الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فوائد
1 -
اليقين والظن من الأحكام
سبق بيان المراد من اليقين والظن، وأن الظن معتبر شرعاً بمنزلة اليقين في بناء
الأحكام عليه في أكثر المسائل إذا كان مستنداً إلى دليل معتبر، وذلك كما لو رأى إنسان عيناً في يد آخر يتصرف بها تصرفاً يغلب على ظن من يشاهده أنها ملكه، وكان مثله يملك مثلها، ولم يخبر الرائي عدلان بأنها ملك غيره، فإنه يجوز له أن يشهد لذي اليد بملكها.
ولكن هناك بعض المسائل لا يعتبر فيها الظن أو غلبة الظن، ولابد فيها من اليقين
فمن ذلك:
أ - عقد النكاح على أختين؛ فلو عُقد لشخص عقد نكاح على أختين بعقدين متعاقبين فالأول صحيح، والمتأخر باطل، فلو نسي الأول منهما فإنه يفرق بينه وبين الأختين ويبطل العقدان، لأنه لا يجوز ترجيح الأولية لأحدهما دون الآخر بغلبة الظن، ولا بدَّ من العلم واليقين، لأن التحري لا يجري في مسائل الفروج، ولأن الأصل في الأبضاع التحريم.
ب - طلاق إحدى نسائه: لو طلق رجل زوجة معينة من نسائه، ثم نسيها، فلا يجوز له أن يطأ واحدة منهن إلا بعد العلم بالمطلقة، ولا يكفي التحري وتغليب الظن، ولا يستطيع الحاكم أن يخلي بينه وبين نسائه حتى يتبين، لأن التحري إنما يجوز فيما يباح عند الضرورة والفروج لا تباح عند الضرورة.
جـ - الحبل: لم يعتبر الفقهاء ظهور علامات الحبل دليلاً جازماً على وجود
الحمل، ولم يرتبوا عليه الأحكام الجازمة، مع أنه يغلب على الظن أن المرأة حامل.
ولذلك لا تصح الوصية للحمل أو الوقف عليه إلا إذا ولد لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية أو الوقف، حتى يتيقن وجوده وقتها فالولادة لأقل من ستة أشهر يقين على وجوده، ويأخذ حكم هذه الولادة لو كان الأب ميتاً قبل الوصية له والوقف.
فيصحان ولو ولدت بعد مدة أطول، كما تشترط الولادة لأقل من ستة أشهر أو موت الأب لثبوت الشفعة له في البيع الذي يجري، وتشرع فيه الشفعة.
لكن الفقهاء اعتبروا ظهور علامات الحبل أمارة ترجح قول المرأة أنها ولدت إذا أنكر الزوج الولادة، ووقفوا بعلامات الحبل الميراث للحمل.
وإذا علم اليوم وجود الحمل قبل الوصية أو الوقف بأحد الوسائل العلمية الحديثة بالمشاهدة بواسطة التنظير، أو بواسطة الأشعة المخترعة حديثاً، المسماة "أشعة رونتجن " وكانت المشاهدة بطريق مشروع كالتداوي، ثم ولدته لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية أو الوقف أو الشفعة أو موت المورث، فالظاهر عدم اعتباره، ولا بد من الولادة لأقل من ستة أشهر، لا شكاً فيما أظهرته الأشعة، بل لأنها إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر ولا يتيقن حينئذ بأن المولود هو الحمل الذي شوهد بالأشعة.
لجواز أن المشاهَد أسْقط، ثم حصل بعده حمل جديد،.
(الزرقا ص 8) .
وهذا إذا كان الحمل الثاني ممكناً، فإن لم يكن الحمل الثاني ممكناً، بأن ولدت
بعد ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو خمسة، فتعتبر أمارات الحمل السابق وعلاماته على وجود الحمل في عصرنا الحاضر.
2 -
الظن الغالب يجري مجرى اليقين
إن الأحكام الشرعية تبنى على الظاهر، وإن الوصول إلى اليقين يتعذر في كثير من الأحيان، لذلك جوَّز الشرع الاعتماد على الظن، واعتباره في الاجتهاد والعمل والتطبيق وقبول الأحكام.
ولكن الظن على درجات، وقد ترتقي درجة الظن بكثرة الأدلة والأمارات،
فيسمى الظن الغالب الذي يقرب من اليقين، وعرّفه المقّري فقال: "الظن الغالب:
هو الذي تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب "
وقرر الفقهاء أن الظن الغالب ينزل منزلة اليقين، وأن اليقين لا يزول بالشك بل لا بدَّ من يقين مثله أو ظن غالب، كمن سافر في سفينة مثلاً، وثبت غرقها، فيحكم بموت هذا الإنسان؛ لأن موته ظنّ غالب، والظن الغالب بمنزلة اليقين.
أما إذا كانت غلبة الظن غير مستندة إلى دليل فلا كلام في عدم اعتبارها مطلقاً، وتكون مجرد وهْم، ولا عبرة للتوهم، كما لو غلب على ظن الغاصب حل العين المغصوبة له بناء على احتمال جعل المالك إياه في حل منها، وكما لو ظفر إنسان بمال الغير فأخذه بناء على احتمال أن مالكه أباحه لمن يأخذه، فإنه يكون ضامناً، ولا تعتبر غلبة الظن هذه مهما قويت، ولذلك وجدت أحكام اللقطة، ووجب التعريف سنة، لأن ظنه السابق غير مستند إلى دليل، لأنه من مجرد الوهم، ولا عبرة بالتوهم..
(م/ 74) .
3 -
اليقين السابق والشك الطارئ
الشك لا يؤثر على اليقين، ولا يزيله، سواء كان اليقين مقتضياً للحظر فلا يزول الحظر بالشك، أم كان اليقين السابق مقتضياً للإباحة، فلا يمنع بالشك، والعمدة على اليقين في كلتا الحالتين، ولا يلتفت إلى الشك فيهما.
مثال القسم الأول: لو غاب إنسان غيبة منقطعة بحيث لا يعلم موته ولا حياته، فإن المعتبر اليقين السابق، وهو حياته، إلى أن يعلم موته بالبينة، أو بموت أقرانه، كان كان احتمال موته قائماً في كل لحظة، فلا يجوز قبل ذلك قسمة ماله بين الورثة،
ولو كان له وديعة عند آخر فيجب على المستودع حفظها، فلو أعطاها للورثة يكون ضامناً..
(م/ 785) .
(الزرقا ص 82) .
ومثال القسم الثاني: الفروع المذكورة تطبيقات لقاعدة
"اليقين لا يزول بالشك ".
والشك الطارئ لا يؤئر على اليقين السابق، سواء طرأ على أصل محرم فيبقى
محرماً، أم شك طرأ على أصل مباح فيبقى مباحاً، أو شك لا يعرف أصله فتبقى الإباحة الأصلية.
مثال الأول: أن يجد المسلم شاة مذبوحة في بلد فيها مسلمون ومجوس، فلا تحل حتى يعلم أنها ذكاة مسلم، لأن أصلها حرام (بأن تؤكل حية)
وشككنا في الذكاة المبيحة، فلو كان الغالب فيها المسلمون جاز الأكل عملاً بالغالب المفيد للظهور.
ومثال الثاني: أن يجد الشخص ماءً متغيراً، واحتمل تغيره بنجاسة أو بطول
المكث، فيجوز التطهر به عملاً بأصل الطهارة، ولا يغير الشك حكمه.
ومثال الثالث: معاملة من أكثر مالِهِ حرامٌ، فتجوز معاملته، ولا تحرم، لإمكان الحلال، وعدم تحقق التحريم، لكن يكره خوفاً من الوقوع في الحرام.
(اللحجي ص 36) .
والثابت هو اليقين شرعاً وغير هـ شكٌ، ويعتبر اليقين سواء في براءة الذمة أو شغل الذمة، فالأصل براءة الذمة لأنه اليقين الثابت، حتى يثبت ما يشغلها، فإن ثبت ما يشغل الذمة صار يقيناً فلا تبرأ حتى يثبت الأداء والوفاء.
وذكر فقهاء الشافعية بضع عشرة مسألة يزول فيها اليقين بالشك، كالشك في مدة المسح على الخفين، والشك في نية المسافر، والمستحاضة المتميزة، وسلس البول، والتيمم إذا رأى سراباً فظنه ماء، وفي الصيد، وغيرها.
4 -
الظن والشك
إن الظن والشك عند الفقهاء بمعنى واحد، وهذا باعتبار الغالب، ولذلك قال النووي: "اعلم أن مراد أصحابنا (الفقهاء) بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشيء وعدمه، سواء كان الطرفان في التردد سواء، أو أحدهما راجحاً، فهذا معناه في استعمال الفقهاء وفي كتب الفقه.
أما أصحاب الأصول فإنهم فرقوا بين ذلك، وقالوا: التردد إن كان على السواء فهو الشك، وإن كان أحدهما راجحاً فالراجح ظن.
والمرجوح وهم ".
5 -
الاستصحاب والأصل
إن القواعد المتفرعة عن القاعدة الرئيسية "اليقين لا يزول بالشك "(م/ 4) يعبر عنها بالأصل، فيقال: الأصل بقاء ما كان على ما كان، الأصل في الأمور العارضة العدم، الأصل براءة الذمة، الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، الأصل في الكلام الحقيقة، الأصل في الأشياء الإباحة، الأصل العدم.
ويعبر عن الأصل في جميع ذلك بالاستصحاب، وهو استصحاب الماضي إلى
الحاضر، أي نقل الحكم الثابت في الماضي إلى الوقت الحاضر حتى يثبت غيره.
نماذج عامة معتبرة للأصل
1 -
الأصل بقاءما كان على ما كان.
2 -
الأصل براءة الذمة.
3 -
الأصل في الأشياء والأعيان الإباحة، إلا إن دل دليل للحظر فيعمل به.
4 -
الأصل في الأبضاع التحريم.
5 -
الأصل في الصفات أو الأمور العارضة العدم.
6 -
الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته.
7 -
الأصل في العبادات الحظر، وفي العادات الإباحة.
8 -
الأصل في الكلام الحقيقة.
نماذج معتبرة للأصل عند المالكية
1 -
الأصل في الأعيان الطهارة.
2 -
الأصل البراءة قبل ثبوت التكليف وعمارة الذمة.
3 -
الأصل عدم البراءة بعد ثبوت التكليف وعمارة الذمة.
4 -
الأصل الإيسار حتى يثبت العدم.
5 -
الأصل الصحة دون المرض.
6 -
الأصل الطوع دون الإكراه.
7 -
الأصل في العقود الصحة.
8 -
الأصل في الناس الرشد.
9 -
الأصل في الإقرارات ألَاّ يقبل الرجوع عنها؛ لأنها على خلاف الطبع.
10 -
الأصل في الناس التجريح حتى تثبت العدالة.
11 -
الأصل الحرية حتى يثبت الرق.
12 -
الأصل الكفاءة.
13 -
الأصل البلوغ.
14 -
الأصل التساوي حتى يثبت الرجح.
15 -
الأصل الظهور دون التأويل.
16 -
الأصل الطهورية حتى يتحقق الناقل عنها.
17 -
الأصل في العقود اللزوم.
18 -
الأصل ألا يجمع للشخص بين العوضين.
19 -
الأصل في المتبايعين المعرفة بالشيء حتى يثبت الجهل.
20 -
الأصل عدم الإذن.
6 -
الاستصحاب المعكوس أو المقلوب
وأما استصحاب الحاضر إلى الماضي فهو الاستصحاب المقلوب أو المعكوس ولم
يقل به الأصحاب في المذهب الشافعي إلا في مسألة واحدة، وهي: ما إذا اشترى شيئاً، فادعاه مُدَّعٍ، وانتزعه منه بحجة مطلقة، فإنهم أطبقوا على ثبوت الرجوع له على البائع بالثمن، بل لو باع المشتري أو وهب كان للمشتري الأول الرجوع أيضاً، فهذا استصحاب في الماضي، لأن البينة لا تنشئ الملك، ولكن تظهره، والملك سابق على
إقامتها، ويحتمل انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، ولكنهم استصحبوه مقلوباً، وهو عدم الانتقال فيما مضى.
لكن قال بالاستصحاب المعكوس الحنفية في عدة مسائل، وله أمثلة كثيرة، منها:
أ - لو كان للابن الغالب مال عند أبيه، فأنفق منه الأب على نفسه، ثم اختلفا، فقال الابن للأب: إنك أنفقت على نفسك منه وأنت موص، وقال الأب: أنفقت وأنا معسر، ولا بينة لأحدهما، فإنه يُحكَّم الحال، فلو كان حال الخصومة معسراً
فالقول له، وإن كان موسراً، فالقول لابنه، ولو برهن كل من الأب والابن على دعواهما تقدم بينة الابن لأنه المدعي فجعل الإعسار أو اليسار القائم في الحاضر منسحباً مع الماضي، وإنما لم مجعل القول قول مدعي الإعسار مطلقاً مع أنه الصفة الأصلية في الإنسان، والأصل اعتبار بقائه، لأن بقاء ما كان على ما كان إنما هو عند عدم قيام دليل على خلافه، ولما كان قيام صفة اليسار حين الخصومة أمارة ظاهرة في
تأييد كلام مدعيه طرح ذلك الأصل لقيام الدليل على خلافه، واعتبر القول لمدعي اليسار.
(الزرقا ص 89) .
ب - لو ادعى المستأجر سقوط الأجرة بزعم أن المأجور غصب منه ففات الانتفاع به، وأنكر المؤجر ذلك، فإنه يُحكَّم الحال وينظر، إن كان المأجور في يد الغاصب حين الخصومة فالقول للمستأجر، وإن لم يكن في يد غاصب فالقول للمؤجر، سواء كان في يد المستأجر الآن، أو ليس في يد أحد.
(الزرقا ص 95) .
جـ - لو باع الأب مال طفله ثم بلغ، فادعى - بعد بلوغه - على المشتري أن البيع كان بغبن فاحش، والمشتري ينكر ذلك، فإنه يُحكَّم الحال، بشرط أن تكون المدة بقدر ما لا يتبدل به السعر.
(الزرقا ص 90) .
د - إذا اختلف موجر الطاحون ومستأجرها في أصل انقطاع مائها، فإن يُحكَّم الحال (م/ 1776) وكذ! إذا اختلف شخصان في حدوث طريق الماء الذي يجري إلى دار إنسان وقدمه (م/ 1777)
فيُحكَّم الحال.
(الزرقا ص 90) .
7 -
تعارض أصلين
إذا تعارض أصلان رُجح الأقوى منهما، قال إمام الحرمين:
"وليس المراد بتعارض الأصلين تقابلهما على وِزان واحد في الترجيح، فإن هذا كلام يتناقض، بل المراد التعارض بحيث يتخيل الناظر في ابتداء نظره تساويهما، فإذا حقق فكره رجح.
ثم تارة يجزم بأحد الأصلين، وتارة يجري الخلاف، ويرجح بما عضده من ظاهر أو غيره "
وقال ابن الرفعة: "لو كان في جهة أصل، وفي جهة أصلان جزم بذي
الأصلين، ولم يجر الخلاف ".
ومثال تعارض الأصلين مع الجزم بأحدهما: من نوى، وشك هل كانت نيته قبل
الفجر أو بعده؛ لم يصح صومه، لأن الأصل عدم النية قبل الفجر.
قال النووي:
"ويحتمل مجيء وجه أنه يصح؛ لأن الأصل بقاء الليل ".
(اللحجي ص 34) .
ومثال تعارض أصلين مع تعضيد أحدهما بظاهر: ما إذا ادعى العنين الوطء في
المدة المضروبة من القاضي، وهو سليم الذكر والأنثيين، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، فيرجح هذا الأصل على أصل عدم الوطء، لاعتضاد الأصل الأول بسلامة ذكره؛ لأن سليمه لا يكون عنيناً في الغالب.
(اللحجي ص 34) .
ومثال تعارض أصلين مع اعتضاد أحدهما بشيء غير ظاهر؛ ما لو وقعت في الماء نجاسة، وشك، هل هو قلتان أو أقل؛ فوجهان، أحدهما: يتنجس، وبه جزم الماوردي وآخرون، لتحقق النجاسة، والأصل عدم الكثرة، والوجه الثاني: أنه لا يتنجس، وصوبه النووي، لأن الأصل الطهارة، وشككنا في تنجسه، والأصل عدمه، ولا يلزم من النجاسة التنجس، ورجح السبكي مفالة النووي، وهو الأظهر عند الحنابلة.
ومثال تعارض الأصلين مع الرجوع إلى باب الترجيح: إذا هلكت السلعة قبل القبض، ووقع النزاع بين المتبايعين، هل هلكت قبل القبض أو بعده؟ فمن جهة أن السلعة كانت موجودة قبل العقد، وسالمة من العيوب، فيكون الأصل المستصحب هو سلامتها إلى زمن تيقن الهلاك، وهو بعد العقد، ومن جهة أخرى فإن ذمة المشتري الأصل فيها أنها بريئة من الضمان إلى أن يرد دليل على انشغالها.
(الروقي ص 290)
قاعدة تعارض الأصلين عند المالكية
وضع المالكية قاعدة فقهية في تعارض الأصلين، فقالوا:"إذا اختص الفرع بأصل أجري عليه إجماعاً، فإن دار بين أصلين حمل على الأولى منهما، وقد يختلف فيه"
وفي لفظ آخر "إذا دار الفرع بين أصلين غلب أرجحهما إن تعذر الجمع، وقد يُختلف في ذلك "، لأن الفرع إذا لم يكن له إلا أصل واحد يرجع إليه، فالواجب إجراؤه على ذلك الأصل من غير خلاف؛ لأنه المتعين.
فإن تجاذبته أصول متعددة، وقواعد مختلفة، فالواجب الجمع بينهما، وذلك
بترجح الفرع إلى أحد الأصلين على وجه من الوجوه، وترجيعه إلى الأصل الآخر على وجه آخر، خروجاً من التعارض، والواجب إلحاق الفرع بأرجح الأصلين وأقواهما به شبهاً؛ لأن العمل بالراجح واجب، وقد تغلب الشائبتان في الفرع، فيبقى للأصلين أثر في الفرع، ويكون الترجيح محل اجتهاد.
التطبيقات
أ - حكم من تيقن الوضوء وشك في الحدث تجاذبه أصلان، الأول: الأصل بقاء ما كان على ما كان، وأنه لا ينتقل عن الأصل - الذي هو الطهارة هنا - إلا بيقين أو ظن غالب، وعليه فلا يجب الوضوء على من شك في الحدث، وبهذا أخذ الجمهور وبعض المالكية.
والأصل الثاني: هو أن عمارة الذمة بعد التكليف، وهي الصلاة هنا، ولا يُبرأ منها إلا بيقين، وأن الشك في الشرط، وهو الطهارة، شك في المشروط، وهو الصلاة، والذمة لا يُبرأ منها بالشك، فيجب الوضوء في الحدث، وهو المشهور عند المالكية.
(الغرياني ص 443) .
ب - عامل القراض له شبه بالشريك، وشبه بالأجير، فمن رجح شبهه بالشريك، قال بملك العامل لحصته بالظهور وتحقق الربح، وبوجوب الزكاة عليه حينئذ، بشرط أن تتحقق شروط الزكاة فيه وفي رب العمل، وترجح شبه العامل بالشريك عند القائلين بهذا القول بتساويه مع رب المال في زيادة الربح ونقصه، وبأن حقه يتعلق بعين المال، ولا يتعلق بذمة رب المال.
ومن رجح إلحاق العامل بالأجير، قال: لا يملك العامل حصته إلا بالقسمة، ولا تجب الزكاة على العامل إلا إذا توفرت شروط الزكاة في حق رب المال وحده، دون نظر إلى العامل؛ لأنه أجير، وترجّح شبه العامل عندهم بالأجير، لاختصاص رب المال بالغرم، دون العامل إذا ضاع رأس المال، ولو كان شريكاً لغرم معه، ولأن القراض معاوضة على عمل، فهو كالإجارة.
وأعمل ابن القاسم الشبهين، فقال بلزوم توفر شرط الزكاة في كليهما، للشبه بالشركة، وقال بسقوط الزكاة عن العامل إن سقطت عن رب المال، للشبه بالإجارة.
(الغرياني ص 443) .
جـ - من تردُّد الفرع بين أصلين أن الحر إذا قتل عبداً، فإن عليه قيمته وإن زادت على دية الحر، إلحاقاً له بالحر، لشبهه به في الإنسانية، وقيل عليه قيمته ما لم تزد على دية الحر، إلحاقاً له بالدابة والياقوتة في المالية والتصرف بالملك، والمشهور هو الأول.
(الغرياني ص 444) .
8 -
تعارض الأصل والظاهر
حرر ابن الصلاح الضابط في ذلك، فقال: "إذا تعارض أصلان، أو أصل
وظاهر، وجب النظر في الترجيح، كما في تعارض الدليلين، فإن تُرُدد في الراجح فهي مسائل القولين، وإن ترجح دليل الظاهر حكم به بلا خلاف، وإن ترجح دليل الأصل حكم به بلا خلاف " فالأقسام أربعة.
الأول: ما يرجح فيه الأصل جزماً، كمن شك: أصلى ثلاثاً أم أربعاً، فإن
الأصل عدم الزيادة، والظاهر أنها أربع لكثرة الركوع والسجود مثلاً وطول الزمن، بحيث إنه خالف عادة نفسه في فعلها، وكمن ظن طلاقاً أو عتقاً، فإن الأصل فيهما العدم، والظاهر المظنون وقوعهما.
الثاني: ما يرجح فيه الظاهر جزماً، وضابطه أن يستند إلى سبب منصوب شرعاً، أو سبب معروف عادة، أو يكون معه ما يعضد به.
(اللحجي ص 32،.
(ابن رجب 3/163) .
ومثال السبب المنصوب شرعاً: الشهادة تعارض وضع اليد وبراءة الذمة، فيعمل بالشهادة، وإخبار الثقة بنجاسة الماء والأصل طهارته، وإخبار الثقة بدخول الوقت والأصل عدم دخوله، ونحو ذلك.
ومثال السبب المعروف عادة: استعمال السرجين في أواني الفخار فيحكم
بالنجاسة قطعاً، ومثله الماء الهارب من الحمام، لاطراد العادة بالبول فيه، فيحكم بالنجاسة، قاله الزركشي في " قواعده ".
ومثال ما يعتضد به الظاهر: مسألة بول الظبية إذا بالت، ووجد الماء عقب بولها متغيراً فيحكم بنجاسته،.
(اللحجي ص 33) .
ويقدم الظاهر على الأصل، لأن الظاهر أمر عارض على الأصل ويدل على
خلافه، ولأن الأصل إذا اعترض عليه دليل خلافه بطل، ولذلك أمثلة:
أ - القضاء بالنكول: فإن اعتباره في القضاء ليس إلا رجوعاً إلى مجرد القرينة
الظاهرة، فقدمت على أصل براءة الذمة.
(الزرقا ص 110) .
ب - مسألة العنّين: إذا ادعى الوصول إلى زوجته التي تزوجها بكراً، وأنكرت الوصول إليها، وقال النساء: إنها ثيب، فإن الوصول إليها من الأمور العارضة، فالأصل عدمه، لكن لما عارضه الظاهر، وهو الثيوبة، قُدم عليه، فكان القول للزوج.
(الزرقا ص. 11) .
جـ - إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر، فيكون مهر المثل شاهداً لقول الزوجة، ويكون الأصل، وهو عدم الزيادة التي تدعيها الزوجة، شاهداً للزوج، ولكن لما عارضه الظاهر، الذي هو شهادة مهر المثل المؤيدة لدعوى المرأة بالزيادة، قُدم عليه، فكان القول قولها.
(الزرقا ص 110) .
د - لو أشهد المشتري أنه يشتري هذا الشيء لفلان، ثم بعد أن اشتراه ادعى فلان أن شراءه كان بأمره، وأراد أخذه، وأنكر المشتري كونه بأمره، فالقول لفلان، فإن الأصل عدم الأمر من فلان، ولكن رجحت دعواه الأمر حيث أيدها الظاهر، وهو إشهاد المشتري على أنه يشتري له.
(الزرقا ص 110) .
هـ - لو دفع الوكيل بشراء شيء غير معين الثمن من دراهم الموكل، أو أضاف العقد إليها، فإن كلاً منهما ظاهر في نية الشراء للموكل، فإن تكاذبا في النية يكون القول قول من يشهد له هذا الظاهر من بائع أو مشتر.
(الزرقا ص 111) .
و لو اشترى دابة ثم اطلع على عيب قديم فيها، فركبها وجاء ليردها، فقال البائع: ركبتها لحاجتك، وقال المشتري: بل ركبتها لأردها، فإن القول للمشتري، وذلك لأن الظاهر من حاله لما جاء وابتدأ ردها راكباً، أن يكون الركوب لأجل الرد.
(الزرقا ص 111) .
الثالث: ما يرجح فيه الأصل على الأصح، وأمثلته لا تكاد تنحصر، كالشيء الذي لا يقين بنجاسته، ولكن الغالب فيه النجاسة، كثياب الخمارين والجزارين والكفار المتدينين بالنجاسة، والطرق التي يغلب نجاستها، والمقبرة المنبوشة التي لا يستيقن بنجاستها، بأن يحصل النبش في أطرافها، والغالب على الظن انتشار النجاسة فيها، وفي جميع ذلك قولان، أصحهما الحكم بالطهارة في الكل استصحاباً للأصل.
ونعلم أن الضعف هنا بالنسبة إلى قوة الأصل، وإلا فالظن الحاصل في هذه المسائل قوي من حيث هو..
(اللحجي ص 33) .
الرابع: ما يرجح فيه الظاهر على الأصح، وذلك إذا كان سبباً قوياً منضبطاً، وفيه فروع: منها لو شك بعد السلام في ترك ركن غير النية وتكبيرة الإحرام فإنه لا يؤثر على المشهور من القولين، لأن الظاهر مضيها على الصحة، والشرط كالركن على الأصح في عدم تأثير الشك فيه بعد السلام، أما الشك في النية وتكبيرة الإحرام فيؤثر على المعتمد أي فتلزمه إعادة الصلاة لشكه في أصل الانعقاد، ورجح بعضهم أن النية وغيرها سواء أي في عدم تأثير الشك بعد السلام.
وإذا تعارض أصل وظاهر فللمالكية قولان في المقدم منهما، ويختلف الأمر
باختلاف المسائل.
تعارض الأصل والظاهر عند المالكية
إذا تعارض أصل وظاهر فللمالكية في المقدم منهما قولان، ويتفق ذلك مع
تعارض الأصل والغالب، وفيهما مسائل:
أ - المشتري إذا وجد بالمبيع عيباً ظاهراً، وادّعى عدم العلم به وقت العقد، قُبل قوله في الرد بالعيب على قول مالك، تقديماً للأصل على الظاهر، لأن الأصل عدم العلم بالعيب، وقال ابن حبيب: لا يقبل قوله في الجهل بالعيب، تقديماً للظاهر على الأصل، لأن الغالب في العيب الظاهر أن يعلمه المشتري عند العقد، وعلمه به يُسقط حقه في الرد.
(الغرياني ص 74) .
ب - إذا تنازع بزاز ودباغ في جلد، أو قاض وجندي في رمح، أو عطار ونجار في مسك، أو حداد وعالم في كتاب، ولا بينة لواحد منهما على الآخر، قُضي بالجلد للدباغ، وبالرمح للجندي، وبالمسك للعطار، وبالكتاب للعالم، تقديماً للظاهر.
وهل بيمين أو بلا يمين، فيه خلاف بناء على قاعدة "العادة هل هي كالشاهد أو كالشاهدين؟ "
فإن عُدّت كالشاهد لزمت معها اليمين، وإلا فلا.
(الغرياني ص 74) .
جـ - الصلاة في المقبرة القديمة، فيها قولان، ففي قول تجوز بناء على تقديم الأصل وهو الطهارة، وفي قول لا تجوز، بناء على الظاهر؛ لاختلاط جثث الموتى بأجزاء الأرض.
(المقري 1/ 264) .
9 -
الأصل والظاهر
إذا تنازع الخصمان اختلفت مزاعمهما نفياً وإثباتاً، ويحتاج القاضي في فصل
الخصومة إلى مرجح يرجح به، في مبدأ الأمر، زعم أحدهما على زعم الآخر، وإن وجوه الترجيح الأولية كثيرة منها: الأصل والظاهر، وهذا يقتضي التوضيح والبيان لكل منهما:
أولاً: الأصل
الأصل في اللغة: أسفل الشيء، ويطلق في الاصطلاح على معان عدة.
كالراجح، والدليل، وما يقابل الفرع، وبمعنى القاعدة التي تبنى عليها المسائل.
والمراد هنا بالأصل القاعدة المستمرة أو الاستصحاب.
والأصل له أنواع كثيرة، منها: براءة الذمة، وكون اليقين لا يزول بالشك، والأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، والأصل فيما جهل قدمه وجدته أن يعتبر قديماً إذا كان في ملك خاص، وحادثاً إذا كان في ملك غيره، والأصل في الكلام الحقيقة، والأصل في الصفات العارضة العدم، وفي الصفات الوجودية الوجود، والأصل في البيع أن يكون باتاً قطعياً.
والأصل في العقود - غير الزارعة بعد وجودها - أن تكون صحيحة، فلو
اختلف العاقدان في صحة البيع أو فساده، فالقول لدعي الصحة، أما المزارعة فالقول فيها قبل المزراعة لمدعي الفساد، وبعدها لرب البذر، سواء ادعى الصحة أو الفساد، والبينة لمدعي الصحة.
والأصل في الوكالة والعارية الخصوص، وفي المضاربة والشركة العموم.
والأصل فيما لا يعلم إلا من جهة أحد الخصمين، أو كان أحدهما أدرى من
الآخر، أن يقبل قوله فيه بيمينه، ولذا قبلوا قول المرأة في انقضاء عدتها، والمدة
تحتمل، أو عدم انقضائها، بيمينها، لكون ذلك لا يعلم إلا من جهتها، وقبلوا قول المملِّك في بيان جهة التمليك، وقول الدافع في بيان جهة الدفع، لأنهما أدرى بها ممن تلقى الملك أو القابض، فلو ادعى المملك القرض، وادعى الآخر الهبة مثلاً.
فالقول قول المملِّك، وكذا لو كان عليه دينان، وبأحدهما رهن أو كفيل، فدفع له مبلغاً من المال، ثم اختلفا، فطلب الدافع ردَّ الرهن عليه بزعم أن ما دفعه عن دين الراهن، أو زعم براءة الكفيل، وأن ما دفعه إنما دفعه عن دين الكفالة، وزعم الدائن أنه عن الدين الآخر، فالقول قول الدافع بيمينه؛ لأن المملك والدافع أدرى بجهة التمليك والدفع.
والأصل في البيع هو الجد لا الاستهزاء، فلو اختلف المتعاقدان فيهما فالقول
لمدعي الجد، لأنه الأصل.
والأصل في مطلق الشركة التنصيف، فلو أقر بأن هذا الشيء مشترك بيني وبين فلان، أو هو لي ولفلان، أو هو بيني وبينه، فهو على المناصفة، فيكون القول قول من يدعيها، لأنها الأصل، ومن يدعي خلافها فعليه البرهان، إلا إذا بين المقر خلاف المناصفة موصوفاً بإقراره، كقوله: هو مشترك بيني وبينه أثلاثاً، ثلثاه لي، وثلثه له مثلاً، صدق، والظاهر أنه يصدق بيمينه.
والأصول يعسر استقصاؤها في كل عقد أو تصرف، أو عبارة، وإن هذه الأصول يتداخل بعضها في بعض، لأن بعضها فرع عن الآخر، كفرعية
"بقاء ما كان على ما كان " وفرعية "اليقين لا يزول بالشك "
وفرعية "براءة الذمة" عن "الأصل في الصفات العارضة العدم ".
ومتى تنازع شخصان، وكان أحدهما يشهد له أصل من هذه الأصول يترجح قوله حتى يقوم دليل على خلافه، لقولهم: إن القول قول من يشهد له الأصل.
ثانياً: الظاهر
وهو الحالة القائمة التي تدل على أمر من الأمور، وهو قسمان:
القسم الأول: هو ما لم يصل في الظهور إلى درجة اليقين، وهو قسيم الأصل، ويقع به الترجيح في الابتداء، وتحته نوعان:
النوع الأول: وهو تحكيم الحال الذي يتوصل به إلى الحكم بوجود أمر في الماضي، بأن يجعل ما في الحاضر منسحباً على الماضي، وهو الاستصحاب المعكوس.
النوع الثاني: وهو دلالة الحال التي ليس فيها سحب ما في الحاضر على الماضي، بل يستأنس بها، ويعتمد عليها في ترجيح أحد الزعمين على الآخر، وهذه أمثلته:
أ - وضع اليد: فلو ادعى شخصان ملك عين، وهي في يد أحدهما، فإن القول قول ذي اليد.
ب - الحمولة على الجدار، واتصال التربيع فيه، فإنه يترجح به زعم من يشهد له أحدهما من الخصمين على الآخر.
جـ - تأييد مهر المثل لقول أحد الزوجين، فيما لو اختلفا في مقدار المهر المسمى، فادعى الزوج الأقل، وادعت الزوجة الأكثر، فإن القول لمن يشهد له مهر المثل بيمينه، فإن كان كما قال أو أقل فالقول قوله، وإن كان كما قالت أو أكثر، فالقول قولها في الزيادة.
د - تأييد نقصان الثمن المسمى عن ثمن المثل فيما لو تبايعا عقاراً، ولم ينصَّا على البتات، ثم اختلفا فادعى أحدهما أن البيع كان باتاً، والآخر أنه كان وفاءً، فإن القول لمدعي البتات، لأنه الأصل في البيع، إلا إذا كان الثمن المسمى ناقصاً عن ثمن المثل، فإن القول حينئذ لمدعي الوفاء، لأن الظاهر شاهد له.
هـ - تأييد قرائن الحال فيما إذا كان رجلان في سفينة مشحونة بالدقيق، فادعى كل واحد السفينة وما فيها، وأحدهما يعرف ببيع الدقيق، والآخر يعرف بأنه ملاح، فإنه يحكم بالدقيق للذي يعرف ببيعه، وبالسفينة للذي يعرف بأنه ملاح، عملاً بالظاهر من الحال.
و لو بعث الزوج إلى زوجته شيئاً، ثم اختلفا، فقالت: أرسلته هدية، وقال: أرسلته من المهر، فالقول قول الزوج بيمينه في غير المهيأ للأكل، لأن الهدية تبرع، والمهر واجب في ذمته، والظاهر أنه يسعى في إسقاط الواجب عن ذمته.
ويجري هذا الحكم بين كل دائن ومدين وقع بينهما نظير هذا الاختلاف، يؤيد ذلك أن المدين إذا كان له كفيل، وقد كفله بأمره، فدفع له الدين، فإن كان دفعه له على وجه قضاء الدين، ثم أراد استرداده منه فإنه ليس له ذلك؛ لأنه ملكه بالدفع.
وإن كان دفعه له على وجه الرسالة، ليدفعه إلى الطالب.
ثم أراد استرداده منه فله الاسترداد، لأنه أمانة في يد الكفيل، وإن أطلق المدين عند الدفع للكفيل ولم يبين أنه على وجه القضاء أو الرسالة، فإنه يقع عن القضاء فلا يملك استرداده، فقد حمل عند الإطلاق على جهة القضاء لما عيه من الدين، لكون القضاء فيه تفريغ الذمة.
وإسقاط الواجب، والأليق بالمدين أن يكون ساعياً وراء ذلك.
ز - ظهور الثيوبة أو البكارة، كما لو تزوج العنين بكراً، ثم طلبت التفريق بدعوى عدم وصوله إليها، وادعى هو الوصول، فأراها الحاكم للنساء، وقلن إنها ثيب أو بكر، فإن القول لأحدهما لمن يشهد له الحال من الثيوبة والبكارة.
ح - اللقطة: يجب دفعها إلى واصفها، نص عليه أحمد، وإن وصفها اثنان فهي لهما، وقيل: يقرع بينهما.
(ابن رجب 2/ 386) .
ط - الأموال المغصوبة، والمنهوبة، والمسروقة، كالموجودة مع اللصوص وقطاع الطريق ونحوهم، يكتفى فيها بالصفة.
(ابن رجب 2/ 386) .
ي - تداعى الموجر والمستأجر دفناً في الدار، فهو لواصفه منهما.
(ابن رجب 2/ 387) .
ك - اللقيط: إذا تنازع اثنان أيهما التقطه، وليس في يد أحدهما، فمن وصفه منهم، فهو أحق به.
(ابن رجب 387/2) .
ل - من وجد ماله في الغنيمة قبل القسمة فإنه يستحقه بالوصف ونحوه مما يدل على أنه له.
(ابن رجب 387/2) .
م - الأصل في باب الخصومات، أو عند المنازعة، أن القول قول من يشهد له الظاهر (السرخسي 5 1/ 6 1، 88، 6 1/ 9 1) .
ن - إذا ادعى الأمين رد الوديعة على مودعها أو أنها تلفت عنده بغير تعد أو
تقصير، وأنكر المودع الرد أو التلف، ولا بينة للمودع ولا الأمين، فالقول هنا للأمين مع يمينه، لأنه متمسك بأصل ظاهر وهو براءة ذمته من الضمان، والمودع يدعي شغل ذمته، فالظاهر شاهد للأمين، فيكون القول قوله (البورنو 2/ 50) .
فهذه مقتضيات الترجيح الأولية التي يتقوى بها زعم أحد المتنازعين على الآخر، والتي يجمعها كلمتا: الأصل والظاهر.
القسم الثاني: وجوه الترجيح الثانوية، غير اليقينية، وهي حجج الشرع الثلاث:
البينة، والإقرار، والنكول عن اليمين، وكذا القرينة القاطعة المذكورة في المادة 1741 من المجلة، ويزاد عليها فرع العيب الذي لا يحدث مثله كالإصبع الزائدة
والخَيَف، فهي من فروع الأمارة القاطعة التي ذكرت في هذه القاعدة.
فإذا تعارض أحد هذه المرجحات الثانوية مع أحد المرجحات الأولية التي هي
الأصل والظاهر، فإنه يتقدم عليها، ويترك الأصل والظاهر، لأن الترجيح بهما إنما كان استئناساً حتى يقوم دليل أقوى على خلافهما، فإذا قام عليه أحد الأدلة الأربعة القوية، التي هي في نظر الشرع تعتبر بمنزلة اليقين، يتبع ويحكم بمقتضاه دون الأصل والظاهر.
وإذا وصل المرجح الظاهر في الظهور إلى درجة اليقين القطعي فإنه يترجح على البينة، حتى لا تقام على خلافه، وله أمثلة:
أ - إذا ادعى الوصى أنه أنفق على اليتيم، أو على عقاره مبلغاً معيناً، فإن كان مبلغاً لا يكذبه فيه الظاهر، فالقول قوله بيمينه، وإن كان مبلغاً يكذبه فيه الظاهر فإنه
لا يقبل قوله فيه، ولو أراد أن يقيم على ذلك بينة لا تقبل بينته أيضاً.
(الزرقا ص 112) .
ب - لو ادعى رجل دابة في يد آخر، وذكر أنها ملكه، ومنتوجة عنده، وأقام بينة شهدت بذلك، وأرخت النتاج بتاريخ تنافيه سن الدابة وتكذبه، ترد الشهادة، وتترك الدابة في يد من هي في يده.
ولو تنازع رجلان الدابة التي هي في يد ثالث، وكل منهما يدعي ملكه لها.
ونتاجها عنده، وأقام كل منهما بينة شهدت له بالملك والنتاج، وأرخت البينتان النتاج بتاريخين مختلفين، وكانت سن الدابة توافق أحد التاريخين دون الآخر، يحكم بالدابة لمن وافقت سنها التاريخ الذي أيد بينته.
وإن رد الشهادة المخالفة لسن الدابة لما أرخته البينة دليل على أنه لو بئين المدعي في دعواه تاريخاً للنتاج، وظهر مخالفة سن الدابة للتاريخ الذي ذكره ترد دعواه من أصلها، ولا يكلف إقامة البينة.
(الزرقا ص 112) .
ص - لو أقر شخص بنسب ولد مجهول النسب وهو في سنه، أو أكبر منه، أو في سن قريبة منه، فلا يقبل هذا الإقرار ولا يثبت به النسب، لأن ظاهر الحال يكذبه، فلا يولد مثله لمثل المقر، فيبطل الإقرار، ولا تقبل عليه البينة بالأولى، لأن الإقرار قد بطل، مع أنه أقوى من البينة، حتى لو أقر الخصم في دعوى، بعد إقامة البينة، فقضى الحاكم عليه، يعتبر القضاء قضاء بإقراره لا بالبينة، إلا في سبع مسائل يقضي فيها بالبينة دون الإقرار، ستمر في قاعدة "لا ضرر ولا ضرار ".
(م/ 19) .
(الزرقا ص 113) .
ولذلك يقول الفقهاء: "إن البينات تقام لإثبات خلاف الظاهر"
والمراد من الظاهر النوع الأول الذي يعتبر قسيم الأصل، ويقع به الترجيح في الابتداء حتى يثبت خلافه، ولا يراد النوع الثاني الذي وصل في الظهور إلى درجة يطرح معها احتمال خلافه.
وإن ترجيح زعم أحد المتخاصمين على زعم الآخر في الابتداء
يكون بشهادة الأصل أو الظاهر حتى يقوم دليل من المرجحات الثانوية على خلافه، فإذا كان الأصل شاهداً
لجهة، والظاهر لجهة يرجح زعم من يشهد له الظاهر غالباً، وإذا عارض الأصلَ أو الظاهرَ شيءٌ من المرجحات الثانوية يقدم عليهما، وهذا في النوع الأول من الظاهر، أما النوع الثاني فإنه لا تقام بينة على خلافه، لأن احتمال خلافه معدوم.
وبهذا يظهر أن القول الراجح هو قول من يتمسك ببراءة ذمته؛ لأنه يشهد له
الأصل، وهو عدم شغلها، حتى يقوم دليل على خلافه.
(الزرقا ص 113) .
وكل ذلك يدخل تحت القاعدة الفقهية "الأصل براءة الذمة".
(م/8) وهي متفرعة عن القاعدة الرئيسية "اليقين لا يزول بالشك "(م/ 4) والبراءة الأصلية يقين مبدئياً حتى يثبت خلافه بدليل.
10 -
تعارض الأصل والغالب
الأصل هو القاعدة المستمرة أو الاستصحاب، كما سبق.
والغالب: هو رجحان الظن بما يخالف الأصل، وقد يُعبر عنه بالظاهر.
فإذا تعارض الأصل، وهو البراءة الأصلية مع الغالب، وهو رجحان الظن بما
يخالف الأصل، فأحياناً يقدم الأصل على الغالب بالإجماع، كما في دعوى الدَّين.
فمن ادعى ديناً، دعوى مجردة عن بينة، فلا تقبل دعواه، ولو كان أصلح أهل زمانه مع أن الغالب صدقه، لأن الأصل براءة ذمة المدين، فلا ينقل عن البراءة الأصلية إلا بدليل، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:"بينتك أو يمينه، ليس لك منه إلا ذلك ".
وأحياناً يقدم الغالب بإجماع، كما في العمل بالبينة إذا شهدت، فإن الغالب
صدقها، والأصل براءة ذمة المشهود عليه، فمن كان له بينة حكم له بها على خلاف البراءة الأصلية.
وأحياناً يكون التعارض بين الأصل والغالب محل اجتهاد، فيغلّب الأصل تارة، لترجّحه بالظواهر وقرائن الأحوال، وتارة يقدم الغالب لقواعد أخرى في الشريعة، كاعتبار العادة بشاهدين في قول، فيقدم الغالب على الأصل، وقاعدة الغالب كالمحقق في قول، فيقدم على الأصل، كما في القول بنجاسة لباس الكافر وغير المصلي، تغليباً على الأصل بطهارتهما.
11 -
أقسام الاشتباه
الاشتباه ثلاثة أقسام:
الأول: يوجب المنع من الكل، فيما إذا اشتبهت الميتة بالمذكاة، والطاهر
بالنجس، والمباح نكاحها بالمحرَّم، والطاهر من المآكل بالنجس.
الثاني: ما يوجب استعمال الكل، وهو: فيما إذا اشتبه الطاهر بالطهور.
والثياب الطاهرة بالنجسة.
الثالث: ما يوجب التحري والاجتهاد، وهو فيما إذا اشتبهت القبلة، وإذا
اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة وكثر عدد النجس.
وقال المالكية: الحكم عند الاشتباه التحري، ما لم يتيسر اليقين على الأصح، فإذا تيسر اليقين امتنع التحري، بأن كان معه ما تتيقن طهارته، أو كان قريباً من شط نهر، فلا يجوز له التحري حينئذ، فإن تعذر التحري فطلب البراءة ما لم يعارض ساقط الحرج على الأصح، وفي التيمم للوقت عند الاشتباه في الأواني.
واشترط قوم في التحري نفي البدل، واشترط آخرون غلبة المجزئ.
ويتفرع على القاعدة الأساسية عدة قواعد فرعية، وهي القواعد الآتية، وعددها خمس عشرة قاعدة.