية الْعلم وَالْبَيَان وفروسية الرَّمْي والطعان

- ‌فصل الرِّهَان على الْغَلَبَة بِالرُّمْحِ

- ‌فصل

- ‌ركُوب النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْفرس عُريَانا وتقلده بِالسَّيْفِ وورود ذَلِك فِي صفته فِي الْكتب الأولى

- ‌فصل

- ‌أَحْكَام الرِّهَان فِي الْمُسَابقَة وصوره الْمُتَّفق عَلَيْهَا والمختلف فِيهَا

- ‌فصل

- ‌أَدِلَّة المجوزين للتراهن من غير مُحَلل

- ‌فصل

- ‌أَدِلَّة الْقَائِلين بِاشْتِرَاط الْمُحَلّل

- ‌لم يشْتَرط مُسلم فِي مُقَدّمَة صَحِيحه مَا شَرطه فِي صَحِيحه

- ‌التَّفْرِقَة بَين من أخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح وَبَين مَا أخرج لَهُ فِي الشواهد والمتابعات

- ‌تساهل التِّرْمِذِيّ فِي التوثيق الصَّحِيح

- ‌تَصْحِيح الْحَاكِم

- ‌تَصْحِيح ابْن حزم

- ‌لَيْسَ كل مَا رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي الْمسند وَسكت عَنهُ يكون صَحِيحا عِنْده وأمثلة على ذَلِك

- ‌من أصُول مَذْهَب الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل

- ‌كتاب أبي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي فَضَائِل مُسْند أَحْمد وخصائصه وَتعقبه

- ‌فصل

- ‌شُرُوط الحَدِيث الصَّحِيح

- ‌طَبَقَات أَصْحَاب أبي حنيفَة

- ‌طَبَقَات أَصْحَاب الشَّافِعِي

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌أَنْوَاع المناضلة

- ‌شُرُوط العقد على الْإِصَابَة

- ‌فصل

- ‌تعدد السِّهَام وَعدم تعددها

- ‌فِي تحزب الرُّمَاة

- ‌فرع

- ‌فرع

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌المفاضلة بَين قَوس الْيَد وقوس الرجل

- ‌‌‌فصلالنزاع بَين الطَّائِفَتَيْنِ

- ‌فصل

- ‌فِي أَنْفَع القسي وأولاها بِالِاسْتِعْمَالِ

- ‌فصل

- ‌أَنْفَع قسي الْيَد

- ‌فصل

- ‌فِي الْمُفَاخَرَة بَين قَوس الْيَد وقوس الرجل

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌مَا يحْتَاج إِلَيْهِ المتعلم

- ‌فِي آدَاب الرَّمْي وَمَا يَنْبَغِي للرامي أَن يعتمده

- ‌فصل

- ‌فِي الْخِصَال الَّتِي بهَا كَمَال الرَّمْي

- ‌فصل

- ‌فِي النكاية

- ‌فصل فِي جمل من أسرار الرَّمْي ذكرهَا الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه

- ‌فصل فِي الْقيام وَالْجُلُوس

- ‌فصل أوجه الْجُلُوس فِي الرَّمْي

- ‌فصل مُشْتَمل على فُصُول من طب الرَّمْي وعلاج علله وآفاته

- ‌فصل مِنْهَا

- ‌ذكر مَا يصلح بِهِ هَذِه الْآفَات

- ‌فصل فِي استرخاء قَبْضَة الشمَال وَمَا يلْزمه

- ‌فصل فِي آفَة عقر السبابَة من الْيَد الْيُمْنَى وعلاجه

- ‌فصل فِي آفَة مس الْوتر لإذن الرَّامِي ولحيته وعلاجه

- ‌فصل فِي آفَة كسر ظفر الْإِبْهَام فِي العقد وعلاجه

- ‌فصل فِي آفَة لُحُوق السبابَة عِنْد الْإِطْلَاق وعلاجه

- ‌فصل فِي آفَة رد السهْم وَقت الْإِطْلَاق

- ‌فصل فِي آفَة الكزازة وَمَا يزيلها

- ‌فصل فِي آفَة ضرب سية الْقوس الأَرْض عِنْد الْإِطْلَاق

- ‌‌‌فصلفِي عِلّة كسر فَوق السهْم وعلاجه

- ‌فصل

- ‌فصل [أَنْوَاع تَحْرِيك السهْم]

- ‌فصل [اسباب تحرّك السهْم من أول خُرُوجه إِلَى حِين وُقُوعه]

- ‌فصل [اسباب تحرّك السهْم عِنْد توَسط المدى]

- ‌فصل [اسباب تحرّك السهْم آخرا إِن لم يَتَحَرَّك أَولا]

- ‌فصل [اسباب تحرّك السهْم أَولا فَإِذا توَسط استد]

- ‌فصل فِي عقر الْإِبْهَام بِالسَّهْمِ وَقت الْجَرّ وعلاجه

- ‌[فصل فِي] ذكر أَرْكَان الرَّمْي الْخَمْسَة وَصفَة كل وَاحِد مِنْهَا وَالِاخْتِلَاف

- ‌ذكر العقد ووجوهه

- ‌فصل [منشأ السرعة والبعد عِنْد الرُّمَاة]

- ‌فصل [أَنْوَاع تركيب السبابَة على الْإِبْهَام]

- ‌فصل [لَا يَنْبَغِي للرامي أَن يقلم أظافر يَده الْيُمْنَى]

- ‌فصل فِي القفلة بالأصابع الثَّلَاث من الْيَد الْيُمْنَى

- ‌ذكر الْمَدّ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ذكر النّظر وَأَحْكَامه

- ‌فصل [النّظر من الدَّاخِل]

- ‌فصل [أوجه النّظر من الْخَارِج]

- ‌فصل فِي ميزَان النّظر

- ‌فصل [المفاضلة بَين أهل التربيع وَأهل التحريف]

- ‌فصل فِي ميزَان آخر

- ‌[فصل فِي] ذكر الاطلاق ووجوهه

- ‌فصل فِي مر السهْم على الْيَد

- ‌ذكر [سَبَب] ارْتِفَاع السهْم فِي الجو ونزوله وسداده

- ‌فصل فِي مدح الْقُوَّة والشجاعة وذم الْعَجز والجبن

- ‌فصل

- ‌فصل [الْفرق بَين الشجَاعَة وَالْقُوَّة]

- ‌فصل فِي مَرَاتِب الشجَاعَة والشجعان

- ‌فصل [الْأُمُور المترتبة على الشجَاعَة]

- ‌خَاتِمَة

الفصل: ‌أدلة المجوزين للتراهن من غير محلل

‌أَدِلَّة المجوزين للتراهن من غير مُحَلل

قَالَ المجوزون للتراهن من غير مُحَلل

قَالَ الله تَعَالَى

{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ} [الْمَائِدَة: 1]

وَهَذَا يَقْتَضِي الْأَمر بِالْوَفَاءِ لكل عقد إِلَّا عقدا حرمه الله وَرَسُوله أَو أَجمعت الْأمة على تَحْرِيمه وَعقد الرِّهَان من الْجَانِبَيْنِ لَيْسَ فِيهِ شَيْء من ذَلِك فالمتعاقدان مأموران بِالْوَفَاءِ بِهِ

وَقَالَ [الله] تَعَالَى

{وأوفوا بالعهد إِن الْعَهْد كَانَ مسؤولا} [الْإِسْرَاء: 34]

وَقَالَ [تَعَالَى]{والموفون بعهدهم إِذا عَاهَدُوا} [الْبَقَرَة: 177]

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم

الْمُسلمُونَ عِنْد شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا [حَدِيث صَحِيح]

وَقَالَ [عليه السلام] إِن من أعظم الْمُسلمين جرما من سَأَلَ عَن شَيْء لم يحرم فَحرم على النَّاس من أجل مَسْأَلته

ص: 164

وَهَذَا يدل على أَن الْعُقُود والمعاملات على الْحل حَتَّى يقوم الدَّلِيل من كتاب الله وَسنة وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم على تَحْرِيمهَا

فَكَمَا أَنه لَا وَاجِب إِلَّا مَا أوجبه الله وَرَسُوله فَلَا حرَام إِلَّا مَا حرمه الله وَرَسُوله

قالو وَقد أطلق النَّبِي صلى الله عليه وسلم جَوَاز أَخذ السَّبق فِي الْخُف والحافر والنصل إِطْلَاق مشرع لإباحته وَلم يُقَيِّدهُ بِمُحَلل فَقَالَ

لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل

فَلَو كَانَ الْمُحَلّل شرطا لَكَانَ ذكره أهم من ذكر محَال السباق إِن كَانَ السباق بِدُونِهِ حَرَامًا وَهُوَ قمار عِنْد المشترطين فَكيف يُطلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم جَوَاز أَخذ السَّبق فِي هَذِه الْأُمُور وَيكون أغلب صوره مَشْرُوطًا بالمحلل وَأكل المَال بِدُونِهِ حرَام وَلَا يُبينهُ بِنَصّ وَلَا بإيماء وَلَا تَنْبِيه وَلَا ينْقل عَنهُ وَلَا عَن أَصْحَابه مُدَّة رهانهم فِي الْمُحَلّل قَضِيَّة وَاحِدَة

قَالُوا وَفِي مُسْند الإِمَام أَحْمد عَن أبي لبيد لمازة بن زبار قَالَ قُلْنَا لأنس أَكُنْتُم تراهنون على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ

ص: 165

نعم لقد رَاهن [رَسُول الله صلى الله عليه وسلم] على فرس يُقَال لَهُ (سبْحَة) فَسبق النَّاس فهش لذَلِك وَأَعْجَبهُ وَهُوَ حَدِيث جيد الْإِسْنَاد [وَمن الْكِفَايَة فِي الِاحْتِجَاج بِهِ رِوَايَة هَذَا الإِمَام لَهُ وعَلى الْمَانِع إبداء مَا يُوجب عدم الإحتجاج]

قَالُوا والمراهنة مفاعلة وَهِي لَا تكون إِلَّا من الطَّرفَيْنِ هَذَا اصلها وَالْغَالِب عَلَيْهَا

قَالُوا وروى أَحْمد ايضا حَدثنَا غنْدر عَن شُعْبَة عَن سماك قَالَ سَمِعت عياضا الْأَشْعَرِيّ قَالَ

قَالَ أَبُو عُبَيْدَة من يراهنني فَقَالَ شَاب أَنا إِن لم تغْضب قَالَ فسبقه قَالَ فَرَأَيْت عقيصتي أبي عُبَيْدَة تنقزان وَهُوَ على فرس خَلفه عري

وَلم يذكر محللا فِي هَذَا وَلَا فِي غَيره

قَالُوا وَمثل هَذَا لَا بُد أَن يشْتَهر وَلم ينْقل عَن صَحَابِيّ خِلَافه

قَالَ شيخ الْإِسْلَام

مَا علمت بَين الصَّحَابَة خلافًا فِي عدم اشْتِرَاط الْمُحَلّل

ص: 166

قَالُوا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم

لَا جلب وَلَا جنب فِي الرِّهَان

والرهان على وزن فعال وَهُوَ مُقْتَضى أَن يكون من الْجَانِبَيْنِ فَأبْطل النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي عقد الرِّهَان الجلب وَالْجنب وَلم يبطل اشتراطهما فِي بذل السَّبق مَعَ أَن [بَيَان] حكمه أهم من بَيَان الجلب وَالْجنب بِكَثِير

قَالُوا وَلَو كَانَ إِخْرَاج الْعِوَض من المتراهنين حَرَامًا وَهُوَ قمار لما حل بالمحلل فَإِن هَذَا الْمُحَلّل لَا يحل السَّبق الَّذِي حرمه الله وَرَسُوله وَلَا تَزُول الْمفْسدَة الَّتِي فِي إخْرَاجهَا بِدُخُولِهِ [بل تزيد كَمَا سنبينه فَإِن كَانَ العقد بِدُونِهِ قمارا فَهُوَ بِدُخُولِهِ] أَيْضا [قمار] إِذْ الْمَعْنى الَّذِي جعلتموه

ص: 167

لأَجله قمارا إِذا اشْتَركَا فِي الْإِخْرَاج هُوَ بِعَيْنِه قَائِم مَعَ دُخُول الْمُحَلّل فَكيف يكون العقد قمارا فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وحلالا فِي الْأُخْرَى مَعَ قيام الْمَعْنى بِعَيْنِه

وَلَا تذكرُونَ فرقا إِلَّا كَانَ الْفرق مقتضيا لِأَن يكون العقد بِدُونِهِ أقل خطرا وَأقرب إِلَى الصِّحَّة كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى

قَالُوا وَدخُول الْمُحَلّل فِي هَذَا العقد كدخول الْمُحَلّل فِي النِّكَاح للمطلق ثَلَاثًا وكدخول الْمُحَلّل فِي عقد الْعينَة وَنَحْوهَا من الْعُقُود الْمُشْتَملَة على الْحِيَل الربوية فَإِن كَانَ وَاحِد مِنْهُم مستعار غير مَقْصُود فِي العقد وَالْمَقْصُود غَيره وَهُوَ حرف جَاءَ لِمَعْنى من غَيره وَقد ثَبت فِي مُحَلل النِّكَاح والعينة مَا ثتب فِيهِ من النَّهْي عَنهُ والإخبار عَن مُحَلل النِّكَاح أَنه تَيْس مستعار فَإِنَّهُ لم يقْصد بِالْعقدِ وَإِنَّمَا استعير دخيلا ليحل مَا حرم الله تَعَالَى

قَالُوا فَإِن كَانَ إِخْرَاج السَّبق من المتراهنين حَرَامًا فدخول الْمُحَلّل ليحله كدخول مُحَلل النِّكَاح سَوَاء بِسَوَاء وَإِن كَانَ بذل السَّبق مِنْهُمَا جَائِزا مَعَه فبدونه أولى بِالْجَوَازِ

قَالُوا وَأَيْضًا فالمحلل إِمَّا أَن يكون دُخُوله ليحل الْعَمَل أَو ليحل الْبَذْل أَو ليحل أكل السَّبق والأقسام الثَّلَاثَة بَاطِلَة

أما بطلَان إحلاله الْعَمَل فَظَاهر فَإِن الْعَمَل حَلَال بالِاتِّفَاقِ

وَأما بطلَان إحلاله الْبَذْل فَكَذَلِك أَيْضا لِأَن الْبَذْل جعَالَة عِنْد المشترطين للمحلل فِي هَذَا العقد وبذل الْجعل فِي الْجعَالَة لَا يتَوَقَّف على

ص: 168

مُحَلل سَوَاء كَانَ من أحد الْجَانِبَيْنِ أَو من كليهمَا إِذْ غايتها أَن تكون جعَالَة من الطَّرفَيْنِ وحلها لَا يتَوَقَّف على مُحَلل كَمَا لَو أبق لكل وَاحِد مِنْهُمَا عبد فَقَالَ كل مِنْهُمَا للْآخر إِن رددت عَبدِي فلك عشرَة وبذل السَّبق عِنْدهم هُوَ مثل هَذَا فَإِنَّهُم يدخلونه فِي قسم الجعالات

وَأما بطلَان إحلاله لأجل السَّبق فَكَذَلِك أَيْضا لِأَن أكل هَذَا السَّبق إِن كَانَ حَرَامًا بِدُونِ الْمُحَلّل فَهُوَ حرَام بِدُخُولِهِ فَإِنَّهُ لَا تَأْثِير لَهُ فِي حل مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمَا وَإِن لم يكن حَرَامًا بِدُخُول الْمُحَلّل لم يكن حَرَامًا بِدُونِهِ فَإِنَّهُ لَا تَأْثِير لَهُ فِي عملهما وَلَا فِي دفع المخاطرة فِي عقدهم بل دُخُوله إِن لم يضرهما لم ينفعهما

قَالُوا وَأَيْضًا فَالله سبحانه وتعالى حرم الميسر فِي كِتَابه كَمَا حرم الْخمر وَالْميسر هُوَ الْقمَار وتحريمه إِمَّا أَن يكون لنَفس الْعَمَل أَو لما فِيهِ من أكل المَال الْبَاطِل أَو لمجموع الْأَمريْنِ وَلَيْسَ هُنَا قسم رَابِع

وأيا مَا كَانَ فَلَيْسَ فِي هَذَا العقد الْمُتَنَازع فِيهِ وَاحِد من الْأُمُور الثَّلَاثَة بل هُوَ خَال عَنْهَا فَإِن المغالبات فِي الشَّرْع تَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام أَحدهَا مَا فِيهِ مفْسدَة راجحة على منفعَته كالنرد وَالشطْرَنْج فَهَذَا يحرمه الشَّارِع لَا يبيحه إِذْ مفسدته راجحة على مصْلحَته وَهِي من جنس مفْسدَة السكر وَلِهَذَا قرن الله سبحانه وتعالى بَين الْخمر والقمار فِي الحكم وجعلهما فريني الأنصاب والأزلام وَأخْبر أَنَّهَا كلهَا رِجْس

ص: 169

وَأَنَّهَا من عمل الشَّيْطَان وَأمر باجتنابها وعلق الْفَلاح باجتنابها وَأخْبر أَنَّهَا تصد عَن ذكره وَعَن الصَّلَاة وتهدد من لم ينْتَه عَنْهَا وَمَعْلُوم أَن شَارِب الْخمر إِذا سكر كَانَ ذَلِك مِمَّا يصده عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة ويوقع الْعَدَاوَة والبغضاء بِسَبَبِهِ

وَكَذَلِكَ المغالبات الَّتِي تلهي بِلَا مَنْفَعَة كالنرد وَالشطْرَنْج وأمثالهما مِمَّا يصد عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة لشدَّة التهاء النَّفس بهَا واشتغال الْقلب فِيهَا أبدا بالفكر

وَمن هَذَا الْوَجْه فالشطرنج أَشد شغلال للقلب وصدا عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة وَلِهَذَا جعله بعض الْعلمَاء أَشد تَحْرِيمًا من النَّرْد وَجعل النَّص على أَن اللاعب بالنرد عَاص لله وَرَسُوله تَنْبِيها بطرِيق الأولى على أَن اللاعب بالشطرنج أَشد مَعْصِيّة إِذْ لَا يحرم الله وَرَسُوله فعلا مُشْتَمِلًا على مفْسدَة ثمَّ يُبِيح فعلا مُشْتَمِلًا على مفْسدَة أكبر من تِلْكَ والحس والوجود شَاهد بِأَن مفْسدَة الشطرنج وشغلها للقلب وصدها عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة أعظم من مفْسدَة النَّرْد وَهِي توقع الْعَدَاوَة والبغضاء لما فِيهَا من قصد كل من المتلاعبين قهر الآخر وَأكل مَاله وَهَذَا من اعظم مَا يُوقع الْعَدَاوَة والبغضاء فَحرم الله سُبْحَانَهُ هَذَا النَّوْع لاشْتِمَاله على مَا يبغضه وَمنعه مِمَّا يُحِبهُ

ص: 170

فصل

الْمصلحَة الراجحة المتضمنة لما يُحِبهُ الله وَرَسُوله تَقْتَضِي عدم إِدْخَال الْمُحَلّل بَين المتسابقين وأوجه ذَلِك

الْقسم الثَّانِي عكس هَذَا وَهُوَ مَا فِيهِ مصلحَة راجحة وَهُوَ مُتَضَمّن لما يُحِبهُ الله وَرَسُوله معِين عَلَيْهِ ومفض إِلَيْهِ فَهَذَا شَرعه الله تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَشرع لَهُم الْأَسْبَاب الَّتِي تعين عَلَيْهِ وترشد إيه وَهُوَ كالمسابقة على الْخَيل وَالْإِبِل والنضال الَّتِي تَتَضَمَّن الِاشْتِغَال بِأَسْبَاب الْجِهَاد وَتعلم الفروسية والاستعداد للقاء أعدائه وإعلاء كَلمته وَنصر دينه وَكتابه وَرَسُوله فَهَذِهِ المغالبة تطلب من جِهَة الْعَمَل وَمن جِهَة أكل المَال بِهَذَا الْعَمَل الَّذِي يُحِبهُ الله تَعَالَى وَرَسُوله وَمن الْجِهَتَيْنِ مَعًا

وَهَذَا الْقسم جوزه الشَّارِع بالبرهان تحريضا للنفوس عَلَيْهِ فَإِن النَّفس يصير لَهَا داعيان دَاعِي الْغَلَبَة وداعي الْكسْب فتقوى رغبتها فِي الْعَمَل المحبوب لله تَعَالَى وَرَسُوله فَعلم أَن أكل المَال بِهَذَا النَّوْع أكل لَهُ بِحَق لَا بباطل وَمَعْلُوم أَن دُخُول الْمُحَلّل يضعف هَذَا الْغَرَض ويفتر عزم الأقران فَهُوَ يعود على مَطْلُوب الشَّارِع بالإبطال فَإِن المتسابقين مَتى رَأيا بَينهمَا دخيلا مستعارا يَأْكُل مَالهمَا إِن غلب وَلَا يأخذان مِنْهُ شَيْئا إِن غلباه فترت عزيمتهما وَضعف حرصهما

وَمَعْلُوم أَن هَذَا لَا إِعَانَة فِيهِ على هَذَا الْعَمَل وَلَا تَقْوِيَة فِيهِ للرعية وَلَا هُوَ أدّى إِلَى تَحْصِيل المَال الْبَاعِث على الْعَمَل فَالْعقد بِدُونِهِ أقرب إِلَى

ص: 171

حُصُول مَا يُحِبهُ الله تَعَالَى

قَالُوا والوجود شَاهد بذلك

فصل

وَأما الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ مضرَّة راجحة وَلَا هُوَ أَيْضا مُتَضَمّن لمصْلحَة راجحة يَأْمر الله تَعَالَى بهَا وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم فَهَذَا لَا يحرم وَلَا يُؤمر بِهِ كالصراع الْعَدو والسباحة وشيل الأثقال وَنَحْوهَا

فَهَذَا الْقسم رخص فِيهِ الشَّارِع بِلَا عوض إِذْ لَيْسَ فِيهِ مفْسدَة راجحة وللنفوس فِيهِ استراحة وإجمام وَقد يكون مَعَ الْقَصْد الْحسن عملا صَالحا كَسَائِر الْمُبَاحَات الَّتِي تصير بِالنِّيَّةِ طاعات فاقتضت حِكْمَة الشَّرْع الترخيص فِيهِ لما يحصل فِيهِ من إجمام النَّفس وراحتها واقتضت تَحْرِيم الْعِوَض فِيهِ إِذْ لَو أباحته بعوض لاتخذته النُّفُوس صناعَة ومكسبا فالتهت بِهِ عَن كثير من مصَالح دينهَا ودنياها

فَأَما إِذا كَانَ لعبا مَحْضا وَلَا مكسب فِيهِ فَإِن النَّفس لَا تؤثره على مصَالح دنياها ودينها وَلَا تؤثره عَلَيْهَا إِلَّا النُّفُوس الَّتِي خلقت للبطالة

قَالُوا وَبِهَذَا التَّقْسِيم تتبين حِكْمَة الشَّرْع فِي إِدْخَاله السَّبق فِي الْخُف والحافر والنصل وَمنعه فِيمَا عَداهَا وَتبين بِهِ أَن الدخيل لَا مصلحَة فِيهِ للمتسابقين أَلْبَتَّة

قَالُوا وَأَيْضًا فالشرع مبناه على الْعدْل فَإِن الله سُبْحَانَهُ أرسل رسله وَأنزل كتبه ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ وَقد حرم الله سُبْحَانَهُ الظُّلم على نَفسه وَجعله محرما بَين عباده والعقود كلهَا مبناها على الْعدْل بَين

ص: 172

الْمُتَعَاقدين عُقُود الْمُعَاوَضَات والمشاركات جائزها ولازمها وَإِذا كَانَ مبْنى الْعُقُود على الْعدْل من الْجَانِبَيْنِ فَكيف يُوجب فِي عقد من الْعُقُود أَن يبْذل أحد الْمُتَعَاقدين وَحده دون الآخر وَكِلَاهُمَا فِي الْعَمَل وَالرَّغْبَة سَوَاء وكل وَاحِد مِنْهُمَا رَاغِب فِي السَّبق وَالْكَسْب فَمَا الَّذِي جوز الْبَذْل لأَحَدهمَا دون الآخر

قَالُوا وَأَيْضًا فالمحلل كأحدهم فِي الْعَمَل وَالرَّغْبَة فَمَا الَّذِي أوجب عَلَيْهَا بذل ماليهما إِن سبقهما وَحرم عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمَا بذل مَاله لَهما إِن سبقاه مَعَ تساويهم فِي الْعَمَل من كل وَجه فَأَي قِيَاس أَو أَي نظر أَو أَيَّة حِكْمَة أَو أَيَّة مصلحَة توجب ذَلِك

قَالُوا بل دُخُول الْمُحَلّل بَينهمَا يضرهما وَلَا ينفعهما فَهُوَ لم يزدهما إِلَّا ضَرَرا فَإِنَّهُ إِن سبقهما أكل مَالهمَا وَإِن سبقاه لم يأكلا مِنْهُ شَيْئا وَأما إِذا لم يدْخلَاهُ فَإِنَّهُ أَيهمَا سبق صَاحبه أَخذ مَاله وَإِن لم يسْبق أَحدهمَا الآخر أحرز كل وَاحِد مِنْهُمَا مَال نَفسه وَهَذَا أعدل لِأَن الْغَالِب يَأْخُذ بِعَمَلِهِ والمغلوب يغرم لِأَنَّهُ بذل المَال لمن يغلبه وَأما الْمُحَلّل فَإِنَّهُ إِن كَانَ غَالِبا غنم وَإِن كَانَ مَغْلُوبًا سلم وَصَاحب المَال إِن كَانَ مَغْلُوبًا غرم

قَالُوا فَمُقْتَضى الْقيَاس فَسَاد العقد بالمحلل

قَالُوا وَأَيْضًا فالمحلل عنْدكُمْ على خلاف الْقيَاس وَإِنَّمَا احتملتموه للضَّرُورَة حَتَّى قَالَ أَبُو الْحسن الْآمِدِيّ

ص: 173

لَا يجوز أَكثر من مُحَلل وَاحِد وَلَو كَانُوا مئة

قَالُوا لِأَن الْحَاجة اندفعت بِهِ وَلَو كَانَ هَذَا الْمُحَلّل مَقْصُودا وللعقد بِهِ مصلحَة لم يكن على خلاف الْقيَاس وَكَانَ كَأحد الحزبين

قَالُوا وَمن الْمَعْلُوم أَن الْمُحَلّل غير مَقْصُود بِالْعقدِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُود صَاحِبَاه فَأنْتم جعلتم الْمُحَلّل الَّذِي لم يقْصد بِهَذَا العقد أحسن حَالا من صَاحِبيهِ المقصودين بِالْعقدِ وَهل هَذَا الْأَمر إِلَّا بِالْعَكْسِ أولى فَإِن رِعَايَة جَانب الباذلين المقصودين بِالْعقدِ أَحَق من رِعَايَة جَانب هَذَا الْمُحَلّل الَّذِي هُوَ غير مَقْصُود وَلَا باذل فالمحلل لَهُ مَنْفَعَة على تقديرين وسلامة على تَقْدِير وَأما الْآخرَانِ فَلِكُل مِنْهُمَا مَنْفَعَة على تَقْدِير ومضرة على تَقْدِير فَهُوَ احسن حَالا مِنْهُمَا فليلحق بهما من الْمضرَّة وَقلة الِانْتِفَاع وَدخُول ثَالِث يَأْكُل مَالهمَا مَا لم يحصل للمحلل الَّذِي هُوَ دخيل غير مَقْصُود فخصصتم بالمضرة الْمَقْصُود الَّذِي حضه النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الرّكُوب وَالرَّمْي وخصصتم بزوالها وَزِيَادَة النَّفْع هَذَا الْعَارِية الَّذِي هُوَ غير مَقْصُود

قَالُوا وَهَذَا يتَضَمَّن أَمريْن أَحدهمَا خُرُوج هَذَا العقد عَن الْإِنْصَاف الَّذِي هُوَ مدَار الْعُقُود فَكيف يشرع الشَّارِع الْحَكِيم فِي الْعُقُود مَا يكون منافيا للعدل وَيحرم مَا يكون مُوجب الْعدْل وَمُقْتَضَاهُ

الثَّانِي أَن يَجْعَل الرَّاغِب فِي الْعَمَل المحبوب لله وَلِرَسُولِهِ المريد للرمي وَالرُّكُوب ليستعين بِهِ على الْجِهَاد أَسْوَأ حَالا من هَذَا الدخيل الَّذِي لم يبْذل شَيْئا إِنَّمَا دخل عَارِية فجعلتموه مراعى جَانِبه منظورا فِي مصْلحَته معرضًا للكسب مصان الْجَانِب من الخسران وَلَيْسَ صَاحِبَاه

ص: 174

بِهَذِهِ الْمنزلَة

قَالُوا وَمن تَأمل مَقَاصِد الشَّرْع وَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الحكم والمصالح علم أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ أولى

قَالُوا وَأَيْضًا فالعاقل لَا يبْذل الْجعل إِلَّا لعمل هُوَ مَقْصُود لَهُ لَا يبذله فميا هُوَ مَكْرُوه إِلَيْهِ فيبذله لنفع هُوَ يعود عَلَيْهِ كخياطة ثَوْبه وَبِنَاء دَاره ورد عَبده أَو نفع غَيره كفداء أَسِير أَو عتق عبد أَو خلع امْرَأَة فهذان غرضان مطلوبان فَإِذا بذل أَجْنَبِي السَّبق لمن سبق كَانَ قد بذل مَاله لغَرَض مَقْصُود لَهُ وَهُوَ الْإِعَانَة على الْقُوَّة فِي سَبِيل الله فَإِذا بذله أحد المتسابقين جَازَ لهَذَا الْمَقْصُود فَكيف يُقَال يجوز أَن يبْذل الْجعل بِشَرْط أَن يكون مَسْبُوقا مَغْلُوبًا وَأَنه إِن كَانَ سَابِقًا لَا يحصل لَهُ شَيْء وَلَا يجوز أَن يبذله إِذا كَانَ مَسْبُوقا وَإِن كَانَ سَابِقًا حصل لَهُ شَيْء

بَيَان ذَلِك أَنه إِذا كَانَ الْمخْرج أَحدهمَا كَانَ مُقْتَضى الْعدْل من الْبَاذِل أَنه لَا يجوز لَهُ بذله إِلَّا بِشَرْطَيْنِ أَحدهمَا خُرُوج السَّبق عَنهُ إِن كَانَ مَغْلُوبًا وَالثَّانِي أَنه لَا يَأْخُذ شَيْئا إِذا كَانَ غَالِبا

وَإِذا أخرجَا مَعًا كَانَ مُقْتَضى الْعقل أَنه يبذله إِذا كَانَ مَغْلُوبًا وَيَأْخُذ إِذا كَانَ غَالِبا فقد جوزتم بذلك الْجعل فِي الْحَال الَّذِي لَا ينْتَفع بهَا الْبَاذِل ومنعتم بذله فِي الْحَال الَّتِي يَرْجُو فِيهَا انتفاعه فجوزتهم بذلك فِي عقد لَا ينْتَفع بِهِ ومنعتم بذله فِي عقد هُوَ بصدد الِانْتِفَاع بِهِ وَمن الْمَعْلُوم أَن مَا منعتموه أولى بِالْجَوَازِ مِمَّا جوزتموه وَأَن مَا شرطتموه للْحلّ هُوَ أولى أَن يكون مَانِعا من الْحل أقرب

ص: 175

قُولُوا وَأَيْضًا فَإِن كَانَ أَحدهمَا يَأْكُل مَال الآخر بِالْبَاطِلِ إِذا أخرجَا مَعًا بِدُونِ الْمُحَلّل فَأكل الْمُحَلّل مَالهمَا بِالْبَاطِلِ أولى وَأَحْرَى

بَيَانه أَن أَحدهمَا إِنَّمَا يَأْكُل مَال الآخر إِذا كَانَ غَالِبا لَهُ فيأكله بالجهة الَّتِي يَأْكُل بهَا الآخر مَاله بِعَينهَا مَعَ تسويهما فِي الْبَذْل وَالْغنم وَالْغُرْم وَالْعَمَل وَأما الْمُحَلّل فَإِنَّهُ يَأْكُل مَالهمَا إِن سبقهما وَلَا يأكلان لَهُ شَيْئا إِن سبقاه فَلَا يَأْكُل وَاحِد مِنْهُمَا مَاله اذا كَانَ مَغْلُوبًا وَيَأْكُل مَالهمَا إِذا كَانَ غَالِبا فَإِن لم يكن هَذَا أكلا لِلْمَالِ بِالْبَاطِلِ فالصورة الَّتِي منعتموها أولى أَن لَا تكون أكلا بِالْبَاطِلِ وَإِن كَانَت تِلْكَ متضمنة للْأَكْل بِالْبَاطِلِ فَهَذَا أولى

وَهَذَا مِمَّا لَا جَوَاب عَنهُ

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا أخرجَا مَعًا كَانَ كل مِنْهُمَا لَهُ مثل مَا للْآخر وَعَلِيهِ مثل مَا عَلَيْهِ ورجاؤه وخوفه كرجاء الآخر وخوفه وَهَذَا هُوَ الْعدْل الْمَحْض فهما كشريكي الْعَنَان والشريكين فِي الْمُسَاقَاة

ص: 176

والمزارعة وَالْمُضَاربَة وَلِهَذَا حرم الشَّارِع أَن يخْتَص أَحدهمَا عَن الآخر بزرع بقْعَة بِعَينهَا أَو ثَمَرَة شَجَرَة بِعَينهَا وَالْمُضَارب لَا يجوز أَن يخْتَص بِرِبْح سلْعَة بِعَينهَا بل يكونَانِ سَوَاء فِي الْمغنم والمغرم

وَإِنَّمَا جوز أَن يكون الْبَذْل من أَحدهمَا لِأَنَّهُ يلْتَحق بالجعالة عنْدكُمْ

وَهَذِه الْجعَالَة الْعَمَل فِيهَا مَقْصُود وحيئنذ فَيُقَال إِذا أخرجَا مَعًا كَانَ غَايَته أَنه جعَالَة من الطَّرفَيْنِ فَلَا يمْنَع جَوَازه وَإِذا علم هَذَا فَإِذا أخرجَا مَعًا كَانَ اقْربْ إِلَى عُقُود الْمُعَاوَضَات والمشاركات مِمَّا إِذا أخرج أَحدهمَا لِأَنَّهُمَا قد اشْتَركَا فِي الْعَمَل والاشتراك فِي الْعَمَل يَقْتَضِي الِاشْتِرَاك فِي بذل الْجعَالَة بِخِلَاف مَا إِذا أخرج أَحدهمَا وَانْفَرَدَ الْبَاذِل بِالْمَالِ وَالْعَامِل بِالْعَمَلِ فَإِنَّهُمَا هُنَاكَ لم يشتركا فِي الْعَمَل فَهُوَ نَظِير مَا إِذا بذل السَّبق أَجْنَبِي لم يدْخل مَعَهُمَا

قَالُوا وَأَيْضًا فَلَو كَانَ تَحْرِيم هَذَا العقد الَّذِي أخرج فِيهِ المتعاقدان

ص: 177

كِلَاهُمَا من غير مُحَلل لما فِيهِ من المخاطرة بَين الْمغنم والمغرم للَزِمَ طرد ذَلِك فَيحرم كل عقد تضمن مخاطرة بَين الْغنم وَالْغُرْم وَكَانَ يلْزم تَحْرِيم الشّركَة فَإِن كل وَاحِد من الشَّرِيكَيْنِ إِمَّا إِن يغرم وَإِمَّا أَن يغنم

فَإِن قُلْتُمْ بل هَا هُنَا قسم ثَالِث وَهُوَ أَن يسلم فَلَا يغنم وَلَا يغرم كَانَ جوابكم من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن السَّابِق كَذَلِك قد يسلم أَيْضا فَلَا يسْبق وَلَا يسْبق الثَّانِي أَن احْتِمَال هَذَا الْقسم لَا يزِيل المخاطرة بل كَانَت مخاطرة بَين أَمريْن فَصَارَت بَين ثَلَاثَة

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا أخرج احدهما دون الآخر كَانَ آكل المَال فِي هَذَا العقد آكلا بِوَجْه يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَهُوَ تعلم مَا يُحِبهُ من الرَّمْي والإصابة والفروسية فَإِذا اشْتَركَا فِي الْإِخْرَاج فَكل مِنْهُمَا إِمَّا معِين أَو معَان على تَحْصِيل هَذَا المحبوب المرضي لله فَكل وَاحِد مِنْهُمَا يَأْكُل بالجهة الَّتِي يَأْكُل بهَا صَاحبه فجهة أكل المَال جِهَة وَاحِدَة فَإِن حرم أكله فِي صُورَة اشتراكهما فِي الْإِخْرَاج حرم فِي صُورَة الِانْفِرَاد وَإِن أُبِيح فِي صُورَة الِانْفِرَاد لزم إِبَاحَته فِي صُورَة الِاشْتِرَاك إِذْ لَا فرق بَينهمَا يَقْتَضِي جعل إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ من الْمُبَاح بل من الْمُسْتَحبّ الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله وَالثَّانِي من الْقمَار وَالْميسر الَّذِي يبغضه الله وَرَسُوله

فيا لله الْعجب أَي معنى وَأي حِكْمَة فرقت بَينهمَا هَذَا الْفرْقَان مَعَ أَنَّهُمَا أَخَوان شقيقان

ص: 178

قَالُوا ويوضحه أَن الْغَالِب إِنَّمَا يَأْكُل المَال بغلبه وَهَذِه الْعلَّة بِعَينهَا مَوْجُودَة فِيمَا إِذا أخرجَا مَعًا فَيجب طرد الحكم لاطراد علته

قَالُوا ويوضحه أَن الْمَانِع من طرد الحكم مُنْتَفٍ لما تقدم والمقتضي مَوْجُود فَيجب القَوْل بالمقتضي السَّالِم عَن الْمعَارض المقاوم

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا كَانَت عِلّة التَّحْرِيم لاشْتِرَاكهمَا فِي الْخراج هِيَ المخاطرة لزم فَسَاد الْعلَّة لتخلف الحكم عَنْهَا فِي صُورَة الْمُحَلّل وَحِينَئِذٍ فَيُقَال لَيْسَ الحكم لفساد التَّخَلُّف الْمَذْكُور مَعَ الْمُحَلّل أولى من اعْتِبَارهَا للاقتران مَعَ عَدمه

قَالُوا وَأَيْضًا فتأثير الْمُحَلّل إِمَّا أَن يكون فِي رفع السَّبَب الْمُقْتَضِي للتَّحْرِيم أَو فِي رفع الحكم وَهُوَ التَّحْرِيم مَعَ قيام سَببه كالرخصة فِي أكل الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير للْمُضْطَر وَكِلَاهُمَا بَاطِل

أما الأول فَإِن السَّبَب الْمحرم عنْدكُمْ هُوَ المخاطرة وَهِي لم تزل بالمحلل وَأما الثَّانِي فَكَذَلِك أَيْضا إِذْ هُوَ مُسْتَلْزم تخلف الحكم عَن علته مَعَ قيام الْوَصْف الَّذِي جعلهَا مُؤثرَة فَإِن قُلْتُمْ العقد بالمحلل يصير من بَاب الْمُعَاوَضَات ومخرج من شبه الْقمَار فجوابكم من وَجْهَيْن

أَحدهمَا أَن هَذَا الْفرق بِعَيْنِه حجَّة عَلَيْكُم فَإِنَّهُ إِذا صَار العقد بِهِ من عُقُود الْمُعَاوَضَات بل إِذا تعاقد الجاعلان وبذل كل مِنْهُمَا جعلا لمن يعْمل مثل عمله جَازَ بِلَا مُحَلل اتقافا

الثَّانِي أَنه يلزمكم إِخْرَاج السَّبق مِنْهُمَا بِمُحَلل فِي سَائِر الْأَعْمَال

ص: 179

الْمُبَاحَة كالمسابقة على الْأَقْدَام والسباحة وَالْكِتَابَة والخياطة والنجارة وَسَائِر الصناعات الْمُبَاحَة فَإِن الْمُحَلّل إِذا جعل العقد من بَاب الجعالات الْجَائِزَة هُنَاكَ فَلم لَا يَجعله من الجعالات الْجَائِزَة هُنَا وَمَا الْفرق وَهَذَا فِي غَايَة الظُّهُور

قَالُوا وَأَيْضًا فدخول الْمُحَلّل إِمَّا أَن يكون ليحل السَّبق لنَفسِهِ أَو لغيره وَكِلَاهُمَا بَاطِل

أما الأول فَظَاهر الْبطلَان فَإِنَّهُ لم يدْخل إِلَّا لأجلهما لِئَلَّا يكون عقدهما قمارا عنْدكُمْ وَقد صرح جُمْهُور المشترطين بِأَنَّهُ لم يدْخل ليحل السَّبق لنَفسِهِ ووهنوا رغم من زعم ذَلِك وأبطلوه وَهُوَ كَمَا قَالُوا لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون إحلاله السَّبق لنَفسِهِ لأجل مَجِيئه سَابِقًا أَو لعدم إِخْرَاجه فَإِن كَانَ إحلاله لسبقه فالسبق حِينَئِذٍ هُوَ الْمُقْتَضِي للْحلّ فَمن أسعده الله تَعَالَى بسبقه

فَمن تَمام السَّعَادَة تَخْصِيصه برزقه فَلَا أثر للمحلل أَلْبَتَّة وَإِن كَانَ إِنَّمَا يحله لنَفسِهِ لعدم إِخْرَاجه فَيُقَال إِذا حل لَهُ السَّبق مَعَ عدم بذله فَلِأَن يحل للباذل أولى وَأَحْرَى لِأَن بذلك الْبَاذِل زِيَادَة إِحْسَان وَخير فَلَا يكون سَببا لحرمانه وَيكون ترك بذل هَذَا سَببا لأَخذه وفوزه فَكيف يحرم على الْبَاذِل المحسن وَيحل للمستعار الَّذِي لم يبْذل وَهل يدل الشَّرْع وَالْعقل نعم وَالِاعْتِبَار إِلَّا على عكس ذَلِك

قَالُوا وَأَيْضًا فبدخول الْمُحَلّل إِمَّا أَن يُقَال زَالَت المخاطرة الْمُقْتَضِيَة للتَّحْرِيم أَو بقيت على حَالهَا أَو ازدادت وَالْأول محَال لِأَنَّهَا كَانَت بَين أَمريْن فَصَارَت بَين ثَلَاثَة كَمَا تقدم

ص: 180

وَالثَّانِي يَقْتَضِي عدم اشْتِرَاط الْمُحَلّل وَالثَّالِث يَقْتَضِي بُطْلَانه وَهَذَا وَاضح لَا يحْتَاج إِلَى تَأمل قَالُوا وَأَيْضًا فَكل مِنْهُمَا بِدُونِ الْمُحَلّل كَانَ يتَوَقَّع غَرَامَة مَاله لوَاحِد فَقَط وَهُوَ خَصمه فَإِذا دخل الْمُحَلّل صَار متوقعا لغرامته للْآخر أَو للمحلل أَو لَهما فَكيف يُقَال يجوز العقد الَّذِي يتَوَقَّع فِيهِ غَرَامَة مَاله لهَذَا وَحده لهَذَا وَحده وَلَهُمَا مَعًا وَيحرم العقد الَّذِي إِنَّمَا يتَوَقَّع فِيهِ غرامته لوَاحِد فَقَط وَمن الْمَعْلُوم أَن وُقُوع قسم من ثَلَاثَة أقرب من وُقُوع وَاحِد بِعَيْنِه فَتكون جِهَات غَرَامَة كل مِنْهُمَا مَعَ الْمُحَلّل ضعْفي جِهَة غرامته بِدُونِهِ

فَكيف يُبَاح هَذَا وَيحرم ذَاك وَهل كَانَ يَنْبَغِي إِلَّا الْعَكْس

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا كَانَ لَا يجوز لأَحَدهمَا أَن يَأْخُذ مَال الآخر إِذا اشْتَركَا فِي الْإِخْرَاج وَيكون أكل المَال مِنْهُ اكلا بِالْبَاطِلِ فيكف يجوز لكل مهما أكل مَال الآخر إِذا دخل هَذَا الدخيل الْمُسْتَعَار وَيكون الْأكل بِهِ اكلا بِحَق مَعَ أَنَّهُمَا لم يستفيدا بِهِ إِلَّا أكله مَالهمَا وحصولهما على الحرمان وَإِن غلباه لم يفرحا بغلب فَإِذا دخل وتناصفا فِي الْإِخْرَاج وتساويا فِي الْعَمَل وانتظر كل مِنْهُمَا مَا يخرج لَهُ بِهِ الْقدر حرمتموه

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا أخرجَا مَعًا كَانَ كل مِنْهُمَا معطيا آخِذا فَإِذا دخل بَينهمَا هَذَا الثَّالِث دخل من يكون آخِذا لَا معطيا فَإِن كَانَ أكله

ص: 181

السَّبق على هَذَا الْوَجْه أكلا بِحَق فَأكل من يكون معطيا آخِذا أحل مِنْهُ فَكيف يُقَال إِن من يَأْخُذ وَلَا يُعْطي يسْتَحق وَمن يَأْخُذ وَيُعْطِي لَا يسْتَحق مَعَ استوائهما فِي الْعَمَل

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا أخرجَا مَعًا فَأكل المَال فِي هَذِه الصُّورَة إِمَّا أَن يكون بِحَق أَو بباطل فَإِن كل بِحَق فَلَا حَاجَة فِي جَوَازه إِلَى الْمُحَلّل وَإِن كَانَ أكلا بباطل فدخول الْمُحَلّل لَا يَجعله أكلا بِحَق فَإِن الْمُحَلّل لم يزل السَّبَب الَّذِي كَانَ أكل المَال بِهِ بِدُونِهِ بَاطِلا كَمَا تقدم

قَالُوا وَأَيْضًا فَإِذا سبق الْمُحَلّل مَعَ أَحدهمَا فإمَّا أَن يَقُولُوا يخْتَص الْمُحَلّل بسبق الآخر أَو يشْتَرك هُوَ وَالسَّابِق

وَالْأول مُمْتَنع لِأَنَّهُمَا قد اشْتَركَا فِي السَّبق واستويا فِي الْعَمَل فتخصيص الْمُحَلّل بِالسَّبقِ مَعَ تساويهما فِي سَببه ظلم

وَإِن قُلْتُمْ يَشْتَرِكَانِ فِيهِ لزمكم الْمَحْذُور الَّتِي فررتم مِنْهُ لِأَن كل مَا ذكرْتُمْ فِيمَا إِذا لم يكن بَينهمَا مُحَلل فَهُوَ هَا هُنَا بِعَيْنِه لِأَن الِاثْنَيْنِ لما سبقا الثَّالِث صَارا بِمَنْزِلَة الْوَاحِد الَّذِي سبق الآخر وَلِهَذَا اشْتَركَا فِي سبقه فَإِن لم يكن فِي هَذَا مَحْذُور لم يكن فِي الصُّورَة الَّتِي منعتموها مَحْذُور وَإِن كَانَ فِي صُورَة الْمَنْع مَحْذُور فهاهنا مثله وَلَا فرق فَإِن كَانَ عنْدكُمْ فرق فأبدوه لنا فَإنَّا من وَرَاء الْقبُول لَهُ إِن كَانَ فرقا مؤثرا وَمن وَرَاء الرَّد إِن كَانَ غير مُؤثر

قَالُوا وَأَيْضًا فَكَمَا زَادَت المخاطرة بِدُخُول الْمُحَلّل فِي أَقسَام الْغنم وَالْغُرْم زَادَت أَيْضا بِالنِّسْبَةِ إِلَى المسابقين فَإِنَّهُمَا إِذا كَانَا اثْنَيْنِ

ص: 182

فَقَط فمخاطرة كل وَاحِد مِنْهُمَا مَعَ اثْنَيْنِ من قرنه وَمَعَ الْمُسْتَعَار الدخيل وَقد كَانَ قبل الْمُحَلّل كل مِنْهُمَا بصدد الْغنم إِذا غلب وَاحِد فَقَط وبدخول الْمُحَلّل لَا يغنم حَتَّى يغلب اثْنَيْنِ وَلَا ريب أَن المخاطرة كلما كَانَت أقل كَانَت أولى بِالْجَوَازِ وَكَيف يكون العقد الَّذِي زَادَت مخاطرته هُوَ الْحَلَال الْجَائِز وَالَّذِي هُوَ أقل مخاطرة مِنْهُ وَأقرب إِلَى تَحْصِيل مَقْصُود الشَّارِع والمتراهنين هُوَ الْحَرَام الْمُمْتَنع

هَذَا مِمَّا لَا تَأتي بِهِ الشَّرِيعَة الْكَامِلَة

قَالُوا وَأَيْضًا فَحل المَال يَسْتَدْعِي طيب نفس باذله بِهِ فَإِنَّهُ لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا عَن طيب نفس مِنْهُ والمتراهنان إِذا دخل

ص: 183

بَينهمَا مُحَلل يَأْخُذ وَلَا يُعْطي لم تطب أَنفسهمَا وَلَا تسمح لَهُ ببذل المَال لِأَنَّهُ كاسب غر غَارِم وَهُوَ عَارِية بَينهمَا دخيل لم ينتفعا بِهِ بل تضررهما بِهِ هُوَ الْوَاقِع وَهَذَا مَوْجُود فِي نفوس المسابقين لَا يحتملان الْمُسْتَعَار إِلَّا على كره ونفرة ويرينا دُخُوله غير مستحسن

قَالُوا وَأَيْضًا فنفرة الطباع مِنْهُ وَعدم اسْتِحْسَان الْعُقَلَاء لدُخُوله يدل على أَنه غير حسن عِنْد الله فَإِن كل مَا هُوَ حسن عِنْد الله وَرَسُوله فالعقلاء تستحسنه طباعهم وَتشهد بحسنه وملاءمته لقضيات الْعُقُول وَلَا سِيمَا إِذا ظَهرت لَهَا مصلحَة

ص: 184

أوجه الشّبَه بَين المتسابقين والمتناضلين من جِهَة والمتناظرين فِي الْعلم من جِهَة أُخْرَى

قَالُوا وَمِمَّا يبين أَن العقد بِدُونِ الْمُحَلّل أحل مِنْهُ بالمحلل وَأولى بِالْجَوَازِ أَن الْمُسَابقَة المناضلة من بَاب الاستعداد للْجِهَاد فَإِذا تعلم النَّاس أَسبَابه وتدربوا فِيهَا وتمرنوا عَلَيْهَا قبل لِقَاء الْعَدو ألفاهم ذَلِك عِنْد اللِّقَاء قَادِرين على عدوهم مستعدين للقائه وكل من المتسابقين والمتناضلين يُرِيد أَن يغلب صَاحبه كَمَا يُرِيد الْمقَاتل أَن يغلب خَصمه فَهُوَ يتَعَلَّم غَلَبَة صَاحبه ليتوصل إِلَى غَلَبَة عدوه وَهَذَا كَحال المتناظرين فِي الْعلم فَإِن احدهما يُورد على صَاحبه من الممانعات والمعارضات وأنواع الأسئلة مَا يرد على الآخر جَوَابه ليعرف الْحق فِي الْمَسْأَلَة فَإِذا جادله مُبْطل كَانَ مستعدا لمجادلته بِمَا تقدم لَهُ من المناظرة مَعَ صَاحبه فالمناظرة فِي الْعلم نَوْعَانِ أَحدهمَا للتمرين والتدرب على إِقَامَة الْحجَج وَدفع الشُّبُهَات وَالثَّانِي لنصر الْحق وَكسر الْبَاطِل وَالْأول يشبه السباق والنضال وَالثَّانِي يشبه الْجِهَاد وقتال الْكفَّار قَالَ الله تَعَالَى {وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء} [الْأَنْعَام: 83]

قَالَ مَالك

ص: 185

قَالَ زيد بن اسْلَمْ بِالْعلمِ فَعلم الْحجَّة يرفع دَرَجَة صَاحبه فَإِن الْعلم بالحجج وَالْقُوَّة على الْجِهَاد مِمَّا رفع الله بِهِ دَرَجَات الْأَنْبِيَاء وأتباعهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {يرفع الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَالَّذين أُوتُوا الْعلم دَرَجَات} [المجادلة: 11] وَقَالَ تَعَالَى {وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أولي الْأَيْدِي والأبصار} [ص: 45] فالأيدي القوى الَّتِي يقدرُونَ بهَا على إِظْهَار الْحق وَأمر الله وإعلاء كَلمته وَجِهَاد أعدائه والأبصار البصائر فِي دينه وَلِهَذَا يُسَمِّي الله سُبْحَانَهُ الْحجَّة سُلْطَانا

قَالَ ابْن عَبَّاس

كل سُلْطَان فِي الْقُرْآن فَهُوَ الْحجَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {أم لكم سُلْطَان مُبين فَأتوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنْتُم صَادِقين} [الصافات: 156] وَقَالَ تَعَالَى {إِن هِيَ إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان} [النَّجْم: 23] وَقَالَ تَعَالَى {أم أنزلنَا عَلَيْهِم سُلْطَانا فَهُوَ يتَكَلَّم بِمَا كَانُوا بِهِ يشركُونَ} [الرّوم: 35]

وَهَذَا لِأَن الْحجَّة تسلط صَاحبهَا على خَصمه فَصَاحب الْحجَّة لَهُ سُلْطَان وقدرة على خَصمه وَإِن كَانَ عَاجِزا عَنهُ بِيَدِهِ

وَهَذَا هُوَ أحد أَقسَام النُّصْرَة الَّتِي ينصر الله بهَا رسله وَالْمُؤمنِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ تَعَالَى

ص: 186

{إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} [غَافِر: 51]

أَقسَام الْجِهَاد

فَإِذا كَانَت الْمُسَابقَة شرعت ليتعلم الْمُؤمن الْقِتَال ويتعوده ويتمرن عَلَيْهِ فَمن الْمَعْلُوم أَن الْمُجَاهِد قد يقْصد دفع الْعَدو إِذا كَانَ الْمُجَاهِد مَطْلُوبا والعدو طَالبا وَقد يقْصد الظفر بالعدو ابْتِدَاء إِذا كَانَ طَالبا والعدو مَطْلُوبا وَقد يقْصد كلا الْأَمريْنِ والأقسام ثَلَاثَة يُؤمر الْمُؤمن فِيهَا بِالْجِهَادِ

وَجِهَاد الدّفع أصعب من جِهَاد الطّلب فَإِن جِهَاد الدّفع يشبه بَاب دفع الصَّائِل وَلِهَذَا أُبِيح للمظلوم أَن يدْفع عَن نَفسه

كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {أذن للَّذين يُقَاتلُون بِأَنَّهُم ظلمُوا} [الْحَج: 39] وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من قتل دون مَاله فَهُوَ شَهِيد وَمن قتل دون دَمه فَهُوَ شَهِيد

ص: 187

لِأَن دفع الصَّائِل على الدّين جِهَاد وقربة وَدفع الصَّائِل على المَال وَالنَّفس مُبَاح ورخصة فَإِن قتل فِيهِ فَهُوَ شَهِيد

فقتال الدّفع أوسع من قتال الطّلب وأعم وجوبا وَلِهَذَا يتَعَيَّن على كل أحد يقم ويجاهد فِيهِ العَبْد بِإِذن سَيّده وَبِدُون إِذْنه وَالْولد بِدُونِ إِذن أَبَوَيْهِ والغريم بِغَيْر إِذن غَرِيمه وَهَذَا كجهاد الْمُسلمين يَوْم أحد وَالْخَنْدَق

وَلَا يشْتَرط فِي هَذَا النَّوْع من الْجِهَاد أَن يكون الْعَدو ضعْفي الْمُسلمين فَمَا دون فَإِنَّهُم كَانُوا يَوْم أحد وَالْخَنْدَق أَضْعَاف الْمُسلمين فَكَانَ الْجِهَاد وَاجِبا عَلَيْهِم لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ جِهَاد ضَرُورَة وَدفع لَا جِهَاد اخْتِيَار وَلِهَذَا تُبَاح فِيهِ صَلَاة الْخَوْف بِحَسب الْحَال فِي هَذَا النَّوْع وَهل تُبَاح فِي جِهَاد الطّلب إِذا خَافَ فَوت الْعَدو وَلم يخف كرته فِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء هما رِوَايَتَانِ عَن الإِمَام أَحْمد

وَمَعْلُوم أَن الْجِهَاد الَّذِي يكون فِيهِ الْإِنْسَان طَالبا مَطْلُوبا أوجب من هَذَا الْجِهَاد الَّذِي هُوَ فِيهِ طَالب لَا مَطْلُوب والنفوس فِيهِ أَرغب من الْوَجْهَيْنِ

وَأما جِهَاد الطّلب الْخَالِص فَلَا يرغب فِيهِ إِلَّا أحد رجلَيْنِ إِمَّا عَظِيم الْإِيمَان يُقَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا وَيكون الدّين كُله لله

ص: 188

وَإِمَّا رَاغِب فِي الْمغنم والسبي

فجهاد الدّفع يَقْصِدهُ كل أحد وَلَا يرغب عَنهُ إِلَّا الجبان المذموم شرعا وعقلا وَجِهَاد الطّلب الْخَالِص لله يَقْصِدهُ سَادَات الْمُؤمنِينَ وَأما الْجِهَاد الَّذِي يكون فِيهِ طَالبا مَطْلُوبا فَهَذَا يَقْصِدهُ خِيَار النَّاس لإعلاء كلمة الله وَدينه ويقصده أوساطهم للدَّفْع ولمحبة الظفر

فصل

فَإِذا تبين هَذَا فِي الغايات وَهِي الْجِهَاد فَمثله فِي الْوَسَائِل وَهِي الْمُسَابقَة والمناضلة فَإِنَّهُ من الْمَعْلُوم أَنه إِذا كَانَ الرَّهْن من أحد الْجَانِبَيْنِ كَانَ غَايَة مَقْصُود باذله أَن يسلم فَيكون حرصه من بَاب حرص الدَّافِع لَا الطَّالِب فَإِنَّهُ لَا يحصل هَل من الآخر شَيْء ومقصود الآخر من جنس مَقْصُود الطَّالِب فجهاد الأول جِهَاد دفع وَجِهَاد هَذَا جِهَاد طلب

وَإِذا كَانَ الرَّهْن من كل وَاحِد مِنْهُمَا صَار سباق كل وَاحِد سباق طَالب مَطْلُوب وَهُوَ نَظِير جِهَاد الطَّالِب للمطلوب فَتكون الرَّغْبَة والحرص على السَّبق أقوى لِاجْتِمَاع السببين بِخِلَاف سباق الْمَطْلُوب فَقَط أَو الطَّالِب فَقَط

فَكيف يحرم هَذَا الَّذِي هُوَ من أعظم الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة لمصْلحَة الْمُسَابقَة وَيُبَاح مَا هُوَ دونه فِي تَحْصِيل هَذِه الْمصلحَة

فليتدبر الْمنصف هَذَا ثمَّ إِلَى إنصافه التحاكم وَإِلَى عدله التخاصم وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

ص: 189

تَفْسِير قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا جلب وَلَا جنب فِي الرِّهَان قَالُوا وَأَيْضًا فمبنى هَذَا العقد على اسْتِوَاء الحزبين فَلَا يجوز أَن يقوى أَحدهمَا على الآخر لما فِيهِ من مزِيد إِعَانَة لَهُ على الحزب الآخر وَلِهَذَا نهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الجلب وَالْجنب فِي السباق فالجلب أَن يَصِيح بفرسه فِي وَقت السباق هُوَ أَو غَيره ويزجره زجرا يزِيد مَعَه فِي شأوه وَإِنَّمَا الْعدْل أَن يركضا بتحريك اللجام والاستحثاث وبالسوط والمهماز وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا من غير إجلاب بالصوت هَذَا تَفْسِير الْأَكْثَرين وَقيل هُوَ أَن يجْتَمع قوم فيصطفوا وقوفا من الْجَانِبَيْنِ ويزجروا الْخَيل ويصيحوا بهَا فنهوا عَن ذَلِك والْحَدِيث يعم الْقسمَيْنِ

وَأما الْجنب فَفِيهِ تفسيران أَحدهمَا وَهُوَ تَفْسِير أَكثر الْفُقَهَاء أَن يجنب المسابق مَعَ فرسه فرسا يحرضه على الجري قَالَ أَحْمد بن أبي طَاهِر (وَإِذا تكاثر فِي الكتيبة أَهلهَا

كنت الَّذِي ينشق عَنهُ الموكب)

ص: 190

(وأتيت تقدم من تقدم مِنْهُم

وورا ورائك قد أَتَى من يجنب) وَالتَّفْسِير الثَّانِي أَنهم كَانُوا يجنبون الْفرس حَتَّى إِذا قاربوا الأمد تحولوا عَن المركوب الَّذِي قد كده الرّكُوب إِلَى الْفرس المجنوب فَأبْطل النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَاك ذكره الْخطابِيّ وَغَيره

وَفِي موطأ القعْنبِي سُئِلَ مَالك عَن قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا جلب وَلَا جنب مَا تَفْسِير ذَلِك فَقَالَ بَلغنِي ذَلِك وَتَفْسِيره أَن يجلب وَرَاء الْفرس حَتَّى يدنو من الأمد ويحرك وَرَاءه الشئ يستحث بِهِ ليسبق فَذَلِك الجلب وَالْجنب أَن يجنب مَعَ الْفرس الَّذِي يسابق بِهِ فرسا آخر حَتَّى إِذا دنا تحول رَاكِبه على الْفرس المجنوب

وَالْمَقْصُود أَنه نهى عَن تَقْوِيَة أحد الحزبين بِمَا يكون فِيهِ مزِيد إِعَانَة لَهُ على الآخر لما فِيهِ من الظُّلم فَإِذا كَانَ الْإِخْرَاج من أَحدهمَا كَانَ فِيهِ تَقْوِيَة للمبذول لَهُ دون الْبَاذِل وَهَذَا مَأْخَذ من لم يجوز الْبَذْل إِلَّا من أَجْنَبِي فَإِذا إِذا كَانَ الْإِخْرَاج مِنْهُمَا لم يكن فِي ذَلِك تَقْوِيَة لأَحَدهمَا على الآخر فَهُوَ أولى بِالْجَوَازِ قَالُوا وَأَيْضًا وَالْأَجْنَبِيّ إِذا بذل الْجعل لأَحَدهمَا إِن غلب وَلم

ص: 191

يبذله للْآخر إِن غلب لم يجز ذَلِك لما فِيهِ من الظُّلم فَإِن الآخر يَقُول إِن سبقت لم آخذ شَيْئا وخصمي إِن سبق أَخذ وَهَذَا بِعَيْنِه مَوْجُود فِيمَا إِذا كَانَ الْبَذْل من أَحدهمَا فَإِن الْبَاذِل يَقُول إِن سبقت لم آخذ وقريني إِن سبق أَخذ وَذَلِكَ يضعف همته وَهَذَا مَأْخَذ من منع من فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة هَذِه الصُّورَة وَأما إِذا بذله الْأَجْنَبِيّ لمن سبق مِنْهُمَا تَسَاويا فِي الْعَمَل والاستحقاق وَلِهَذَا اتّفق النَّاس على جَوَاز هَذِه الصُّورَة وَإِذا عرف هَذَا فَهُوَ نَظِير إخراجهما مَعًا فَكيف يكون إِخْرَاج السَّبق من أَحدهمَا أولى من إِخْرَاجه مِنْهُمَا بلَى إِذا امْتنع إِخْرَاج السَّبق من أَحدهمَا كَانَ أولى بِالْعَدْلِ من منع إِخْرَاج السَّبق مِنْهُمَا فَإِذا جوزتم إِخْرَاج السَّبق من أَحدهمَا فإخراجه مِنْهُمَا أولى بِالْجَوَازِ ونكتة الْمَسْأَلَة أَن الْإِخْرَاج مِنْهُمَا أقرب إِلَى الْعدْل ومقصود العقد وَطيب نفس كل وَاحِد مِنْهُمَا وحرصه على الغلب مِمَّا إِذا كَانَ الْإِخْرَاج من أَحدهمَا وَالْوَاقِع شَاهد بذلك

الْمَقْصُود من السباق وَبَيَان أَن اشْتِرَاط الْمُحَلّل يناقضه قَالُوا وَأَيْضًا فالسباق إِنَّمَا يقْصد مِنْهُ التَّعْلِيم والتدريب والتمرين على الفروسية وَالرَّمْي وَلَيْسَ الْمَقْصُود من أكل المَال كَمَا يقْصد فِي البيع وَالْإِجَارَة والجعالة فَإِنَّهُ هُنَاكَ لَا قصد لأَحَدهمَا إِلَّا المَال وَهنا مَقْصُود

ص: 192

الشَّارِع بشرع هَذَا العقد الْعَمَل لَا المَال وَإِنَّمَا شرع فِيهِ المَال لِأَنَّهُ أبلغ فِي ترغيب النُّفُوس فِيهِ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ الْبَاعِث على السباق الظفر بِالْمَالِ وَالْغَلَبَة قويت فِيهِ الرَّغْبَة وَالْمَال لَا يُؤْكَل فِي هَذَا العقد إِلَّا على وَجه المخاطرة وَمَعْلُوم أَن حُصُول هَذَا الْمَقْصُود بِدُونِ الْمُحَلّل أعظم مِنْهُ إِذا كَانَ بَينهمَا وَأَن المخاطرة مَعَ الْمُحَلّل كالمخاطرة بِدُونِهِ سَوَاء أَو أَزِيد وَهَذَا ضَرُورِيّ التَّصَوُّر وَهُوَ مِمَّا لَا يستراب فِيهِ فالمحلل دائر بَين أَمريْن إِمَّا أَنه لَا فَائِدَة مِنْهُ وَإِمَّا أَن مصلحَة السباق بِدُونِهِ أتم وَأيهمَا كَانَ فَهُوَ مُسْتَلْزم لبُطْلَان اشْتِرَاطه قَالُوا وَأَيْضًا إِذا كَانَ الْجعل من أحد المتسابقين فمقصوده منع الآخر من أَخذ الْجعل وَدفعه عَنهُ كَأَنَّهُ يَقُول أَنْت لَا تقدر على أَن تغلبني وَأَنا أبين عجزك بِأَن أبذل لَك جعلا لأقوي رهبتك ورغبتك فِي أَن تغلبني وَأَنت مَعَ ذَلِك عَاجز وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان يتْرك الشئ إِمَّا لعَجزه عَنهُ وَإِمَّا لعدم إِرَادَته لَهُ فَمَتَى كَانَ مرِيدا لَهُ إِرَادَة تَامَّة وقادرا عَلَيْهِ قدرَة تَامَّة لزم وجوده قطعا فالقادر على أَن يغلب غَيره قد يُرِيد ذَلِك لمُجَرّد محبَّة النَّفس لإِظْهَار الْقُدْرَة وَالْغَلَبَة وَقد يُرِيد ذَلِك لأخذ المَال فَإِذا اجْتمع الْأَمْرَانِ كَانَت إِرَادَته أبلغ كَمَا تقدم بَيَانه فالجاعل يَقُول أَنا أبين أَنَّك عَاجز لِأَنِّي أبذل المَال الَّذِي أحرك بِهِ رغبتك فِي الْقلب مَعَ مَا فِي النَّفس من محبَّة ذَلِك فَأَنت مَعَ كَمَال رغبتك عَاجز عني وَعَن مغالبتي فَأَنا أقدر مِنْك على هَذَا الْعَمَل هَذَا مَقْصُوده قطعا لَيْسَ مَقْصُوده أَن يبْذل الْجعل لمن يغلبه وَيَأْخُذ

ص: 193

مَاله فَإِن عَاقِلا لَا يقْصد هَذَا بل يقْصد منع الآخر وَدفعه وتعجيزه فَلهَذَا الْبَذْل من أَحدهمَا جَائِز لهَذَا الْمَعْنى فَلِأَن يجوز مِنْهُمَا بطرِيق الأولى والأحرى لِأَن حُصُول هَذَا الْمَعْنى مَعَ اشتراكهما فِي الْبَذْل أقوى مِنْهُ عِنْد انْفِرَاد أَحدهمَا بِهِ

مفاسد اشْتِرَاط دُخُول الْمُحَلّل بَين المتسابقين قَالُوا وَأَيْضًا فَإِن كَانَ أكل المَال إِذا أخرجَا مَعًا قمارا حَرَامًا فالمحلل أكد أَمر هَذَا الْقمَار وَقواهُ وثبته فَلم يخرج بِهِ هَذَا العقد عَن الْقمَار لَا صُورَة وَلَا معنى وَلَا يظْهر للنَّاظِر بعد طول تَأمله وَنَظره لأي معنى خرج بِهِ العقد عَن كَونه أكل مَال بِالْبَاطِلِ وانقلب بِهِ العقد عَن كَونه عقد قمار وميسر إِلَى كَونه عقد جعَالَة أَو إِجَارَة فاستحالت بِهِ خمرة هَذَا العقد خلا وَصَارَ بِهِ حرَامه حلا وَهل فرقت الشَّرِيعَة العادلة بَين متماثلين من غير معنى فرق بَينهمَا أَو جمعت بَين متضادتين وَهل حرمت عملا لِمَعْنى ثمَّ تبيحه مَعَ قيام ذَلِك الْمَعْنى بِعَيْنِه أَو زِيَادَته من غير تعارضه مصلحَة راجحة وَهل زَاد الْمُسْتَعَار الدخيل هَذَا العقد إِلَّا شرا فَإِنَّهُ زَاده مخاطرة وَاقْتضى نفرة طباع المتسابقين عَنهُ وَأكله مَالهمَا وَعدم إطعامهما شَيْئا وَهُوَ المراعى جَانِبه المنظور فِي مصْلحَته وَهُوَ إِمَّا سَالم وَإِمَّا غَانِم يغلب فَيسلم ويغلب فيغنم وَالَّذِي قد أخرج مَاله لصيق كبده وشقيق روحه يغلب فَيغرم ويغلب صَاحبه فَلَا يَدعه الْمُحَلّل يفرح بغلبه بل يشاطره

ص: 194

المَال إِن ساواه فِي سبق الآخر ويحرمه إِيَّاه بِالْكُلِّيَّةِ إِن سبقه فَسبق خَصمه وَغرم مَاله فَلم يستفد بسبق قرنه إِلَّا خسارة مَاله وَكَانَ هَذَا من بركَة الْمُحَلّل فلولاه لقرت عينه بسبقه وفرحت بِهِ نَفسه وقويت رغبته فِي هَذِه الْمُسَابقَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله هَكَذَا حَال قرنه أَيْضا مَعَه فالباذلان المتسابقان لَهما غرم هَذَا العقد وللمستعار غنمه وَهُوَ بَارِد الْقلب مِنْهُمَا وهما يعضان عَلَيْهِ الأنامل من الغيظ وَهُوَ فِي هَذَا العقد إِمَّا منتفع وَإِمَّا سَالم من الضَّرَر مَعَ كَونه لم يخرج شَيْئا وكل مِنْهُمَا إِمَّا منتفع وَإِمَّا متضرر وَإِن انْتفع فَهُوَ بصدد أَن ينغص عَلَيْهِ الْمُحَلّل منفعَته هَذَا مَعَ بذلهما فألحقتم بالباذلين من الشَّرّ وَالضَّرَر والغبن مَا نجيتم مِنْهُ الْمُسْتَعَار الَّذِي هُوَ دخيل عَلَيْهِمَا فِي الْمُسَابقَة وَلَيْسَ مَقْصُودا مَعَ أَنه لم يبْذل شَيْئا قَالُوا وَهل تَأتي شَرِيعَة بِمثل هَذَا وَهل فِي الشَّرِيعَة الَّتِي بهرت حكمتها الْعُقُول مثل هَذَا وَهل فِيهَا رِعَايَة جَانب التَّابِع الْمُسْتَعَار الَّذِي هُوَ حرف جَاءَ لِمَعْنى فِي غَيره وَهُوَ فضلَة فِي الْإِسْنَاد وإلغاء جَانب الْمَقْصُود الَّذِي هُوَ ركن فِي الْإِسْنَاد وَهُوَ الَّذِي حضه النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الرّكُوب وَالرَّمْي قَالُوا وَفِي هَذَا نَوْعَانِ من الْفساد أَحدهمَا الْخُرُوج عَن مُوجب الْإِنْصَاف الَّذِي هُوَ لَازم ملزوم الشَّرِيعَة الْكَامِلَة دائر مَعهَا فَإِن مدارها على الْعدْل بِكُل مُمكن قَالَ الله تَعَالَى {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ}

ص: 195

) الْحَدِيد 25 وَقَالَ الله تَعَالَى لنَبيه صلى الله عليه وسلم {وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم} الشورى 15 الثَّانِي أَن يَجْعَل الْمُطِيع لله وَرَسُوله الرَّاغِب فِيمَا رغب فِيهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّذِي يُرِيد الرَّمْي وَالرُّكُوب للاستعانة على الْجِهَاد فِي سَبِيل ويبذل الْجعل ليَكُون ذَلِك أعظم للرغبة وَأَشد تحريضا للنفوس على مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله أَسْوَأ حَالا من هَذَا الْمُسْتَعَار الَّذِي هُوَ دخيل بل هَذَا الدخيل مراعى جَانِبه مَنْظُور فِي مصْلحَته موفر نصِيبه من الْأَمْن مُحصن فِي برج السَّلامَة مسلوك بِهِ طَرِيق الْأَمْن مكمل فرحه بالسلامة وَالظفر والباذلان المقصودان بمعزل عَن ذَلِك قَالُوا وَأَيْضًا فبدخول الْمُحَلّل لم يخرج العقد عَن كَون الْجعل فِيهِ من اثْنَيْنِ بل الْجعل مِنْهُمَا بِحَالهِ وَإِنَّمَا استفدنا جِهَة أُخْرَى لمصرفه فَكَانَ الْخطر أَن يصرفان إِلَى هَذَا وَحده على تَقْدِير وَإِلَى هَذَا وَحده على تَقْدِير وَإِلَى كل مِنْهُمَا جعله على تَقْدِير فاستفدنا بِدُخُولِهِ ثَلَاث تقديرات أخر صرف الرهنين إِلَيْهِ وَحده وَإِلَيْهِ وَإِلَى هَذَا وَحده وَإِلَيْهِ وَإِلَى الآخر فَلم نستفد بِدُخُولِهِ إِلَّا تعدد الْجِهَات الَّتِي يصرف فِيهَا الْجعل لَيْسَ إِلَّا فَلم يخرج بِهِ العقد من كَونه عقدا أخرج مِنْهُ كَمَا ترى المتراهنان كِلَاهُمَا قَالُوا وَأَيْضًا فمشترطوا الْمُحَلّل مُخْتَلفُونَ هَل دخل ليحل فِيهِ لنَفسِهِ فَقَط أَو لَهُ وللباذلين على قَوْلَيْنِ

ص: 196

فَذهب جُمْهُور من اشْتَرَطَهُ إِلَى أَنه دخل ليحله لنَفسِهِ وَلَهُمَا وَقَالَ أَبُو عَليّ بن خيران من الشَّافِعِيَّة إِنَّمَا يحله لنَفسِهِ فَقَط وَحَكَاهُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ قولا للشَّافِعِيّ وَاخْتَارَهُ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ فِي كِتَابه على سنَن أبي دَاوُد وَقَالَ عَلَيْهِ يدل الحَدِيث ثمَّ قَالُوا فعلى هَذَا لَو سبق الْمُحَلّل وَأَحَدهمَا بِحَيْثُ جَاءَا مَعًا فَإِن قُلْنَا يحله لنَفسِهِ فَقَط استبد الْمُحَلّل بِالسَّبقِ جَمِيعه دون الآخر مَعَ تساويهما فِي السَّبق وَإِن قُلْنَا يحله لنَفسِهِ وَلَهُمَا فَإِنَّهُمَا يكونَانِ فِي السَّبق سَوَاء وَلَو

ص: 197

سبق أحد الباذلين الآخر والمحلل فعلى قَول الْجُمْهُور يسْتَحق السَّبق جَمِيعه وعَلى قَول ابْن خيران يشْتَرك هُوَ والمحلل فِي سبق الثَّالِث هَكَذَا قَالَ بعض الشَّافِعِيَّة وَالَّذِي فِي النِّهَايَة إِنَّه إِن سبق أحد الباذلين ثمَّ تبعه الْمُحَلّل وَتَأَخر الآخر أحرز السَّابِق مَال نَفسه وَفِي سبق الثَّالِث أَرْبَعَة وُجُوه أَحدهَا أَنه يحرزه صَاحبه مَعَ كَونه مَغْلُوبًا مَسْبُوقا من كل وَجه وَهَذَا بركَة الْمُحَلّل عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنه يخْتَص بِهِ السَّابِق لسبقه لَهُ وغلبه إِيَّاه وَالثَّالِث أَنه يكون بَينه وَبَين الْمُحَلّل لاشْتِرَاكهمَا فِي سبقه وَالرَّابِع أَنه يخْتَص بِهِ الْمُحَلّل لِأَنَّهُ دخل ليحل السَّبق لنَفسِهِ لَا لَهما فَإِن سبق الْمُحَلّل وَحده وَتَبعهُ الآخر وَتَأَخر الثَّالِث فَفِيهَا ثَلَاثَة أوجه أَحدهَا أَن السبقين للمحلل وَالثَّانِي سبق الثَّالِث بَين الْمُحَلّل وَالثَّانِي نِصْفَيْنِ وَالثَّالِث أَن سبق الثَّالِث للثَّانِي وَحده وَإِن سبق أَحدهمَا وَتَبعهُ الآخر ثَالِثا أحرز السَّابِق سبق نَفسه وَهل يسْتَحق سبق الثَّانِي على وَجْهَيْن مبينين على ذَلِك الأَصْل

ص: 198

الَّذِي تبين فَسَاده وَإِن سبق أَحدهمَا وساوى الآخر الْمُحَلّل خَابَ الْمُحَلّل وفاز السَّابِق بسبقه وَفِي اسْتِحْقَاقه سبق صَاحبه الْقَوْلَانِ فليتدبر اللبيب مَا فِي هَذِه الْفُرُوع من الْفساد والتناقض الدَّال على فَسَاد الأَصْل فَإِنَّهُمَا إِنَّمَا نشأت عَن اشْتِرَاط الْمُحَلّل وَهِي من لَوَازِم القَوْل بِهِ وَفَسَاد اللَّازِم يدل على فَسَاد الْمَلْزُوم وَلما تفطن بعض المشتركين لفساد هَذِه الْفُرُوع قَالَ إِن سبق الْمُحَلّل لم يَأْخُذ شَيْئا وَإِن سبق غرم ذكره بعض الْحَنَفِيَّة حَكَاهُ ابْن الساعاتي فِي شرح مجمع الْبَحْرين وَابْن بلدحي فِي شرح الْمُخْتَار فَتَأمل هَذَا التَّفَاوُت الشَّديد وَالِاخْتِلَاف المتباين فِي أَمر هَذَا لَا دخيل الْمُسْتَعَار فَإِن مَا كَانَ من عِنْد الله لَا تعرض فِيهِ وَلَا لَهُ هَذَا التَّنَاقُض الشَّديد وَالِاخْتِلَاف الْكثير {وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا} النِّسَاء 82 وزن هَذِه الْفُرُوع المتباينة والأقوال المتضادة فِيهِ بِكِتَاب الله وَسنة رَسُوله وقواعد شَرِيعَته وأصولها وَحكمهَا ومصالحها واعرضها على الدَّلِيل وَلَا تجعلها عرضة للأدلة بِحَيْثُ تعرض الْأَدِلَّة عَلَيْهَا فَلَا تجدها توافقها فَترد الْأَدِلَّة لأَجلهَا كَمَا هُوَ اعْتِمَاد كثير مِمَّن غبن حَظه من الْعلم والإنصاف وَالله ولي التَّوْفِيق

مصارعة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لركانة ورهانه على ذَلِك قَالُوا وَأَيْضًا فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد صارع وراهن على الصراع وَكَانَ ذَلِك من الْجَانِبَيْنِ وَلم يكن بَينهمَا مُحَلل بل يَسْتَحِيل دُخُول الْمُحَلّل بَين

ص: 199

المتصارعين وَنحن نذْكر قصَّة مصارعته صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو الشَّيْخ الْأَصْبَهَانِيّ حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا ثَنَا سَلمَة بن شبيب ثَنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر عَن يزِيد بن أبي زِيَاد أَحْسبهُ عَن عبد الله بن الْحَارِث قَالَ صارع النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَبَا ركَانَة فِي الْجَاهِلِيَّة وَكَانَ شَدِيدا فَقَالَ شَاة بِشَاة فصرعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو ركَانَة عاودني فِي أُخْرَى فصرعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عاودني فِي أُخْرَى فعاوده فصرعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَبُو ركَانَة مَاذَا أَقُول لأهلي شَاة أكلهَا الذِّئْب وشَاة نشزت فَمَا أَقُول للثالثة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا كُنَّا لنجمع عَلَيْك أَن نصرعك ونغرمك خُذ غنمك وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي كتاب الْمَرَاسِيل حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ بالبطحاء فَأتى عَلَيْهِ يزِيد بن ركَانَة أَو ركَانَة بن يزِيد وَمَعَهُ أعنز لَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّد هَل لَك أَن تصارعني فَقَالَ مَا تسبقني فَقَالَ شَاة من غنمي فصارعه فصرعه فَأخذ شَاة قَالَ ركَانَة فَهَل لَك فِي العودة فَقَالَ مَا تسبقني قَالَ أُخْرَى ذكر

ص: 200

ذَلِك مرَارًا فَقَالَ يَا مُحَمَّد وَالله مَا وضع أحد جَنْبي إِلَى الأَرْض وَمَا أَنْت بِالَّذِي تصرعني فَأسلم ورد عَلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم غنمه قَالَ الْبَيْهَقِيّ هَذَا مُرْسل جيد وَقد رُوِيَ بِإِسْنَاد آخر مَوْصُولا وَقَالَ أَبُو الشَّيْخ أَيْضا فِي كتاب السَّبق لَهُ ثَنَا إِبْرَاهِيم بن عَليّ ثَنَا ابْن الْمقري حَدثنَا ابْن أبي حَمَّاد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير فَذكره

ص: 201

وَهَذَا إِسْنَاد جيد مُتَّصِل وَقَالَ أَيْضا ثَنَا ابو بكر الجارودي ثَنَا إِسْمَاعِيل بن عبد الله ثَنَا مُحَمَّد بن كثير ثَنَا حَمَّاد بن سَلمَة ثَنَا عَمْرو بن دِينَار عَن سعيد بن جُبَير عَن يزِيد بن ركَانَة قَالَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بالبطحاء فَمر بِهِ ركَانَة قَالَ شَيخنَا هُوَ ركَانَة بن عبد يزِيد وَسَعِيد بن جُبَير لم يدْرك ركَانَة فَإِن ركَانَة توفّي فِي أول خلَافَة مُعَاوِيَة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَهُوَ من مسلمة الْفَتْح وقصة مصارعته للنَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعْرُوفَة عِنْد الْعلمَاء وَإِنَّمَا يُنكرُونَ مصارعة النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأبي جهل كَمَا تقدم التَّنْبِيه عَلَيْهِ وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن ركَانَة إِن ركَانَة صارع النَّبِي صلى الله عليه وسلم فصرعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ ذكر السَّبق وَلَكِن ذكره فِي حَدِيث سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس وَفِي حَدِيث عبد الله بن الْحَارِث وَهَذِه الرِّوَايَات لَا تنَاقض فِيهَا فَإِن من روى قصَّة المصارعة مِنْهُم

ص: 202

من ذكر الرَّهْن من الْجَانِبَيْنِ وَمن لم يذكر الرَّهْن لم ينفه بل سكت عَنهُ وَاقْتصر على بعض الْقِصَّة وَمن ذكر قصَّة تسبيق ركَانَة بِالشَّاة لم ينف إِخْرَاج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَيْضا بل سكت عَنهُ فَذكره عبد الله بن الْحَارِث وَلَو نفى بعض الروَاة إِخْرَاج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم للرَّهْن صَرِيحًا وأثبته الْبَقِيَّة لقدم الْمُثبت على النَّافِي كَمَا فِي نَظَائِره وَإِذا ثَبت هَذَا فَهُوَ دَلِيل على الْمُرَاهنَة من الْجَانِبَيْنِ بِلَا مُحَلل وَهُوَ نَظِير مراهنة الصّديق فَإِن كل وَاحِدَة مِنْهُمَا مراهنة على مَا فِيهِ ظُهُور الدّين فَإِن ركَانَة هَذَا كَانَ من أَشد النَّاس وَلم يعلم أَن أحدا صرعه فَلَمَّا صرعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم علم أَنه مؤيد بِقُوَّة أُخْرَى من عِنْد الله وَلِهَذَا قَالَ وَالله مَا رمى أحد جَنْبي إِلَى الأَرْض فَكَانَ لَا يغلب فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بمصارعته إِظْهَار آيَات نبوته وَمَا أيده الله بِهِ من الْقُوَّة وَالْفضل وَكَانَت المشارطة على ذَلِك كالمشارطة فِي قصَّة الصّديق لَكِن قصَّة الصّديق فِي الظُّهُور بِالْعلمِ وَهَذِه فِي الظُّهُور بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَة وَالدّين إِنَّمَا يقوم بِهَذَيْنِ الْأَمريْنِ الْعلم وَالْقُدْرَة فَكَانَت الْمُرَاهنَة عَلَيْهِمَا نَظِير الْمُرَاهنَة على الرَّمْي وَالرُّكُوب لما فيهمَا من العون على إِظْهَار الدّين وتأييده فَهِيَ مراهنة على حق وَأكل المَال بهَا أكل لَهُ بِالْحَقِّ لَكِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما كَانَ غَرَضه إعلاء الْحق وإظهاره رد عَلَيْهِ المَال وَلم يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا فَأسلم الرجل وَهَذِه الْمُرَاهنَة من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَصديقه هِيَ من الْجِهَاد الَّذِي يظْهر الله بِهِ دينه ويعزه بِهِ فَهِيَ من معنى الثَّلَاثَة المستثناة فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَلَكِن تِلْكَ الثَّلَاثَة جِنْسهَا يعد للْجِهَاد بِخِلَاف جنس الصراع فَإِنَّهُ لم يعد للْجِهَاد وَإِنَّمَا يصير مشابها للْجِهَاد إِذا تضمن نصْرَة

ص: 203

الْحق وإعلائه كصراع النَّبِي صلى الله عليه وسلم ركَانَة وَهَذَا كَمَا أَن الثَّلَاثَة المستثناة إِذا أُرِيد بهَا الْفَخر والعلو فِي الأَرْض وظلم النَّاس كَانَت مذمومة فالصراع والسباق بالأقدام وَنَحْوهمَا إِذا قصد بِهِ نصر الْإِسْلَام كَانَ طَاعَة وَكَانَ أَخذ السَّبق بِهِ حِينَئِذٍ أخذا بِالْحَقِّ لَا بِالْبَاطِلِ وَالْأَصْل فِي المَال أَن لَا يُؤْكَل إِلَّا بِالْحَقِّ لَا يُؤْكَل بباطل وَهُوَ مَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ فَحَدِيث ركَانَة هَذَا أحد طرقه صَرِيحَة فِي الرِّهَان من الْجَانِبَيْنِ من غير مُحَلل وَالطَّرِيق الْأُخْرَى لم تنف ذَلِك بل لم تكن عَادَة الْعَرَب وَغَيرهم وَإِلَى الْآن أَن يبْذل السَّبق أحد المتغالبين وَحده وَإِنَّمَا الْمَعْرُوف من عادات النَّاس التراهن من الْجَانِبَيْنِ وَقد جعل فِي طباعهم وفطرهم أَن الرَّهْن من أحد الْجَانِبَيْنِ قمار وَحرَام والنفوس تحتقر الَّذِي لم يبْذل وتزدريه وتعده بَخِيلًا شحيحا مهينا وَمِمَّا يُوضح أَن التراهن كَانَ من الْجَانِبَيْنِ فِي هَذِه الْقِصَّة أَن ركَانَة لما غَلبه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأخذ مِنْهُ شَاة طلب ركَانَة الْعود وَإِنَّمَا ذَلِك ليسترجع الشَّاة وَلم يكن لَهُ غَرَض فِي أَن يغرم شَاة أُخْرَى وثالثة وَلَو كَانَ الْبَذْل من ركَانَة وَحده لم يكن لَهُ سَبِيل لاسترجاع الشَّاة الَّتِي خرجت مِنْهُ بل إِذا غلب غرم شَاة أُخْرَى وَإِن غلب لم يفرح بِأخذ شئ فَلم يكن ليطلب الْعود إِلَى صراع هُوَ فِيهِ غَارِم وَلَا بُد وَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى استنقاذ مَا غرمه أَلْبَتَّة وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ التراهن من الْجَانِبَيْنِ كَمَا هُوَ الْوَاقِع كَانَ المغلوب على طمع من استرجاع مَا غرمه فيحرص على الْعود

ص: 204

وَالْمَقْصُود أَن الرَّهْن لَو كَانَ من جَانب وَاحِد وَهُوَ جَانب ركَانَة لم يكن لَهُ فِي الْعود بعد الْغرم فَائِدَة أصلا بل إِمَّا أَن يغرم شَاة ثَانِيَة وثالثة مَعَ الأولى وَإِمَّا أَن تَسْتَقِر الأولى للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهَذَا مِمَّا يعلم أَن ركَانَة لم يَقْصِدهُ بل وَلَا غَيره من المتغالبين وَإِنَّمَا يقْصد المغلوب بِالْعودِ استرجاع مَا خرج مِنْهُ وَغَيره مَعَه فَهَذَا الْأَثر يدل على جَوَاز الْمُرَاهنَة من الْجَانِبَيْنِ بِدُونِ مُحَلل فِي عمل يتَضَمَّن نصْرَة الْحق وَإِظْهَار أَعْلَامه وتصديق الرَّسُول صَلَاة الله وسلامة عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَاف الْعَمَل الَّذِي وجوده مَكْرُوه بغيض إِلَى الله وَرَسُوله مُتَضَمّن للصد عَن ذكره فَإِن هَذَا لَا يجوز فِيهِ مَعَ إِخْرَاج الْعِوَض وَهَذَا على أحد الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي وَأحمد ظَاهر جدا فَإِنَّهُم يجوزون الْمُسَابقَة بِالْعِوَضِ على الطُّيُور الْمعدة للْأَخْبَار الَّتِي ينْتَفع بهَا الْمُسلمُونَ

ص: 205

حَكَاهُ أَبُو الْحسن الأمدي وَصَاحب الْمُسْتَوْعب عَن بعض أَصْحَاب أَحْمد فَإِذا كَانَ أكل المَال بِهَذِهِ الْمُسَابقَة أكلا بِحَق فَأَكله بِمَا يتَضَمَّن نصْرَة الدّين وَظُهُور أَعْلَامه وآياته أولى وَأَحْرَى وعَلى هَذَا فَكل مغالبة يستعان بهَا على الْجِهَاد تجوز بِالْعِوَضِ بِخِلَاف المغالبات الَّتِي لَا ينصر الدّين بهَا كنقار الديوك ونطاح الكباش والسباحة والصناعات الْمُبَاحَة

ص: 206

الرَّد على الْقَائِلين بِأَن مراهنة أبي بكر الصّديق لكفار قُرَيْش مَنْسُوخَة قَالُوا وَنَظِير قصَّة مصارعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم لركانة قصَّة مراهنة الصّديق لكفار قُرَيْش على تَصْدِيق النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا أخبر بِهِ من غَلَبَة الرّوم لفارس وَكَانَ الرِّهَان من الْجَانِبَيْنِ كَمَا تقدم فِي أول الْكتاب سِيَاق الحَدِيث وَإِسْنَاده على شَرط الصَّحِيح وَقد صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره قَالُوا وَلَا يَصح أَن يُقَال إِن قصَّة الصّديق مَنْسُوخَة بِتَحْرِيم الْقمَار فَإِن الْقمَار حرم مَعَ تَحْرِيم الْخمر فِي آيَة وَاحِدَة وَالْخمر حرمت وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم محاصر بني النَّضِير وَكَانَ ذَلِك بعد أحد بأشهر وَأحد كَانَت فِي شَوَّال سنة ثَلَاث بِغَيْر خلاف وَالصديق لما كَانَ الْمُشْركُونَ قد أخذُوا رَهنه عَاد وراهنهم على مُدَّة أُخْرَى كَمَا تقدم فَغلبَتْ الرّوم فَارس قبل الْمدَّة المضروبة بَينهم فَأخذ أَبُو بكر رهنهم هَكَذَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي بعض طرق الحَدِيث وَهَذِه الْغَلَبَة من الرّوم لفارس كَانَت عَام الْحُدَيْبِيَة بِلَا شكّ وَمن قَالَ كَانَت عَام وقْعَة بدر فقد وهم لما ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي سُفْيَان أَن هِرقل لما أظهره الله على فَارس مَشى من حمص إِلَى إيلياء شكرا لله فوافاه كتاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بإيلياء فَطلب من هُنَاكَ من الْعَرَب فجِئ بِأبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب فَقَالَ لَهُ إِنِّي سَائِلك عَن هَذَا الرجل

ص: 207

فَذكر الحَدِيث وَفِيه فَقَالَ هَل يغدر فَقَالَ أَبُو سُفْيَان لَا وَنحن الْآن فِي أَمَان مِنْهُ فِي مُدَّة مَا نَدْرِي مَا هُوَ صانع فِيهَا يُرِيد أَبُو سُفْيَان بالمدة صلح الْحُدَيْبِيَة وَكَانَ فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ بِلَا شكّ فَعلم أَن تَحْرِيم الْقمَار سَابق على أَخذ الصّديق الرِّهَان الَّذِي رَاهن عَلَيْهِ أهل مَكَّة وَلَو كَانَ رهان الصّديق مَنْسُوخا لَكَانَ أبعد النَّاس مِنْهُ فقد روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه أَنه كَانَ لَهُ غُلَام يَأْخُذ مِنْهُ الْخراج فجَاء يَوْمًا بشئ فَأكل مِنْهُ ثمَّ ضحك غُلَامه فَقَالَ مَالك فَقَالَ أَتَدْرِي من أَيْن هَذَا قَالَ لَا قَالَ إِنِّي كنت تكهنت لإِنْسَان فِي الْجَاهِلِيَّة فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم جَاءَنِي بِمَا جعل لي فَوضع أَبُو بكر يَده فِي فِيهِ واستقاء مَا كَانَ أكل فَكيف يَأْخُذ الْقمَار الْحَرَام بعد علمه بِتَحْرِيمِهِ ونسخه هَذَا من الْمحَال الْبَين وَقد رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَمر أَبَا بكر أَن يتَصَدَّق بِمَا أَخذ من الْمُشْركين من الرِّهَان

ص: 208

وَهَذَا إِن صَحَّ لَا يضر فَإِنَّهُ الأولى والأكمل والأليق بِمنْصب الصديقية فَلَمَّا رَأَتْ هَذِه الطَّائِفَة أَنه لَا يَصح أَن تكون قصَّة الصّديق مَنْسُوخَة بِتَحْرِيم الْقمَار قَالَت هِيَ مَنْسُوخَة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل قَالُوا وَأَبُو هُرَيْرَة أسلم عَام خَيْبَر سنة سبع وَهَذَا بعد تَحْرِيم الْقمَار وَالْخمر بِلَا شكّ فَيكون حَدِيثه نَاسِخا لمراهنة الصّديق قَالَ الْآخرُونَ أَبُو هُرَيْرَة لم يقل سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَجَائِز أَن يكون أرْسلهُ عَن بعض الصَّحَابَة كَمَا فِي عَامَّة حَدِيثه فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِذا وقف يَقُول حَدثنِي فلَان وَيذكر من حَدثهُ من الصَّحَابَة وعَلى تَقْدِير أَن يكون سَمعه من النَّبِي صلى الله عليه وسلم فغايته أَنه لفظ عَام ومراهنة الصّديق وَاقعَة خَاصَّة وَالْخَاص مقدم على الْعَام تقدم أَو تَأَخّر عِنْد الْجُمْهُور وَقيل إِنَّه إِجْمَاع الصَّحَابَة كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ أقرّ أهل خَيْبَر على أَن يعملوها وَالثَّمَرَة بَينهم وَبَينه ثمَّ أوصى

ص: 209

عِنْد وَفَاته أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من جَزِيرَة الْعَرَب وَلَا خلاف أَن خَيْبَر من جَزِيرَة الْعَرَب فَعمل الخليفتان الراشدان بالخاص الْمُتَقَدّم وَقَدمَاهُ على الْعَام الْمُتَأَخر وَأقر أهل خَيْبَر فِيهَا إِلَى أَن أَحْدَثُوا فِي زمن عمر رضي الله عنه مَا أَحْدَثُوا وَعلم فأجلاهم إِلَى الشَّام قَالُوا وَهَذَا للحنفية ألزم فَإِنَّهُم يرَوْنَ الْمُرَاهنَة على مثل مَا رَاهن عَلَيْهِ الصّديق من الْغَلَبَة فِي مسَائِل الْعلم وَعِنْدهم أَن الْعَام الْمُتَأَخر ينْسَخ الْخَاص الْمُتَقَدّم وَلم ينسخوا قصَّة الصّديق الْمُتَقَدّمَة الْخَاصَّة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة الْعَام الْمُتَأَخر وَهُوَ قَوْله لَا سبق إِلَّا فِي خف أَو حافر أَو نصل وعَلى هَذَا فقد يُقَال قصَّة مراهنة الصّديق لم تدخل فِي حَدِيث

ص: 210