الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَفِيه وَجه آخر أَنه لكل وَاحِد من السَّابِقين عشرَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم سَابق فَيسْتَحق الْجعل بِكَمَالِهِ كَمَا لَو قَالَ من رد عبدا لي فَلهُ عشرَة فَرد كل وَاحِد عبدا بِخِلَاف مَا لَو قَالَ من رد عَبدِي فَلهُ عشرَة فَرده تِسْعَة لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم لم يردهُ وَإِنَّمَا حصل رده بالستعة وَنَظِير هَذَا لَو قَالَ من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه فَإِن قتل كل وَاحِد وَاحِدًا فَلهُ سلب قتيله كَامِلا وَإِن قتل الْجَمَاعَة وَاحِدًا فلجميعهم سلب وَاحِد وَهَاهُنَا كل وَاحِد لَهُ سبق مُفْرد فَكَانَ لَهُ الْجعل كَامِلا
فعلى هَذَا لَو قَالَ من سبق فَلهُ عشرَة وَمن صلى فَلهُ خَمْسَة فَسبق خَمْسَة وَصلى خَمْسَة فعلى الْوَجْه الأول للسابقين عشرَة لكل وَاحِد مِنْهُم دِرْهَمَانِ وللمصلين خَمْسَة لكل وَاحِد مِنْهُم دِرْهَم وعَلى الْوَجْه الثَّانِي لكل وَاحِد من السَّابِقين عشرَة فَيكون لَهُم خَمْسُونَ وَلكُل وَاحِد من الْمُصَلِّين خَمْسَة فَيكون لَهُم خَمْسَة وَعِشْرُونَ
وَمن قَالَ بِالْوَجْهِ الأول فَقَالَ صَاحب الْمُغنِي يحْتَمل على قَوْله أَن لَا يَصح العقد على هَذَا الْوَجْه لِأَنَّهُ يحْتَمل إِن سبق تِسْعَة فَيكون لَهُم عشرَة لكل وَاحِد مِنْهُم دِرْهَم وتسع وَيُصلي وَاحِد فَيكون لَهُ خَمْسَة فَيصير للْمُصَلِّي من الْجعل أَكثر مَا للسابق فَيفوت الْمَقْصُود
فصل
فَإِن شرطا أَن السَّابِق يطعم السَّبق أَصْحَابه أَو غَيرهم لم يَصح
الشَّرْط وَلَا العقد عِنْد الشَّافِعِي وَيفْسد الشَّرْط وَحده عِنْد أبي حنيفَة وَمذهب أَحْمد فَسَاد الشَّرْط قولا وَاحِدًا وَلَهُم فِي فَسَاد العقد وَجْهَان
وَوجه بطلَان الشَّرْط أَنه عوض على عمل فَإِذا شَرط أَن يسْتَحقّهُ غير الْعَامِل بَطل
وَمن أفسد العقد قَالَ لم يرض بِهِ المتعاقدان إِلَّا على هَذَا الشَّرْط وَعَلِيهِ عقدا فَإِذا فسد الشَّرْط لم يكن العقد بدنه معقودا عَلَيْهِ فَلَا يلزمان بِهِ وَهَذَا قِيَاس الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات
وَمن صَححهُ قَالَ لما لم يتَوَقَّف صِحَة هَذَا العقد على تَسْمِيَة جعل بل يجوز عقده بِغَيْر جعل لم يفْسد بِفساد الشَّرْط كَالنِّكَاحِ
وَالصَّحِيح أَنا نثبت لَهما الْخِيَار بِفَوَات هَذَا الشَّرْط الْفَاسِد فَإِن أحبا أمضياه وَإِن أحبا فسخاه كَمَا نقُول فِي الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي البيع
وَهَذَا أعدل الْأَقْوَال فَإِن فِي إلزامهما بِمَا لم يلتزماه وَلَا ألزمهما بِهِ الشَّارِع مُخَالفَة أصُول الشَّرْع وَفِي إِبْطَاله عَلَيْهِمَا ضَرَر إِذْ قد يكون لَهما
غَرَض فِي تتميمه وَهُوَ جَائِز الْإِتْمَام فَلَا يمنعان من ذَلِك
فصل
فِي الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي هَذَا العقد
قَالَ القَاضِي
الشُّرُوط الْفَاسِدَة فِي الْمُسَابقَة تَنْقَسِم قسمَيْنِ أَحدهمَا مَا يخل بِشُرُوط صِحَة العقد نَحْو أَن يعود بِجَهَالَة الْغَرَض أَو الْمسَافَة وَنَحْوهمَا فَيفْسد العقد لِأَنَّهُ لَا يَصح مَعَ فَوَات شَرطه وَالثَّانِي مَا لَا يخل بِشُرُوط صِحَّته نَحْو أَن يشْتَرط أَن يطعم السَّبق أَصْحَابه أَو غَيرهم أَو يشْتَرط أَنه إِذا نضل لَا يَرْمِي أبدا أَو لَا يَرْمِي شهرا أَو يشترطا أَن لكل وَاحِد مِنْهُمَا أَو لأَحَدهمَا فسخ العقد مَتى شَاءَ بعد الشُّرُوع فِي الْعَمَل وَأَشْبَاه هَذَا
فَهَذِهِ شُرُوط بَاطِلَة فِي نَفسهَا وَفِي العقد المقترن بهَا وَجْهَان أَحدهمَا صِحَّته لِأَن العقد تمّ بأركانه وشروطه فَإِذا انحذف الزَّائِد الْفَاسِد بَقِي العقد صَحِيحا وَالثَّانِي يبطل لِأَنَّهُ بذل الْعِوَض لهَذَا الْغَرَض فَإِذا لم يحصل
غَرَضه لم يلْزمه عوضه وكل مَوضِع فَسدتْ فِيهِ الْمُسَابقَة فَإِن كَانَ السَّابِق هُوَ الْمخْرج أمسك سبقه وَإِن كَانَ الآخر هُوَ السَّابِق فَلهُ أجر عمله لِأَنَّهُ عمل بعوض لم يسلم لَهُ فَاسْتحقَّ أُجْرَة الْمثل كَالْإِجَارَةِ الْفَاسِدَة
قلت وَفِي هَذَا نظر لَا يخفى فَإِن السَّابِق لم يعْمل للباذل شَيْئا ونفع عمله إِنَّمَا يعود إِلَيْهِ نَفسه لَا إِلَى الْبَاذِل فالباذل لم يسْتَوْف مَنَافِعه فَلَا يلْزمه عوض عمله
وَقد تقدم أَن هَذَا العقد لَيْسَ من بَاب الْإِجَارَات وَلَا الجعالات وَذكرنَا الفروق الْكَثِيرَة بَينه وَبَينهَا وَلَا يَصح إِلْحَاقه بهما
وَلَا يُقَال هَذَا كمن جعل لغيره جعل على أَن يعْمل عملا لغير الْجَاعِل كخياطة ثوب زيد ويناء دَاره فَإِن الْعلم أَيْضا عَاد إِلَى غير الْعَامِل
فَإِن قيل كل عقد يلْزمه الْمُسَمّى فِي صَحِيحه يلْزمه عوض الْمثل فِي فَاسِدَة كَالْبيع والإجارات وَالنِّكَاح قيل هَذَا عقد صَحِيح فِي عُقُود الْمُعَاوَضَات والمشاركات وَلَيْسَ هَذَا العقد وَاحِد مِنْهُمَا بل هُوَ عقد مُسْتَقل بِرَأْسِهِ كَمَا تقدم تَقْرِيره فَإِذا لم يحصل للباذل غَرَضه الَّذِي بذل المَال لآجله فَبِأَي طَرِيق يلْزمه الْعِوَض وَهُوَ لم يلْتَزم بذله إِلَّا على وَجه مَخْصُوص وَلَيْسَ هُنَاكَ عوض اسْتَوْفَاهُ فنغرمه بذله وَالله أعلم
فصل
فِي أَقسَام المناضلة
المناضلة اسْم للمسابقة بِالرَّمْي بالنشاب وَهِي مصدر ناضلته نضالا ومناضلة
وَسمي الرَّمْي مناضلة ونضالا لِأَن السهْم التَّام بريشه وقدحه ونصله يُسمى نضلا بالضاد الْمُعْجَمَة وَعوده قدحا وحديدته نصلا بالصَّاد الْمُهْملَة
وَهِي قِسْمَانِ مناضلة على الْإِصَابَة ومناضلة على الْبعد
وَقد تقدم الْخلاف فِي مناضلة الْبعد
أَقسَام مناضلة الْإِصَابَة
ومناضلة الْإِصَابَة ثَلَاثَة أَقسَام (النَّوْع الأول من مناضلة الْإِصَابَة) أَحدهَا تسمى الْمُبَادرَة وَهِي أَن يَقُولَا من سبق إِلَى خمس إصابات من عشْرين رمية فَهُوَ السَّابِق فَأَيّهمَا سبق إِلَيْهَا مَعَ تساويهما فِي الرَّمْي فقد سبق
فَإِذا رميا عشرَة وَأصَاب أَحدهمَا خمْسا وَالْآخر دونهَا فالمصيب
خمْسا هُوَ السَّابِق لِأَنَّهُ قد سبق إِلَى خمس وَسَوَاء اصاب الآخر اربعا أَو دونهَا أَو لم يصب شيسئا لَا حَاجَة إِلَى إتْمَام الرَّمْي لِأَن السَّبق قد حصل بسبقه إِلَى مَا شرطا السَّبق إِلَيْهِ
فَإِن أصَاب كل مِنْهُمَا من الْعشْر خمْسا فَلَا سَابق فيهمَا وَلَا يكملان عدد الرَّمْي لِأَن جَمِيع الْإِصَابَة الْمَشْرُوطَة قد حصلت واستويا فِيهَا
فَإِن رمى أحدى عشرا فَأصَاب خمْسا وَرمى الآخر تسعا فَأصَاب أَرْبعا لم يحكم بِالسَّبقِ وَلَا بِعَدَمِهِ حَتَّى يَرْمِي الْعَاشِر فَإِن أصَاب بِهِ فَلَا سَابق فِيهَا وَإِن أَخطَأ بِهِ فقد سبق الأول
فَإِن لم يكن اصاب من التِّسْعَة إِلَّا ثَلَاثًا فقد سبق الأول وَلَا يحْتَاج إِلَى رمي الْعَاشِر لِأَن أَكثر مَا يحْتَملهُ أَن يُصِيب بِهِ وَذَلِكَ لَا يُخرجهُ عَن أَن يكون مَسْبُوقا
هَذَا مَذْهَب أَحْمد وَالشَّافِعِيّ فِي أحد الْوَجْهَيْنِ لأَصْحَابه
وَلَهُم وَجه ثَان أَنه يلْزمه إتْمَام الرَّمْي وَإِن تحقق أَنه مَسْبُوق وعللوه بِأَنَّهُ قد يكون للْآخر فِي غَرَض صَحِيح وَهُوَ أَن يتَعَلَّم من رميه
قَالُوا فَإِن أجبنا إِتْمَامه لم يقف اسْتِحْقَاق السَّبق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قد اسْتحق بِإِصَابَة مَا جعلت إِصَابَته مُوجبَة الِاسْتِحْقَاق
فَلَو أصَاب أَحدهمَا عشرَة من خمسين وَأصَاب الآخر تِسْعَة من تِسْعَة وَأَرْبَعين والرشق خَمْسُونَ خَمْسُونَ كمل الْعدَد الْخمسين وَإِن ندرت إِصَابَته فَلَعَلَّهُ أَن يُصِيب
وَعقد الْبَاب أَن كل مَوضِع أتقن فِيهِ أَنه لَا يُصِيب الْعدَد لم يلْزمه فِيهِ إتْمَام الرَّمْي وَلم يقف اسْتِحْقَاق ان يُصِيب على إِتْمَامه وكل مَوضِع يَرْجُو فِيهِ تَكْمِيل الْإِصَابَة كمل فِيهِ الرَّمْي وأوقف اسْتِحْقَاق الْمُصِيب على كَمَاله
فصل
النَّوْع الثَّانِي من المفاضلة
وَهِي أَن يَقُولَا أَيّنَا فضل صَاحبه بِإِصَابَة أَو إصابتين أَو ثَلَاثَة من عشْرين رمية فقد سبق
فَإِذا قَالَا أَيّنَا فضل صحابه بِثَلَاث من عشْرين فَهُوَ سَابق فرميا اثْنَي عشر سَهْما فأصابها أَحدهمَا كلهَا وأخطأها الآخر كلهَا لم يلْزم إتْمَام الرَّمْي وَكَانَ الغلب للمصيب لِأَن أَكثر مَا يُمكن الآخر أَن يُصِيب الثَّمَانِية الْبَاقِيَة فَالْأول قد نضله على كل حَال
وَإِن كَانَ الأول أصَاب من الاثْنَي عشر عشرَة لزمهما رمي الثَّالِث عشر فَإِن أصابا بِهِ مَعًا أَو أخطأا مَعًا أَو أَصَابَهُ الأول وَحده فقد سبق وَلَا يحْتَاج إِلَى تَمام الرَّمْي لِأَن غَايَة مَا يُصِيب الثَّانِي السَّبْعَة الْبَاقِيَة وَلَا يصير بذلك سبقا وَإِن أَصَابَهُ الآخر وَحده فعلَيْهِمَا أَن يرميا الرَّابِع عشر وَالْحكم فِيهِ وَفِيمَا بعده كَالْحكمِ فِي الثَّالِث عشر سَوَاء فِي أَنه مَتى أصابا فِيهِ أَو أخطأاه أَو أَصَابَهُ الأول وَحده فقد سبق وَلَا يحْتَاج إِلَى تَمام الرَّمْي لِأَن
غَايَة مَا يُصِيب الثَّانِي السَّبْعَة الْبَاقِيَة وَلَا يصير بذلك سَابِقًا وَإِن أصابة الآخر وَحده فعلَيْهِمَا أَن يرميا الرَّابِع عشر وَالْحكم فِيهِ وَفِيمَا بعده كَالْحكمِ فِي الثَّالِث عشر سَوَاء فِي أَنه مَتى أصابا فِيهِ أَو أخطأا أَو أَصَابَهَا الأول فَقَط فقد سبق الأول وَلَا يتمان الرَّمْي وَإِن أَصَابَهَا الآخر وَحده رميا مَا بعْدهَا
وَعقد الْبَاب مَا تقدم أَن كل مَوضِع قد يكون بإتمام الرَّمْي فِيهِ فَائِدَة لأَحَدهمَا يلْزمه إِتْمَامه وَإِن يئس من الْفَائِدَة لم يلْزم إِتْمَامه فَإِذا بَقِي من الْعدَد مَا يُمكن أَن يسْبق بِهِ احدهما صَاحبه أَو يسْقط بِهِ سبقه لزم الْإِتْمَام وَإِلَّا فَلَا
فَإِذا كَانَ السَّبق قد جعل إصابات من عشْرين فرميا ثَمَانِي عشرَة فأخطأاها أَو أصاباها أَو تَسَاويا فِي الْإِصَابَة فِيهَا لم يلْزم الْإِتْمَام لِأَن أَكثر مَا يحْتَمل أَن يُصِيب أَحدهمَا هَاتين الرميتين ويخطئها الآخر وَذَلِكَ لَا يحصل لَهُ السَّبق وَكَذَلِكَ إِذا فضل أَحدهمَا الآخر بِخمْس إصابات فَمَا زَاد لم يلْزم الْإِتْمَام لِأَن إِصَابَة الآخر السهمين البَاقِينَ لَا يخرج الآخر عَن كَونه فَاضلا لَهُ بِثَلَاث إصابات
وَإِن كَانَ إِنَّمَا فَضله بِأَرْبَع رميا السهْم الآخر فَإِن أَصَابَهُ الْمَفْضُول وَحده فعلَيْهِمَا رمي الآخر فَإِن أَصَابَهُ الْمَفْضُول أَيْضا سقط سبق الأول وَإِن أَخطَأ فِي أحد السهمين أَو أصَاب الأول أَحدهمَا فَهُوَ سَابق
فصل
النَّوْع الثَّالِث من المناضلة
النَّوْع الثَّالِث المحاطة وَهِي أَن يشْتَرط إساقط مَا تَسَاويا فِيهِ من الْإِصَابَة إِلَى أَن يفضل لأَحَدهمَا سهم يُصِيبهُ وَهُوَ السَّابِق
وَهَذِه وَإِن كَانَت فِي معنى المفاضلة إِلَّا أَن الْفرق بَينهمَا أَن يشْتَرط فِي المفاضلة ذكر عدد مَا يَقع بِهِ التَّفَاضُل وَفِي المحاطة لَا يشْتَرط ذَلِك بل إِذا قَالَا يلغى مَا تساوينا فِيهِ من الْإِصَابَة فَمن زَادَت إِصَابَته على إِصَابَة صَاحبه فَهُوَ الْغَالِب فَلَا يشْتَرط تعْيين الزِّيَادَة
وَلَو قَالَا أَيّنَا أصَاب خمْسا من عشْرين فَهُوَ سَابق فَمَتَى أصَاب أَحدهمَا خمْسا من الْعشْرين وَلم يصبهَا الآخر فَالْأول سَابق وَإِن أصَاب كل وَاحِد مِنْهُمَا خمْسا أَو لم يصب وَاحِد مِنْهُمَا خمْسا فَلَا سَابق فيهمَا وَهَذِه فِي معنى المحاطة
وَحكم هَذَا النَّوْع حكم مَا قبله فِي أَنه يلْزم إتْمَام الرَّمْي مَا كَانَ فِيهِ فَائِدَة وَلَا يلْزم إِذا خلا عَنْهَا وَمَتى أصَاب كل وَاحِد مِنْهُمَا خمْسا لم يلْزمه إِتْمَامه وَلم يكن فيهمَا سَابق وَإِن رميا سِتّ عشرَة رمية فَلم يصب وَاحِد مِنْهُمَا شَيْئا لم يلْزم إِتْمَامه وَلَا سَابق مِنْهُمَا لِأَن أَكثر مَا يحْتَمل أَن يُصِيبهَا أَحدهمَا وَلَا يحصل السَّبق بذلك
فصل
فَإِن شرطا أَن يخلص لأَحَدهمَا عشر إصابات من مئة رمية مفاضلة
فحصلت لَهُ من خمسين لم يسْتَحق السَّبق حَتَّى تتمّ المئة وَهَذَا أحد الْوَجْهَيْنِ للشَّافِعِيَّة
وَلَهُم وَجه ثَان إِنَّه يسْتَحق السَّبق قبل إكماله المئة
وَوجه الأول أَن الآخر قد يُصِيب فِيمَا بَقِي لَهُ من الْخمسين الثَّانِيَة مَا يحط هَذَا عَن الْعشْرَة وَهُوَ إِنَّمَا جعل السَّبق لَهُ إِذا فَضله بِعشْرَة من مئة وَلم يتَحَقَّق هَذَا بعد
فَإِن كَانَ ذَلِك فِي رمي الْمُبَادرَة وشرطا أَن من بدر إِلَى عشرَة من مئة اسْتحق فبدر إِلَيْهَا من خمسين اسْتحق وَلم يلْزمه إِكْمَال الرَّمْي لِأَنَّهُ قد سبق صَاحبه حَقِيقَة
فصل
وَلَا بُد فِي ذَلِك من حصر عدد الرَّمْي وَهُوَ الرشق بِعَدَد مَعْلُوم لينقطع بِهِ التَّنَازُع ويتيقن بِهِ السَّبق وَإِلَّا فالمغلوب يَقُول أَنا أرمي حَتَّى أغلب
ولأصحاب الشَّافِعِي فِي الْمَسْأَلَة ثَلَاثَة أوجه هَذَا أَحدهَا وَالثَّانِي لَا يشْتَرط تعْيين الْعدَد وَالثَّالِث يشْتَرط فِي رمي المحاطة والمفاضلة دن الْمُبَادرَة
وَهَذَا الْوَجْه قوي إِذْ لَا فَائِدَة فِي اشْتِرَاطه فِي رمي الْمُبَادرَة لِأَنَّهُ إِذا قَالَ أَيّنَا بدر إِلَى خمس إصابات فَهُوَ السَّابِق فَمَتَى بدر إِلَيْهَا أَحدهمَا تعين سبقه سَوَاء كَانَ عدد الرَّمْي مَعْلُوما أَو لم يكن
وَأما المفاضلة والمحاطة فَإِذا لم يكن عدد الرَّمْي مَعْلُوما لم يحصل مَقْصُود العقد وَلم يَنْقَطِع التَّنَازُع فَإِن احدهما إِذا أصَاب عشرَة من عشْرين مثلا قَالَ الآخر أَنا أصيبها من ثَلَاثِينَ وَلَيْسَ عدد الرَّمْي مَشْرُوطًا بَيْننَا لم يكن لَهُ ذَلِك وَأدّى إِلَى عدم معرفَة السَّابِق وَيَقُول الآخر أَنا أرمي إِلَى أَن أفضلك
فَإِن قيل هَذَا يَزُول باستوائهما فِي الرَّمْي قيل النزاع لَا يَنْقَطِع بذلك فَإِنَّهُ يَقُول لَهُ ارْمِ حَتَّى تساويني
وايضا فَإِنَّهُمَا إِذا لم يشترطا عددا فَإِنَّهُ قد يسْتَمر رميهما لَا إِلَى غَايَة وَلَا يُصِيب أَحدهمَا فَلَا يُمكن أَحدهمَا الآخر من إِحْرَاز سبقه وَيَقُول لم نزل نرمي حَتَّى يغلب أَحَدنَا
وَهَذَا فَاسد جدا وَهُوَ بعيد من قَوَاعِد الشَّرِيعَة وَلَا سِيمَا عِنْد من ألحق هَذَا العقد بالجعالات والإجارات وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
فقد تبين من هَذَا أَن النضال على أَرْبَعَة أَقسَام مفاضلة ومحاطة ومبادرة ومباعدة وَأَنَّهَا كلهَا جَائِزَة إِلَّا المباعدة فَإِن فهيا خلافًا وَلَيْسَ على منعهَا دَلِيل
فصل
فَإِن شرطا إِصَابَة مَوضِع من الهدف على أَن الْأَقْرَب مِنْهُ يسْقط
الْأَبْعَد ففضل أَحدهمَا صَاحبه بِمَا شرطاه كَانَ سَابِقًا
ذكره القَاضِي أَبُو يعلى وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي لِأَنَّهُ نوع من المحاطة
فَإِذا أصَاب أَحدهمَا موضعا بَينه وَبَين الْغَرَض شبر وَأصَاب الآخر موضعا بَينه وَبَين أقل من شبر أسقط الأول
فَإِن أصَاب الأول الْغَرَض أسقط الثَّانِي وَإِن أصَاب الثَّانِي الدائرة الَّتِي فِي الْغَرَض لم يسْقط الأول لِأَن الْغَرَض كُله مَوضِع الْإِصَابَة فَلَا يفضل أَحدهمَا صَاحبه إِذا أصاباه إِلَّا أَن يشترطا ذَلِك
وَإِن اشْترطَا أَن يحْسب أَحدهمَا خاسقة بإصابتين لم يجز لِأَنَّهُ ظلم وعدوان
وَإِن شرطا أَن سحب كل مِنْهُمَا خاسقة بإصابتين جَازَ لِأَن أَحدهمَا لم يفضل صحابه بِشَيْء فهما سَوَاء فِي ذَلِك
فصل
هَل الْعرف مُعْتَبر فِي المناضلة الْمُطلقَة أم لَا
إِذا أطلقت المناضلة فَإِن كَانَ للرماة عَادَة مطردَة ترك العقد عَلَيْهَا وَإِن لم يصرحوا اشْتِرَاطهَا
وَقد وَافق على ذَلِك أَصْحَاب الشَّافِعِي وَنَقَضُوا هَذَا الأَصْل فِي مَوَاضِع وطردوه فِي مَوَاضِع
وَقد اتّفق النَّاس على طرده فِي نقد الْبَلَد فِي الْمُعَاوَضَات وَإِن لم يشْتَرط تَنْزِيلا للْعُرْف منزلَة الشَّرْط وعَلى التَّسْلِيم الْمُتَعَارف مثله عَادَة وَإِن لم يشْتَرط كَمَا لَو بَاعه أَو اشْترى مِنْهُ دَارا لَهُ فِيهَا مَتَاع كثير لَا يُمكن نَقله فِي يَوْم وَلَا يَوْمَيْنِ وعَلى أَعماله فِي قبُول الْهَدِيَّة مَعَ الصغار والاكتفاء بقَوْلهمْ وعَلى دُخُول الرجل اعْتِمَادًا على خبرهم عَن إِذْنه ونظائر ذَلِك كَثِيرَة
ونقضه من قَالَ لَا تجب الْأُجْرَة للحمامي وَلَا الخباز وَلَا الطباخ وَلَا الغسال وَلَا المكاري حَتَّى يعْقد مَعَهم عقد إِجَارَة
وَقد ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع جَوَاز عقد النِّكَاح من غير تَسْمِيَة مهر وَوُجُوب مهر الْمثل فَإِذا كَانَ هَذَا فِي النِّكَاح الَّذِي يحْتَاط لَهُ مَا لَا يحْتَاط لغيره وأحق الشُّرُوط أَن يُوفى بِهِ مَا شَرط فِيهِ فَغَيره من الْعُقُود بطرِيق الأولى
وَالْمَقْصُود أَنهم إِذا كَانَ لَهُم عَادَة فِي مِقْدَار الْمسَافَة بَين الْموقف وَالْغَرَض أَو عَادَة فِي مِقْدَار الْغَرَض وارتفاع الهدف وانخفاضه نزل العقد على الْعَادة وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر ذَلِك
وَللشَّافِعِيّ فَقَوْلَانِ هَذَا أَحدهمَا وَالثَّانِي لَا بُد من بَيَان ذَلِك فِي العقد وَإِن كَانَ لَهُم عَادَة فِي الْمُبْتَدِئ بِالرَّمْي أَيْضا حمل العقد عَلَيْهَا إِلَّا أَن يشترطوا خلَافهَا
فَإِن شرطُوا تعْيين من يبتديء فِي كل رشق تعين وَإِن أطْلقُوا تَعْيِينه
وَلم يَقُولُوا فِي كل رشق احْتمل أَن يتَعَيَّن فِي الْجَمِيع لأَنهم لما عينوه وَلم يعينوا غَيره علم أَنهم أَرَادوا أَنه يبتديء فِي جَمِيع النوبات وَيحْتَمل أَنه يتَعَيَّن فِي الرشق الأول ثمَّ يقرع بَينهم قرعَة أُخْرَى لجَمِيع الأرشاق لِأَن تَعْيِينه مُطلق وَلَيْسَ بعام وَقد عين مرّة وَالْمُطلق يكْتَفى فِيهِ بِمرَّة والوجهان لأَصْحَاب الشَّافِعِي
وَلَهُم وَجه ثَالِث فِي غَايَة الْبعد أَنهم يَحْتَاجُونَ فِي كل رشق إِلَى قرعَة وَفِي هَذَا من التَّطْوِيل وَالْمَشَقَّة وَبرد أَيدي الرُّمَاة مَا يُوجب رده وبطلانه
فَإِن لم يتَعَرَّضُوا لذكر الباديء بِالرَّمْي لم يبطل العقد إِذْ لَا وَجه لبطلانه وَهَذَا قَول الْجُمْهُور
وَللشَّافِعِيّ قَول حَكَاهُ الخراسانيون أَنه يبطل العقد وَإِذا لم يحكم بِبُطْلَانِهِ فِيمَا إِذا لم يتَعَيَّن ينظر فَإِن كَانَ السَّبق مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا عين بِالْقُرْعَةِ وَإِن كَانَ من الإِمَام أَو أَجْنَبِي فَكَذَلِك
وَللشَّافِعِيّ قَول آخر أَن مخرج السَّبق يُعينهُ وعَلى هَذَا القَوْل فَإِن عينه لجَمِيع الأرشاق تعين وَإِن عينه مُطلقًا فَهَل يتَعَيَّن للرشق الأول أَو لجَمِيع الأرشاق على الْوَجْهَيْنِ
فصل
نقل أَصْحَاب الشَّافِعِي عَنهُ أَنه تردد فِي أَن المتبع فِي هَذَا العقد الْقيَاس أَو عَادَة الرُّمَاة
وَاسْتَشْكَلَهُ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَغَيره وَقَالُوا كَيفَ تجوز مُخَالفَة حجَّة شَرْعِيَّة بعادة غير شَرْعِيَّة
ثمَّ اخْتلفُوا فِي جَوَاب هَذَا الْإِشْكَال فَقَالَ الصيدلاني تردده مَحْمُول على عَادَة الرُّمَاة الْمُجْتَهدين من الْعلمَاء وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ المُرَاد بِالْعَادَةِ مَا يتفاهمونه من الْأَلْفَاظ ورد قَول الصيدلاني بِأَن عَادَتهم إِذا وَافَقت الْقيَاس فالحجة فِي الْقيَاس وَإِن خَالَفت الْقيَاس فَلَا عِبْرَة بهَا ورد قَول أبي مُحَمَّد بِأَنَّهُ يجب حمل الْعُقُود على الْعَادة المطردة فِي الْأَلْفَاظ وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ المُرَاد بِالْعَادَةِ فِي كَلَام الشَّافِعِي الْعَادة فِي البادئ بِالرَّمْي وَعَلِيهِ ينزل كَلَامه فَإِن عَادَة الرُّمَاة الْبدَاءَة بمخرج السَّبق
ثمَّ قَالَ إِذا عظم وَقع الْقيَاس وبعدت عَادَتهم عَنهُ وَجب الْقطع بِاتِّبَاع الْقيَاس
قلت كَلَام الشَّافِعِي رحمه الله ظَاهر التَّرَدُّد بَين دَلِيلين شرعيين فَإِن الْعُقُود تحل على الْعرف والمعتاد عِنْد الْإِطْلَاق فَينزل الْمُعْتَاد مُخَالفا لكتاب الله وَالْقِيَاس دَلِيل شَرْعِي فَإِذا خَالف الْعَادة فتردد هَل يقدمهُ
على الْعَادة الْمنزلَة منزلَة الشَّرْط أَو تقدم الْعَادة الْمَشْرُوطَة عرفا عَلَيْهِ وَكِلَاهُمَا دَلِيل شَرْعِي
وَالرَّاجِح تَقْدِيم الْعَادة فَإِنَّهَا منزلَة منزلَة الشَّرْط وَلَا ريب أَن الْقيَاس يتْرك للشّرط فَإِن الْقيَاس الْحُلُول وَنقد الْبَلَد وَجَوَاز التَّصَرُّف عقيب العقد وَيتْرك ذَلِك كُله بِالشّرطِ
وَلَا يخفى ضعف مَسْلَك إِمَام الْحَرَمَيْنِ الَّذِي حمل عَلَيْهِ كَلَام الشَّافِعِي فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي البادئ بِالرَّمْي قِيَاس يُخَالف الْعَادة الْجَارِيَة بَينهم وَلِهَذَا وَلَو شرطُوا أَن يبْدَأ وَاحِد مِنْهُم لم يكن ذَلِك مُخَالفا للْقِيَاس فَإِذا كَانَ لَهُم عَادَة ببداءة وَاحِد مِنْهُم لم يكن ذَلِك مُخَالفا للْقِيَاس وَالله أعلم
فصل
فِي الْموقف واختلافه
إِذا اصطفت الرُّمَاة فِي مُقَابلَة الْغَرَض للرمي فَرمى كل وَاحِد من مَوْضِعه صَحَّ بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء وَالرُّمَاة وَلَا يشْتَرط أَن يتناوبوا على الْوُقُوف فِي موازاة الْغَرَض فَإِن رَضوا بذلك جَازَ وَإِن تنافسوا فِي ذَلِك وكل مِنْهُم آثر الْوُقُوف بِإِزَاءِ الْغَرَض كتنافسهم فِي البادئ بِالرَّمْي فَفِيهِ وَجْهَان أَحدهمَا يقدم بِالْقُرْعَةِ وَالثَّانِي يقدم من يختاره مخرج السَّبق أَو من لَهُ مزية بِإِخْرَاجِهِ كَمَا تقدم
وَإِن كَانَ الْموضع الَّذِي عينه بَعضهم خيرا من غَيره مثل أَن يكون أحد الموقفين مُسْتَقْبلا للشمس أَو للريح وَنَحْو ذَلِك والموقف الآخر مستدبرهما قدم قَول من عين هَذَا الْموقف لِأَنَّهُ أقرب إِلَى تَحْصِيل مَقْصُود الرَّمْي وَهُوَ الْموضع الَّذِي ينْصَرف إِلَيْهِ العقد عِنْد الْإِطْلَاق
فَإِن كَانَ شَرطهمَا خِلَافه فَالشَّرْط عِنْد أَصْحَابنَا أولى قَالُوا كَمَا لَو اتفقَا على الرَّمْي لَيْلًا وَيحْتَمل أَن يكون الْموقف الْمُوَافق أولى وَيُجَاب من طلبه لِأَنَّهُ اقْربْ إِلَى مصلحتها ومصلحة العقد
فَإِن اسْتَوَى الموقفان وقف الأول حَيْثُ شَاءَ مِنْهُ وَتَبعهُ الثَّانِي فَإِذا كَانَ فِي الْوَجْه الثَّانِي وقف الثَّانِي حث شَاءَ وَتَبعهُ الأول وَلَيْسَ لأَحَدهم أَن يتَقَدَّم عَن صَاحبه إِلَى جِهَة الْغَرَض بل يقفوا صفا
فَإِن رَضوا بِتَقْدِيم أحدهم فَإِن كَانَ يَسِيرا جَازَ وَإِن أفرط لم يجز لما فِيهِ من مزية التَّخْصِيص الْمنَافِي للعدل فَصَارَ كَمَا لَو شَرط لأَحَدهم السَّبق بتسع إصابات وَللْآخر بِعشر فَإِنَّهُ لَا يجوز اتِّفَاقًا
فَلَو اتَّفقُوا كلهم على أَن يتقدموا أَو يتأخروا عَن موقفهم جَازَ وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي يكون على الْخلاف فِي إِلْحَاق الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان فرع فَإِن تَأَخّر أحدهم عَن موقفه فَهَل لَهُ ذَلِك يحْتَمل الْجَوَاز لِأَنَّهُ مُؤثر بِهِ لأَصْحَابه لَا مستأثر عَلَيْهِم
وَيحْتَمل الْمَنْع لفَوَات الْعدْل الْمَطْلُوب من العقد وللشافعية وَجْهَان
وَكَذَلِكَ لَو كَانَ اثْنَيْنِ فَتقدم أَحدهمَا عَن الآخر لم يجز وَإِن تَأَخّر عَنهُ فعلى الِاحْتِمَالَيْنِ والوجهين وَالله أعلم
فصل
أَحْكَام البدء والتأخر
وَإِذا بَدَأَ أَحدهمَا فِي وَجه بَدَأَ الآخر فِي الْوَجْه الثَّانِي تعديلا بَينهمَا
فَإِن شرطت الْبدَاءَة لأَحَدهمَا فِي كل الْوُجُوه فَقَالَ أَصْحَابنَا لم يَصح لِأَن مَوضِع المناضلة على الْمُسَاوَاة وَهَذَا يمْنَعهَا وَيحْتَمل أَن يجوز ذَلِك لِأَنَّهُمَا لَو اتفقَا على ذَلِك برضاهما من غير شَرط جَازَ لِأَن الْبدَاءَة لَا أثر لَهَا فِي الْإِصَابَة وَلَا فِي جودة الرَّمْي فَإِذا شَرط ذَلِك فقد شرطا مَا يجوز فعله فَيصح
وَإِن شرطا أَن يبْدَأ كل وَاحِد مِنْهُمَا من الْوَجْهَيْنِ متواليين جَازَ لتساويهما وَفِي الْمَسْأَلَة وَجه آخر
إِن اشْتِرَاط الْبدَاءَة لَغْو لَا تَأْثِير لَهُ ووجوده كَعَدَمِهِ إِذْ لَا تَأْثِير للبداءة فِي الْإِصَابَة وَلَا فِي جودة الرَّمْي وَكثير من الرُّمَاة يخْتَار التَّأَخُّر عَن الْبدَاءَة وهم الحذاق وَمِنْهُم من يخْتَار الْبدَاءَة وَمِنْهُم يَسْتَوِي عِنْده الْأَمْرَانِ
الحكم فِي التَّأَخُّر كَمَا فعل مُوسَى عليه الصلاة والسلام مَعَ السَّحَرَة
والتأخر أحسن موقعا وَأعظم قدرا وَلِهَذَا قَالَ مُوسَى للسحرة وَقد خيروه بَين أَن يَبْتَدِئ هُوَ أَو أَن يبتدئوا قبله فَاخْتَارَ بداءتهم أَولا ثمَّ ألْقى هُوَ بعدهمْ وَفِي ذَلِك وُجُوه كَثِيرَة من الْحِكْمَة
مِنْهَا أَن الْمُبْطل يستفرغ وَسعه ويستنفذ حيله وَلَا يبْقى لَهُ شَيْء يُقَال إِنَّه لَو أَتَى بِهِ لغلب
وَمِنْهَا أَن يكون هُوَ الْبَاغِي فَيكون أدعى إِلَى نصْرَة الْحق والمحق عَلَيْهِ
وَمِنْهَا أَن نفوس النَّاس دَائِما تستشرف إِلَى الْمُجيب أَكثر من السَّائِل وَإِلَى الْمُتَأَخر فِي المغالبات والمقارعات أَكثر من استشرافها إِلَى الأول فَيكون ظفره وغلبه أعظم موقعا
وَمِنْهَا أَن همة المحق تقوى وتتضاعف إِذا شَاهد خَصمه وَقد وضع لَهُ أَسبَاب الْغَلَبَة واستنفذ سهامه فَتَصِير همته على مِقْدَار مَا شَاهد من كيد خَصمه وَمِنْهَا أَن اللَّغط يصفو وَيَنْقَطِع هيج البدوات وهرجها وَمِنْهَا أَن يجمع همه وعزمه ويستعد للمقابلة وَمِنْهَا أَنه يَأْمَن رُجُوع خَصمه واستقالته فَإِن خَصمه قد يرجع عَن مقارعته إِذا رأى قوته واستظهاره فَلَا تظهر غلبته فَإِذا بَدَأَ خَصمه أَمن من رُجُوعه واستقالته
ولفوائد أُخْرَى غير هَذِه وهما مخيران بَين ثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا أَن يرميا سَهْما وَسَهْما الثَّانِي أَن يرميا سَهْمَيْنِ وسهمين أَو ثَلَاثَة وثالثة الثَّالِث أَن يستنفذ أَحدهمَا رميه ثمَّ يتبعهُ الآخر
فصل
تعدد الْغَرَض
وَالسّنة أَن يكون لَهما غرضان فيرميان كِلَاهُمَا إِلَى أَحدهمَا ثمَّ يذهبان كِلَاهُمَا إِلَى الآخر فيأخذان السِّهَام ويرميان الأول وَهَكَذَا كَانَت عَادَة أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَفِي أثر مَرْفُوع
كل شَيْء لَيْسَ من ذكر الله عز وجل فَهُوَ لَغْو أَو سَهْو إِلَّا أَربع خِصَال مشي الرحل بَين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أَهله وَتعلم السباحة
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب فضل الرَّمْي بَاب فضل الْمَشْي بَين الغرضين ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ عَن أبي ذَر يرفعهُ من مَشى بني الغرضين كَانَ لَهُ بِكُل خطْوَة حَسَنَة وَقَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن أَبِيه رَأَيْت حُذَيْفَة بن الْيَمَان يعدو بَين الهدفين بِالْمَدَائِنِ فِي قَمِيص وَقَالَ بِلَال بن سعد أدْركْت قوما يَشْتَدُّونَ بَين الْأَغْرَاض يضْحك بَعضهم إِلَى بعض فَإِذا كَانَ اللَّيْل كَانَا رهبانا وَكَانَ عقبَة بن عَامر يشْتَد بَين الغرضين وَهُوَ شيخ كَبِير وَفِي أثر مَرْفُوع مَا بَين الغرضين رَوْضَة من رياض الْجنَّة وَإِن جعلُوا غَرضا وَاحِدًا جَازَ لحُصُول الْمَقْصُود بِهِ