المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌101 - (6) باب ما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة لأهل المحشر (المسماة بالشفاعة العظمى) - الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج - جـ ٥

[محمد الأمين الهرري]

فهرس الكتاب

- ‌96 - (1) باب: آخر أهل النار خروجًا منها

- ‌97 - (2) باب آخر أهل الجنة دخولًا الجنة

- ‌98 - (3) باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها

- ‌99 - (4) باب عرض صغار الذنوب على العبد وإقراره بها وتبديل كل سيئة منها بحسنة

- ‌100 - (5) باب انطفاء نور المنافقين على الصراط ونجاة المؤمنين على اختلاف أحوالهم والإذن في الشفاعة وإخراج من قال لا إله إلا الله من النار

- ‌101 - (6) باب ما خُصَّ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة لأهل المحشر (المسماة بالشفاعة العظمى)

- ‌102 - (7) باب: كون النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء أتباعًا وأولهم شفاعة وكونه أول من تفتح له الجنة منهم

- ‌103 - (8) باب: اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوته شفاعة لأمته

- ‌104 - (9) باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وبكائه شفقة عليهم

- ‌105 - (10) باب: أن من أشرك بالله وعبد الأوثان من أهل الفترة يدخل النار مخلدًا فيها لا تنفعه شفاعة شافع ولا قرابة مُقرب

- ‌106 - (11) باب: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين وأنه لا ينفعهم إذا ماتوا على الشرك

- ‌107 - (12) باب: صعود النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا وقوله لعشيرته الأقربين: سلوني من مالي ما شئتم ولا أملك لكم من اللَّه شيئًا

- ‌108 - (13) باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في التخفيف عنه

- ‌109 - (14) باب أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة

- ‌110 - (15) باب من لم يؤمن لن ينفعه عمل صالح في الآخرة

- ‌111 - (16) باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم

- ‌112 - (17) باب كم يدخل الجنة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بغير حساب ولا عذاب

- ‌(تتمة في مباحث تتعلق بهذا الحديث)

- ‌113 - (18) باب أمة محمد صلى الله عليه وسلم نصف أهل الجنة

- ‌ كتاب الطهارة

- ‌114 - (19) (1) باب فضل الوضوء

- ‌115 - (20) - (2) باب في بيان صفة الوضوء الكامل (أي كيفيته)

- ‌116 - (21) (3) باب فضل الوضوء والصلاة عقبه

- ‌117 - (22) (4) باب إذا أحسن الرجل وضوءه وصلاته بخشوعها وركوعها وسائر أركانها تكون كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يرتكب كبيرة

- ‌118 - (23) (5) باب كون صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة

- ‌119 - (24) (6) باب حجة من قال يثلث مسح الرأس كما يثلث كسل سائر الأعضاء

- ‌120 - (25) (7) باب من أتم وضوءه كما أمره الله تعالى فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن

- ‌121 - (26) (8) باب من أحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فصلى مع الجماعة غُفر له

- ‌122 - (27) (9) بابٌ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر

- ‌123 - (28) (10) باب الذكر المستحب عقب الوضوء

- ‌124 - (29) (11) باب وضوء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌125 - (30) (12) باب الإيتار في الاستجمار والاستنثار

- ‌126 - (31) (13) باب وعيد من لم يسبغ الوضوء

- ‌127 - (32) (14) باب وجوب استيعاب محل الفرض بالطهارة

- ‌128 - (33) (15) باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء

- ‌129 - (34) (16) باب استحباب إطالة الغُرَّة والتحجيل في الوضوء

- ‌130 - (35) (17) باب بيان سيما أمته صلى الله عليه وسلم حين ورودهم عليه على الحوض وبيان قدر الحوض وصفته وبيان ذود رجال من أمته عنه

- ‌131 - (36) (18) باب بلوغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء

- ‌132 - (37) (19) باب فضل إسباغ الوضوء مع المكاره

- ‌133 - (38) (20) باب السواك

- ‌[تتمة]

- ‌134 - (39) (21) باب خصال الفطرة والتوقيت فيها

- ‌(فصل في مباحث خصال الفطرة العشرة)

- ‌135 - (40) (22) باب الاستنجاء والنهي عن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط وعن الاستنجاء بروث أو عظم وعن الاستنجاء باليمين

- ‌136 - (41) (23) باب ما جاء من الرخصة في ذلك

- ‌137 - (42) (24) باب النهي عن التمسح باليمين من الخلاء وعن التنفس في الإناء عند الشرب

- ‌138 - (43) (25) باب التيمن في الطهور وغيره

- ‌139 - (44) (26) باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال

- ‌140 - (45) (27) باب حمل الإداوة والعَنَزَة مع الإمام والأمراء ليستنجي بمائها

- ‌141 - (45) (28) باب المسح على الخفين

الفصل: ‌101 - (6) باب ما خص به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة لأهل المحشر (المسماة بالشفاعة العظمى)

‌101 - (6) باب ما خُصَّ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة لأهل المحشر (المسماة بالشفاعة العظمى)

372 -

(172)(8) حَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ فُضَيلُ بْنُ حُسَين الْجَحْدَرِيُّ ، ومُحَمَّدُ بْنُ عُبَيدٍ الْغُبَرِيُّ (وَاللَّفْظُ لِأَبِي كَامِلٍ)، قَال: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ، (وقَال ابْنُ عُبَيدٍ: فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ)

ــ

101 -

(6) باب ما خُصَّ به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الشفاعة العامة لأهل المحشر (المسماة بالشفاعة العظمى)

372 -

(172) - (8)(حدثنا أبو كامل فُضيل بن حسين الجحدري) بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة ثم دال مهملة مفتوحة نسبة إلى جدٍّ له اسمه جحدر البصري ثقة حافظ من العاشرة مات سنة (237) روى عنه في (6) أبواب تقريبًا (ومحمد بن عبيد) بن حِساب بكسر الحاء وتخفيف السين المهملة وباء موحدة (الغُبَري) بضم المعجمة وتخفيف الموحدة المفتوحة أبو عبد الله البصري ثقة من العاشرة مات سنة (238) روى عنه في (4) أبواب تقريبًا، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه، وأتى بقوله (واللفظ) أي لفظ الحديث الآتي (لأبي كامل) تورعًا من الكذب على محمد بن عبيد (قالا) أي قال كل من الجحدري والغبري (حدثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري البزاز الواسطي مشهور بكنيته ثقة ثبت من السابعة مات سنة (176) روى عنه في (19) بابا، وليس عندهم وضاح إلا هذا الثقة (عن قتادة) بن دِعامة الأكمه السدوسي أبي الخطاب البصري ثقة ثبت من الرابعة مات كهلًا سنة (117) روى عنه في (25) بابًا تقريبًا (عن أنس بن مالك) البصري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا السند من رباعياته رجاله كلهم بصريون إلا أبا عوانة فإنه واسطي (قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله) سبحانه وتعالى (الناس) من الأولين والآخرين (يوم القيامة) لرب العالمين والمُجازاةِ على عمل العاملين (فيهتمون) أي فيعتنون ويصرفون همَّتهم إلى طلب الشفاعة (لـ) شدة الكرب والازدحام في (ذلك) الموقف الرهيب هذا لفظ أبي كامل (وقال ابن عبيد) الغُبري (فيُلهَمُون) أي يُلقون في قلوبهم طلب الشفاعة (لذلك) الموقف الرهيب، قال النواوي: ومعنى اللفظين متقارب معنى الأول أنهم يعتنون بسؤال الشفاعة وإزالة

ص: 41

فَيَقُولُونَ: لَو اسْتَشْفَعْنَا عَلَى رَبِّنَا حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، قَال: فَيَأْتُونَ آدَمَ عليه السلام، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْخَلْقِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ ،

ــ

الكرب الذي هم فيه، ومعنى الثاني أن الله سبحانه يلهمهم سؤال ذلك والإلهام أن يُلقي الله تعالى في النفس أمرًا يحمل على فعل الشيء أو تركه (فيقولون) أي يقول بعضهم لبعض (لو استشفعنا على ربنا) أي لو طلبنا الشفاعة والواسطة إلى ربنا (حتى يُريحنا) أي لكي يُحَصَّل لنا الراحة (من) تعبنا وازدحامنا في وقوفنا في (مكاننا) وموقفنا (هذا) الموقف الرهيب أو ليزيلنا من موقفنا هذا ولو إلى النار (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيأتون آدم) أبا البشر (عليه السلام) قال الأبي: إتيانهم آدم عليه السلام مع علمهم في الدنيا أن المختص بهذه الشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يحتمل أنه ممن لم يعلم ذلك أو علم ولكنه علم أن الأمر هكذا يقع إظهارًا لشرفه صلى الله عليه وسلم فإنه لو بُدئ به لقيل لو بُدئ بغيره لاحتمل أن يشفع أما بعد امتناع الجميع وسُئل هو فأجاب فهو النهاية في الشرف وعلو المنزلة ويحتمل أنه ممن علم ولكنه دَهِشَ. اهـ منه (فيقولون) لآدم (أنت آدم أبو الخلق) أي أبو البشر فهو من إطلاق العام وإرادة الخاص، قال السنوسي: هذا الكلام من باب قول الشاعر:

أنا أبو النجم وشعري شعري

وهو مبهم فيه معنى الكمال لا يعلم بما يراد منه ففُسر بما بعده من قوله أبو الخلق خلقك الله بيده إلى آخره (خلقك الله) سبحانه وتعالى (بيده) التامة القدرة يعني بلا واسطة أب وأم وإلا فالكل مخلوق بيده تعالى (ونفخ فيك من رُوحه) والإضافة فيه للتشريف لا للتخصيص وإلا فأرواح الخلائق له تعالى. قال القاضي عياض: قوله (من روحه) الإضافة فيه إضافة مُلك أي مملوك إلى مالك وتخصيص وتشريف (قلت) مذهب السلف أن لله تعالى يدًا أثبتها لنفسه فنثبتها كما أثبتها لنفسه ونعتقدها من غير تأويل ولا تكييف ولا تشبيه وهذا هو الأسلم، وتكون فائدة الاختصاص بآدم أنه تعالى خلقه بيده ابتداءً من غير سبب ولا واسطة خلق ولا أطوارٍ قَلَبه فيها وذلك بخلاف غيره من ولده ويحتمل أن يكون شرفه بالإضافة إليه كما قال {بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ} وقوله (ونفخ فيه من روحه) والروح هنا جبريل عليه السلام كما في قوله تعالى {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} وقوله {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)} وشرَّفه بالإضافة كما في قوله {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} وهو جبريل على قول أكثر

ص: 42

وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا، أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ

ــ

المفسرين أي كان كل واحد من آدم وعيسى عليهم السلام من نفخة الملك فصار المنفوخ فيه ذا روح من ريح نفخته ولا يلتفت إلى ما يقال من غير هذا. اهـ من المفهم.

(وأمر الملائكة) الكرام بالسجود لك (فسجدوا لك) أي سجدت الملائكة لك وأنت لك منزلة عند ربك فـ (اشفع لنا عند ربك) أي فاطلب لنا الخير والفرج عند ربك (حتى يُريحنا) وينقلنا (من مكاننا) وموقفنا (هذا) الموقف الهائل ولو إلى النار. قال القرطبي: والشفاعة أصلها الضم والجمع ومنه ناقة شَفُوعٌ إذا جمعت بين حلبتين في حلبة واحدة وناقة شافع إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها والشفع ضم واحد إلى واحد، والشُّفعة ضم مِلك الشريك إلى ملكك، فالشفاعة إذن ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع وإيصال منفعة إلى المشفوع له، وسيأتي أقسامها إن شاء الله تعالى. اهـ منه (قلت) الشفاعة طلب الخير من الغير للغير. (فيقول) آدم (لست) أنا (هناكم) أي محلًا لمطلوبكم وأهلًا لذلك أي لست مطلبًا للشفاعة ولا أهلًا لها. قال السنوسي: يحتمل أنه تواضع أو لعلمه أنها لغيره على الجملة، أو لعلمه أنها لمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصًا ولكن عَلِم أنه كذا يقع (قلت) ومعنى لست هناكم لست في المكان والمنزل الذي تحسبوني فيه يريد مقام الشفاعة. اهـ، وذكر ملا علي: أن هنا إذا ألحق به كاف الخطاب يكون لبعد المكان المشار إليه فالمعنى لست في مكان الشفاعة أنا بعيد منه. اهـ. (فيذكر) آدم اعتذارًا إليهم (خطيئته) ومخالفته لربه (التي أصاب) وفعل بها (فيستحيي ربه) أي ويذكر أنه يستحى ويخاف ربه (منها) أي من أجل تلك الخطيئة التي هي أكل الشجرة بعدما نهى عنها. قال القاضي عياض: قوله (ويذكر خطيئته) تسمية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هذه الأشياء خطايا إنما هو إشفاق إذ ليست بخطايا آدم عليه السلام أكَل نسيانًا، ونوح عليه السلام دعا على قوم كفار، وموسى عليه السلام قتل كافرًا، وإبراهيم عليه السلام دفع بقول هو بحسب مراده صِدْق وعتب الله على بعضهم لعلو منزلتهم. اهـ. (ولكن ائتوا نوحًا) أي جيئوا نوحًا (أول رسول بعثه الله) سبحانه وتعالى إلى جميع أهل عصره واذهبوا إليه ليشفع لكم إلى ربكم

ص: 43

قَال: فَيَأْتُونَ نُوحًا صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم الَّذِي اتَّخَذَهُ اللَّهُ خَلِيلًا

ــ

(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيأتون نوحًا صلى الله عليه وسلم فيقولون له: ألا ترى إلى ما نحن فيه اشفع لنا إلى ربك (فيقول) نوح صلى الله عليه وسلم (لست هناكم) أي في المكان الذي تحسبونه فيه من الشفاعة لكم عند ربكم (فيذكر) نوح (خطيئته التي أصابـ) ـها وارتكبها اعتذارًا إليهم وهي دعوته التي أغرقت أهل الأرض حين قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (فيستحيي ربه منها ولكن) أقول لكم نصيحة (ائتوا إبراهيم) الخليل صلى الله عليه وسلم الذي اتخذه الله) سبحانه (خليلًا) أي جعله مُحبًا له كامل المحبة غير ناقصها أو محبوبًا له كامل المحبة غير ناقصها فهو فعيل بمعنى اسم الفاعل أو المفعول، والخليل الصديق المخلص، والخُلة بضم الخاء الصداقة والمودة، ويقال فيها أيضًا خلالة بالضم والفتح والكسر، والخَلة بفتح الخاء الفقر والحاجة، والخِلة بكسرها واحدة خِلل السيوف وهي بطائن أغشيتها، والخَلل الفُرجة بين الشيئين والجمع الخِلال، واختلف في الخليل اسم إبراهيم عليه السلام من أي هذه المعاني والألفاظ أُخذ فقيل إنه مأخوذ من الخُلة بمعنى الصداقة وذلك إنه صَدَقَ في محبة الله تعالى وأخلص فيها حتى آثر محبته على كل محبوباته فبذل ماله للضيفان وولده للقربان وجسده للنيران، وقيل من الخَلَّة التي بمعنى الفقر والحاجة وذلك أنه افتقر إلى الله في حوائجه ولجأ إليه في فاقته حتى لم يلتفت إلى غيره بحيث آلَتْ حاله إلى أن قال له جبريل وهو في الهواء حين رُمي في المنجنيق: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وقيل من الخَلل بمعنى الفُرجة بين الشيئين وذلك لما تخلل قلبه من معرفة الله تعالى ومحبته ومراقبته حتى كأنه مزجت أجزاء قلبه بذلك، وقد أشار إلى هذا المعنى بعض الشعراء فقال:

قد تخلَّلتَ مَسلك الرُّوح مني

ولذا سُمِّي الخليل خليلا

ولقد جمع هذه المعاني وأحسن من قال في الخُلة إنها صفاء المودة التي توجب الاختصاص بتخلل الأسرار والغنى عن الأغيار. اهـ من المفهم.

ص: 44

فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى صلى الله عليه وسلم، الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ، قَال: فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبَّهُ مِنْهَا، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَأْتُونَ عِيسَى رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. عَبْدًا قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ"، قَال: قَال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

ــ

(فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيقول) إبراهيم (لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب) وارتكب (فيستحيي ربه منها) وهي كذباته الثلاث (ولكن ائتوا موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله) سبحانه وتعالى في الدنيا بلا واسطة (وأعطاه التوراة) دفعة (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول) موسى (لست هناكم) أي في المنزلة التي حسبتموني فيها (ويذكر خطيئته التي أصابـ) ـها (فيستحيي ربه منها ولكن ائتوا عيسى) صلى الله عليه وسلم (روح الله) سبحانه والإضافة فيه للتشريف والملك (وكلمته) سبحانه أي المخلوق بكلمة كن بلا واسطة أب من غير أن يتقلب في أطوار الخلق كما تقلب غيره (فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول لست هناكم) أي في منزلة الشفاعة التي حسبتموني فيها (ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدًا قد غُفر له) بالبناء للمفعول أي غفر الله سبحانه وتعالى له (ما تقدم من ذنبه وما تأخر) قيل المتقدم ما قبل النبوة والمتأخر عصمته بعدها، وقيل المتقدم ما وقع والمتأخر ما لم يقع على طريق الوعد، وقيل المراد بذلك أمته، وقيل المراد ما وقع سهوًا أو غفلة أو تأويلًا واختاره القشيري، وقيل المعنى ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك، وقيل المراد أنه مغفور له من ذنب أن لو كان، وقيل هو تنزيه له عن الذنوب. اهـ من الإكمال.

وقال النووي: فعلى أن المراد أمته فالمراد بعضهم أو يعني عدم الخلود في النار، وقال القاضي عياض إتيان الناس آدم أولًا وإحالة آدم على نوح عليهما السلام فيه تقديم الآباء وذوي الأسنان في الأمر المهم. اهـ.

(قال) الراوي أنس بن مالك رضي الله عنه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)

ص: 45

"فَيَأْتُونِي، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، فَإِذَا أَنَا رَأَيتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا ، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ

ــ

وقد اختلف العلماء في عصمة الأنبياء من الذنوب اختلافًا كثيرًا والذي ينبغي أن يقال إن الأنبياء معصومون مما يُناقض مدلول المعجزة عقلًا كالكفر بالله تعالى والكذب عليه والتحريف في التبليغ والخطأ فيه، ومعصومون من الكبائر وعن الصغائر التي تُزْرِي بفاعلها وتَحُطُّ منزلته وتُسقط مروءته إجماعًا عند القاضي أبي بكر، وعند الأستاذ أبي بكر أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم، واختلفت أئمتنا في وقوع الصغائر منهم فمن قائل بمنع ذلك، والقول الوسط في ذلك أن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها واستغفروا وتابوا وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا تقبل التأويلات بجملتها وإن قيل ذلك في آحادها. (فيأتوني) إياي (فأستأذن) أنا في الإقبال (على ربي) في طلب الشفاعة أي أطلب منه تعالى الإذن لي في طلب الشفاعة العظمى التي وعدنيها بقوله عز وجل {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (فيؤذن لي) في الإقبال عليه لطلب الشفاعة ومن هذا الكلام يُعلم مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لآداب تلك الحضرة العلية (فإذا أنا رأيته) سبحانه وتعالى (وقعتُ) أي خررتُ وسقطتُ على وجهي حالة كوني (ساجدًا) له تعالى (فيدعني) أي يتركني في السجود (ما شاء الله) تعالى أن يتركني (فيُقال) لي (يا محمد ارفع رأسك) من السجود و (قل) ما شئت (تُسمَع) في قولك و (سل) ما شئت (تُعطه) أي تعط مسئوولك فالضمير راجع إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو بمعنى المفعول ويحتمل كون الهاء للسكت كما في المرقاة، و (اشفع) أي اطلب الشفاعة فيما شئت (تُشَفَّع) أي تقبل في شفاعتك (فأرفع رأسي) من السجود (فأحمد ربي بتحميدٍ يُعلِّمنيه) أي يُلهمنيه (ربي) يومئذ (ثم أشفع) في إخراج المُوحِّدين من النار (فيحُدُّ لي) ربي، ضبطه ملا علي بوجهين وقد اقتصر القسطلاني على وجه واحد، أي يقدِّر لي (حدًّا) أي قدرًا معينًا من المُوحِّدين (فأُخرجهم) أي أُخرج القدر المعين لي من المُوحِّدين (من النار وأدخلهم الجنة ثم أعود) أي أرجع إلى الموضع الذي سجدت فيه أولًا (فأقع)

ص: 46

سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي قَدْرًا فَأُخْرِجَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، (قَال: فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ) قَال: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَي وَجَبَ عَلَيهِ الْخُلُودُ"، (قَال ابْنُ عُبَيدٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَال قَتَادَةُ: أَي وَجَبَ عَلَيهِ الْخُلُودُ)

ــ

أي أسقط (ساجدًا) لله تعالى (فيدعني) أي يتركني في السجود (ما شاء الله أن يدعني) ويتركني (ثم يُقال ارفع رأسك) من السجود (يا محمد) و (قل) من طلباتك ما شئت (تُسمع) في قولك و (سل) ما شئت (تُعطه) و (اشفع) فيما شئت (تُشفع) أي تُقبل في شفاعتك (فأرفع رأسي) من السجود الثاني (فأحمد ربي بتحميد يُعلِّمنيه) يومئذ (ثم أشفع) أي أطلب الشفاعة في إخراج من بقي في النار من المُوحِّدين (فيحُدُّ لي) أي يُعيَّن لي من المُوحِّدين (قدرًا) أي قدرًا معلومًا (فأخرجهم) أي أخرج هؤلاء المعينين لي (من النار وأُدخلهم الجنة قال) أنس بن مالك (فلا أدري) أي لا أعلم (في) المرة (الثالثة أو في الرابعة قال) النبي صلى الله عليه وسلم (فأقول) أنا لربي (يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن) ومنعه من الخروج أي من حكم عليه القرآن بحبسه في النار أبدًا (أي) إلا (من وجب عليه الخلود) في النار لكفره وشركه، قال الإمام مسلم (قال) لنا محمد (بن عبيد) الغُبري (في روايته) هذا الحديث لنا (قال قتادة أي وجب عليه الخلود) فبيَّن أن هذا التفسير كلام مدرج من قتادة، والمعنى أي دل القرآن على خلوده وهم الكفار، قال ملا علي: ومعنى وجب أي ثبت وتحقق أو وجب بمقتضى إخباره تعالى فإنه لا يجوز فيه التخلف أبدًا.

قوله (ثم أشفع فأُخرِجُ من النار) قال القاضي عياض: جاء في هذا الحديث وفي حديث أبي هريرة الآتي رضي الله عنه أن الذي يبدأ به بعد الإذن له شفاعةُ الإخراج، ويأتي في هذا الحديث نفسه من طريق حذيفة رضي الله عنه فيأتون محمدًا فيقوم ويُؤذن له وتُرسل الأمانة والرحم بجنبتي الصراط وبهذا يتصل الحديث لأن هذه هي الشفاعة التي لجأ فيها الخلق لتُريحهم من الموقف ثم بعد ذلك تحل شفاعته صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره، وجاء في أحاديث الرؤية والمحشر المتقدمة الأمر باتباع كل أمة ما كانت

ص: 47

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

تعبد ثم يُميز بين المؤمنين والمنافقين ثم تحل الشفاعة ويوضع الصراط، وبين هذه الأحاديث معارضة في بيان الشفاعة العظمى فيجمع بين هذه الأحاديث بأن يكون الأمر بالإتباع هو أول الفصل وأول مقامه المحمود والشفاعة المذكورة فيه هي الشفاعة في المجيزين على الصراط وهي له صلى الله عليه وسلم لا لغيره كما نص عليه في الأحاديث ثم بعدها شفاعة الإخراج، قال الأبي: قوله وبهذا يتصل الحديث يعني أن الراوي أسقط ذلك في هذا الطريق ويحتمل أن يكون شَفَعَ في الأمرين واكتفى في حديث أنس بشفاعة الإخراج لأنها تستلزم الأخرى لأن الإخراج فرعُ وقوع الحساب. اهـ.

قال السنوسي: قوله (فيَحُدُّ لي حدًّا) يريد أنه يبين له في كل طور من أطوار الشفاعة حدًّا أقف عنده فلا أتعداه مثل أن يقول: شَفعتُك فيمن أخل بالجماعات، ثم يقول: شَفعتُك فيمن أخل بالصلوات ومثله فيمن شرب الخمر ثم فيمن زنى وعلى هذا ليُريه علو الشفاعة في عظم الذنب، وقال أيضًا قوله (فأخرجهم من النار) قال الطيبي: فإن قلت دل أول الكلام على أن المستشفعين هم الذين حُبِسوا في الموقف وهَمُّوا وحزِنوا لذلك وطلبوا أن يُخلِّصهم من ذلك الكرب، ودل قوله (فأخرجهم من النار) على أنهم من الداخلين فيها، فما وجهه؟ (قلت) فيه وجهان: أحدهما لعل المؤمنين صاروا فرقتين فرقة سِيرَ بهم إلى النار من غير توقف وفرقة حُبسوا في المحشر واستشفعوا به صلى الله عليه وسلم فخلصهم مما فيه وأدخلهم الجنة ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زُمرًا بعد زُمر كما دل عليه قوله (فيحُدُّ لي حدًّا) إلى آخره فاختصر الكلام وثانيهما أن يُراد بالنار الحبس والكُربة وما كانوا عليه من الشدة ودُنُوِّ الشمس إلى رؤوسهم وحرها وسفعها وإلجامهم بالعرق وبالخروج الخالص منها، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله (في الثالثة أو في الرابعة) قال: قد جزم في الطريق الآخر أنه في الرابعة وفسر فيها من حبسه القرآن بأنه من وجب عليه الخلود ويأتي في زيادة الحسن في حديث أنس فيقول في الرابعة ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله فيقول: ليس ذلك إليك والجمع بينهما متناف لأن من قال لا إله إلا الله لا يُخَلَّد في النار، ويُجاب بأنه اختلف فقيل يعني من قالها من أمته، وقيل يعني من قالها من غير أمته فالمعنى على الأول، فأقول في الرابعة بعد إخراج أهل تلك المقادير لم يبق من أمتي أي من أتباعي إلا من قال لا إله إلا

ص: 48

373 -

(00)(00) وحدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، ومُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ؛ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَهْتَمُّونَ بِذلِكَ (أَوْ يُلْهَمُونَ ذلِكَ) "

ــ

الله فائذن لي فيه، فيقال: ليس ذلك إليك إنما ذلك لأرحم الراحمين، فيقول: لم يبق بعدُ إلا من وجب عليه الخلود، والمعنى على الثاني فأقول لم يبق من أمتي أي من أهل دعوتي إلا من وجب عليه الخلود فائذن فيمن قال لا إله إلا الله من غير أمتي فقال: ليس ذلك إليك قد استوفيتَ حقك في أمتك وإنما ذلك لله، وتقدم أن أمته تُطلق تارة على أتباعه وتارة على عموم أهل دعوته. اهـ.

وحديث أنس هذا شارك المؤلف في روايته البخاري فقط ذكره في التفسير وفي التوحيد.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أنس رضي الله عنه فقال:

373 -

(00)(00)(وحدثنا محمد بن المثنى) العنزي أبو موسى البصري ثقة ثبت من العاشرة مات سنة (252) روى عنه في (14) بابًا تقريبًا (ومحمد بن بشار) بن عثمان العبدي أبو بكر البصري ثقة من العاشرة مات سنة (252) روى عنه في (12) بابًا تقريبًا، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه (قالا) أي قال كل من المحمَّدَين (حدثنا) محمد (بن) إبراهيم (أبي عدي) السلمي مولاهم أبو عمرو البصري ثقة من التاسعة مات بالبصرة سنة (194) روى عنه في (7) أبواب تقريبًا (عن سعيد) بن مهران أبي عروبة اليشكري مولاهم أبي النضر البصري ثقة حافظ لكنه كثير التدليس واختلط، وكان من أثبت الناس في قتادة من السادسة مات سنة (156) روى عنه في (7) أبواب تقريبًا (عن قتادة) بن دعامة السدوسي أبي الخطاب البصري ثقة ثبت أكمَهُ من الرابعة مات سنة (117) روى عنه في (25) بابًا تقريبًا (عن أنس) بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي النجاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي حمزة البصري مات سنة (93) روى عنه في (12) بابا تقريبًا، وهذا السند من خماسياته ومن لطائفه أن رجاله كهم بصريون، وغرضه بسوقه بيان متابعة سعيد بن أبي عروبة لأبي عوانة في رواية هذا الحديث عن قتادة (قال) أنس (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيهتمون) أي يعتنون (بذلك) أي بسؤال الشفاعة وطلب من يشفع لهم عند ربهم (أو) قال قتادة (يُلهمون ذلك) أي

ص: 49

بِمِثلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ. وَقَال فِي الْحَدِيثِ: "ثُمَّ آتِيهِ الرَّابِعَةَ (أَوْ أَعُودُ الرَّابِعَةَ) فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ إِلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ".

374 -

(00)(00) حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى. حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَام. قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ؛ أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:

ــ

يُلقون في قلوبهم طلب من يشفع لهم عند ربهم، والشك من سعيد بن أبي عروبة أو ممن دونه، وساق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة (بمثل حديث أبي عوانة) عن قتادة (و) لكن (قال) سعيد بن أبي عروبة (في الحديث ثم آتيه) أي آتي المقام الذي قُمت فيه أولًا وسألت فيه الشفاعة وهو مقام الشفاعة (الرابعة) أي في المرة الرابعة (أو) قال قتادة ثم (أعود) إليه (الرابعة) أي المرة الرابعة (فأقول يا رب ما بقي) في النار (إلا من حبسه القرآن) أي وجب عليه الخلود بنص القرآن، قال القاضي: فيه تصريح بما عليه أهل السنة من عدم تخليد العصاة وردٌّ على المعتزلة والخوارج لأن فيه إخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان (فإن قلت) الناس في الوزن ثلاثة: من رجحت حسناته ومن تساوت كفتاه فهذان إلى الجنة الأول يدخلها ابتداء والثاني بعد حبسه في الأعراف مدة والثالث من رجحت سيئاته فهذا إنما يُعاقب ببقائه في النار مقدار ذلك الرُّجحان ثم يُخرج إذ لا يُخلد أحد من أهل القبلة في النار فأين أثر الشفاعة؛ (قلت) أثرها في إخراجه قبل مكثه القدر الذي يستحق إذ لو وقعت الشفاعة عند تمامه لم تكن شفاعة، والله أعلم. اهـ من الأبي.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثانيًا في حديث أنس رضي الله عنه فقال:

374 -

(00)(00)(حدثنا محمد بن المثنى) العنزي البصري قال (حدثنا معاذ بن هشام) الدستوائي البصري صدوق ربما وهِم من التاسعة مات سنة (200) روى عنه في (4) أبواب تقريبًا (قال) معاذ (حدثني أبي) هشام بن أبي عبد الله سَنْبَر المعروف بالدستوائي كما سيأتي في المتن أبو بكر البصري ثقة ثبت من كبار السابعة مات سنة (154) روى عنه في (7) أبواب تقريبًا (عن قتادة) بن دعامة البصري (عن أنس بن مالك) الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا السند من خماسياته ومن لطائفه أن رجاله كلهم بصريون، وغرضه بسوقه بيان متابعة هشام الدستوائي لأبي عوانة وسعيد بن أبي عروبة في رواية هذا الحديث عن قتادة، وفائدتها بيان كثرة طرقه (أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال

ص: 50

"يَجْمَعُ اللهُ الْمُؤمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْهَمُونَ لِذلِكَ"

بِمِثلِ حَدِيثِهِمَا. وَذَكَرَ فِي الرَّابِعَةِ "فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إلا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ"، أَي وَجَبَ عَلَيهِ الْخُلُودُ.

375 -

(00)(00) وحدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَهِشَامٌ صَاحِبُ الدَّسْتَوَائِيِّ،

ــ

يجمع الله) سبحانه وتعالى (المؤمنين يوم القيامة فيُلهمون لذلك) أي يُلقون في قلوبهم طلب الشفاعة لذلك الكرب الذي نزل بهم في الموقف من الازدحام ودُنُوِّ الشمس إليهم والجام العرق لهم، وساق هشام (بمثل حديثهما) أي بمثل حديث أبي عوانة وسعيد بن أبي عروبة (و) لكن (كر) هشام (في الرابعة) بلا شك (فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه) ومنعه (القرآن) من الخروج (أي وجب عليه الخلود) في النار أي ثبت واستقر عليه الخلود في النار بمقتضى وعيده تعالى وهم الكفار.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة ثالثًا في حديث أنس رضي الله عنه فقال:

375 -

(00)(00)(وحدثنا محمد بن منهال الضرير) التميمي المجاشعي أبو عبد الله أو أبو جعفر البصري ثقة حافظ من العاشرة مات سنة (231) روى عنه المؤلف في الإيمان وغيره، قال (حدثنا يزيد بن زُريع) مصغرًا التيمي من بني تيم الله العائشيُّ أبو معاوية البصري ثقة ثبت من الثامنة مات سنة (182) روى عنه في (12) بابًا تقريبًا، قال (حدثنا سعيد بن أبي عروبة) مهران اليشكري أبو النضر البصري. قال النواوي: قد قدَّمنا أن سعيد بن أبي عروبة هكذا يُروى بلا ألف ولا لام في كتب الحديث وأن ابن قتيبة قال في كتابه أدب الكاتب الصواب ابن أبي العروبة بالألف واللام، وقد قدَّمنا أيضًا أن سعيد بن أبي عروبة ممن اختلط في آخر عمره وأن المختلط لا يُحتج بما رواه في حال الاختلاط أو شككنا هل رواه في حال الاختلاط أم في الصحة؟ وقد قدَّمنا أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين محمول على أنهما رويا عنهم قبل الاختلاط (وهشام) بن أبي عبد الله سنبر أبو بكر البصري (صاحب) البَزِّ (الدستوائي) بفتح الدال وإسكان السين المهملتين ثم تاء مثناة من فوق مفتوحة ثم واو بعدها ألف ليِّنة ثم همزة مكسورة بعدها ياء نسبة من غير نون، وهذا هو المشهور في كتب الحديث ومنهم من يزيد نونًا بين الألف والياء نسبة إلى دستواء كُورَةٌ مِن كُوَرِ الأهواز كان يبيع الثياب التي تُجلب منها، فمعنى

ص: 51

عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ؛ قَال: قَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ الْمِسْمَعِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالا: حَدَّثَنَا مُعَاذ، وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ، قَال: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ. حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَال: لَا إِلَةَ إلَّا اللهُ، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً،

ــ

هشام صاحب الدستوائي هشام صاحب البَزِّ والقماش المنسوب إلى دستواء، وفي المُنجد الكورة بضم الكاف وسكون الواو يُجمع على كور بضم الكاف وفتح الواو البقعة التي تجتمع فيها المساكن والقرى والأهواز بلدة معروفة في العجم فهو صفة مخصوصة بهشام فلا تُطلق على ولده معاذ كما وهِمه صاحب المطالع فيما سيأتي في باب صفة الأذان، والله أعلم. كلاهما (عن قتادة) بن دعامة البصري (عن أنس بن مالك) البصري (قال) أنس (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا السند من خماسياته أيضًا ورجاله كلهم بصريون، وغرضه بسوقه بيان متابعة يزيد بن زُريع لابن أبي عدي ومعاذ بن هشام في رواية هذا الحديث عن سعيد وهشام، وفائدتها تقوية السند الأول لأن معاذًا صدوق وابن أبي عدي وإن كان ثقة فيزيد أوثق منه (ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حدثني أبو غسان) بالصرف وعدمه مالك بن عبد الواحد (المِسْمَعِي) بكسر الميم الأولى وفتح الثانية بينهما مهملة ساكنة نسبة إلى مسمعٍ أبي القبيلة البصري ثقة من العاشرة مات سنة (230) روى عنه في (9) أبواب تقريبًا (ومحمد بن المثنى) العنزي أبو موسى البصري كلاهما (قالا حدثنا معاذ) البصري، وأتى بلفظة هو في قوله (وهو ابن هشام) الدستوائي إشعارًا بأن هذه النسبة من زيادته وليست مما سمعه من شيخه، وإنما كررتُ هذا وأشباهه إيضاحًا وتسهيلا على الطالب فإنه إذا طال العهد به ربما ينسى الطالب وقد يقف عليه من لا خبرة له بالموضع السابق (قال) معاذ (حدثني أبي) هشام بن سنبر البصري (عن قتادة) بن دعامة البصري قال (حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال) وهذا السند من خماسياته أيضًا ورجاله كلهم بصريون (يخرج) بالبناء للمعلوم أو للمجهول (من النار في قال لا إله إلا الله) مع عديلتها محمد رسول الله (وكان في قلبه من الخير) كنِيَّة صلة الرحم أو نية أيِّ طاعة كانت كالصلاة والحج والصوم (ما يزن) ويعدل (شعيرة) أي حبة شعير، قال الأبي قوله (وكان في قلبه من الخير) هذا ظاهر في

ص: 52

ثُمَّ يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَال: لَا إِلهَ إلا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيرِ مَا يَزِنُ بُرَّة، ثُمَّ يُخْرَجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَال: لَا إلهَ إلا اللهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيرِ مَا يَزِنُ ذَرَّةً".

زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَال يَزِيدُ: فَلَقِيتُ شُعْبَةَ فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ فَقَال شُعْبَةُ: حَدَّثَنَا بِهِ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَدِيثِ. إلا أَنَّ شُعْبَةَ جَعَلَ، مَكَانَ الذَّرَّةِ، ذُرَةً. قَال يَزِيدُ: صَحَّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامٍ

ــ

أن هذه الأقدار زائدة على الإيمان ويأتي في الرواية الآتية أن هذه الأقدار من الإيمان لأنه قال فيها مثقال كذا من إيمان ويجمع بينهما بان ما سيأتي على تقدير مضاف تقديره مثقال كذا من طاعات إيمانٍ ثم يحتمل أن هذه الزيادة من الطاعات الظاهرة أو من الخفية كالخشوع والشفقة على مسلم (ثم) بعد خروج من ذكر (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله) مع عديلتها (وكان في قلبه) أي في قصده (من الخير) غير الإيمان (ما يزن) ويعدل (بُرة) بضم الباء الموحدة وتشديد الراء المفتوحة أي حبة من بُر وقمح (ثم) بعد خروج ذلك (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير) غير الإيمان (ما يزن) ويعدل (ذرة) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء المفتوحة واحد الذر وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل (زاد) محمد (بن منهال في روايته) لهذا الحديث على غيره جملة قوله (قال) لنا (يزيد) بن زريع (فلقيت شعبة) بن الحجاج (فحدثته) أي فحدثت شعبة (بالحديث) الذي سمعته من سعيد بن أبي عروبة (فقال) لي (شعبة حدثنا به) أي بهذا الحديث (قتادة عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث) المذكور، والجار والمجرور في قوله بالحديث بدل من الجار والمجرور في قوله حدثنا به لأنه يجوز إبدال الظاهر من المضمر كعكسه، قال يزيد بن زُريع (إلا أن شعبة) أي لكن إن شعبة (جعل) في روايته (مكان الذرة) بفتح الذال المعجمة التي هي النمل الأحمر الصغير أي ذكر بدلها (ذُرة) بضم الذال وفتح الراء المخففة الحب المعروف من القوت ولكنه أراد نوعًا منها التي هي أصغرها المسمَّاة بالدُّخُن لأن غيرها من أنواعها لا يليق بهذا المقام لكبر حجمها كالذُرة الحبشية والذُرة الشامية لأن أنواعها تبلغ الآن نحو ثلاثين نوعًا كما هو معروف في الأُرُميا لأنها قُوتُهم واتفقوا على أنه تصحيف من شعبة وأوقعه في هذا التصحيف مجانسة الذرة لما قبلها من الحبوب، كما قال المؤلف رحمه الله تعالى (قال يزيد) بن زُريع (صحَّف) وغير (فيها) أي في لفظ ذرة من الفتح إلى الضم (أبو بسطام)

ص: 53

376 -

(00)(00) حدَّثنا أَبُو الرَّبِيعِ الْعَتَكِيُّ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ. ح وَحَدَّثَنَاهُ سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ (وَاللَّفْظُ لَهُ) حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيدٍ، حَدَّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلالٍ الْعَنَزِيُّ. قَال: انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ

ــ

كنية شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم الحافظ البصري، ووقع عند العُذْرِي وغيره دُرَّة بضم الدال المهملة وتشديد الراء وهو من تصحيف التصحيف. اهـ أبي.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة رابعًا في حديث أنس رضي الله عنه فقال:

376 -

(00)(00)(حدثنا أبو الربيع) سليمان بن داود (العتكي) الزهراني البصري ثقة من العاشرة مات سنة (234) روى عنه في (7) أبواب تقريبًا، وقال القاضي عياض: ونسبه مسلم مرة زهرانيًا ومرة عتكيًا ومرة جمع بينهما ولا يجتمعان بوجه وكلاهما يرجع إلى الأزد إلا أن يكون للجمع بينهما سبب من جِوَار أو حِلف، والأزد من أعظم قبائل العرب وأشهرها تُنسب إلى الأزد بن الغوث بن نَبْتِ بن مالك بن كهلان من القحطانية، راجع معجم قبائل العرب 1/ 15، وزهران هم بنو زهران بن كعب بن الحارث بطن من شنوءة من الأزد والعتكي نسبة إلى العتيك وهم بنو العتيك بن الأسد بن عمران بطن من الأزد كانوا يقطنون عُمان السابق. اهـ منه مع ما في هامشه، قال أبو الربيع (حدثنا حماد بن زيد) بن درهم الأزدي أبو إسماعيل البصري ثقة ثبت ففيه من الثامنة مات سنة (179) روى عنه في (14) بابًا تقريبًا، قال (حدثنا معبد بن هلال العنزي) بفتح العين المهملة والنون بعدها زاي البصري، روى عن أنس بن مالك في الإيمان والفتن وبعض الحديث عن الحسن عن أنس وعُقبة بن عامر الجهني وغيرهم ويروي عنه (خ م س) وحماد بن زيد وسليمان التيمي ومعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة وجماعة، وثقه ابن حبان، وقال في التقريب: ثقة من الرابعة (ح) أي حول المؤلف السند (و) قال (حدثناه) أي حدثنا الحديث المذكور يعني حديث أنس بن مالك (سعيد بن منصور) بن شعبة أبو عثمان الخراساني نزيل مكة ثقة مصنف من العاشرة مات سنة (227) روى عنه في (15) بابا تقريبًا، وأتى بحاء التحويل لغرض بيان قوله (واللفظ) أي لفظ الحديث الآتي (له) أي لسعيد بن منصور لا لأبي الربيع، قال سعيد (حدثنا حماد بن زبد) البصري، قال (حدثنا معبد بن هلال العنزي قال) معبد (انطلقنا) أي ذهبنا مع رهط من أهل البصرة (إلى أنس

ص: 54

ابْنِ مَالِكٍ وَتَشَفَّعْنَا بِثَابِتٍ، فَانْتَهَينَا إِلَيهِ وَهُوَ يُصَلِّي الضُّحَى، فَاسْتَأذَنَ لَنَا ثَابِتٌ، فَدَخَلْنَا عَلَيهِ، وَأَجْلَسَ ثَابِتًا مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ، فَقَال لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسأَلُونَكَ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ. قَال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَغضٍ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: اشْفَعْ لذُرِّيَّتِكَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلكِنْ عَلَيكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام،

ــ

ابن مالك) الأنصاري (وتشفعنا) أي طلبنا الاتصال (بـ) ـواسطة (ثابت) بن أسلم البُناني (فـ) توجهنا إليه و (انتهينا إليه) أي وصلنا إلى بيته (وهو) أي والحال أن أنسًا (يصلي) صلاة (الضحى) أي في وقت الضحوة (فاستأذن) أي طلب الإذن (لنا) في الدخول عليه في مجلسه (ثابت) بن أسلم البُناني (فـ) أذن لنا و (دخلنا عليه) في مجلسه (وأجلس) أنس (ثابتًا على سريره) أي على كرسيه، وفيه أنه ينبغي للعالم وكبير المجلس أن يكرم فضلاء الداخلين عليه ويميزهم بمزيد إكرام في المجلس وغيره، وهذا السند أيضًا من خماسياته ورجاله كلهم بصريون.

قال النواوي: وهذه الأسانيد الخمسة من قوله وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار إلى هنا رجالها كلهم بصريون وهذا الاتفاق في غاية من الحُسْنِ ونهايةِ من الندور أعني اتفاق خمسة أسانيد متوالية في صحيح مسلم جميعهم بصريون، والحمد لله على ما هدانا له. اهـ.

(فقال له) ثابت (يا أبا حمزة) كُنية أنس (أن إخوانك من أهل البصرة) جاؤوك (يسألونك) ويرجون منك (أن تُحدثهم) عن النبي صلى الله عليه وسلم (حديث الشفاعة) أي حديثًا ورد في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة العظمى العامة لجميع الأمم (قال) أنس رضي الله عنه (حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم حديث الشفاعة (قال) محمد في حديثه (إذا كان) أي حصل وجاء (يوم القيامة ماج الناس) واجتمع (بعضهم إلى بعض) أي اختلطوا واضطربوا متحيرين أفاده ملا علي، وفي المصابيح (بعضهم في بعض)(فيأتون آدم) عليه السلام (فيقولون اشفع) إلى ربك أي اطْلُب الخير منه (لذريتك) أي لأولادك ليُريحهم من هذا الموقف الرهيب (فيقول) آدم (لستُ) أهلًا (لها) أي لهذه الشفاعة (ولكن) أقول لكم كلمة نصيحةٍ (عليكم بإبراهيم) الخليل (عليه السلام) أي

ص: 55

فَإِنَّهُ خَلِيلُ اللهِ. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلكِنْ عَلَيكُمْ بِمُوسَى عليه السلام، فَإِنَّهُ كَلِيمُ اللهِ. فَيُؤْتَى مُوسَى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلَكِنْ عَلَيكُمْ بَعِيَسى عليه السلام، فَإِنَّهُ رُوحُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ. فَيُؤْتَى عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلَكنْ عَلَيكُمْ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَأُوتَى فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا. فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأذِنُ عَلَى رَبِّي. فَيُؤْذَنُ لِي، فَأقُومُ بَينَ يَدَيهِ، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيهِ الآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ،

ــ

الزموه واطلبوا منه الشفاعة لكم إلى ربكم (فإِنه خليل الله) سبحانه وتعالى وحبيبه فله وَجَاهةٌ ومنزلة عند الله تعالى (فيأتون إبراهيم) فيقولون له يا إبراهيم أنت خليل الله وصفيه فاشفع لنا إلى ربك (فيقول) لهم إبراهيم (لست) اليوم أهلًا (لها) فيعتذر إليهم ببعض ما وقع له في الدنيا (ولكن عليكم بموسى عليه السلام) أي اذهبوا إليه واطلبوا منه الشفاعة (فإِنه كليم الله) تعالى أي سامع كلامه تعالى في الدنيا فله منزلة عند الله تعالى (فيُؤتى موسى) أي يأتي الناس إليه ويقولون له اشفع لنا إلى ربك يا موسى (فيقول) موسى لهم (لست) أهلًا (لها) أي أهلًا للشفاعة مستحقًا واعتذر إليهم ببعض المعاذير (ولكن) أقول لكم (عليكم بعيسى عليه السلام) أي اذهبوا إليه والزموه حتى يشفع لكم عند ربكم (فإِنه) أي فإن عيسى (روح الله وكلمته) ألقاها إلى مريم بنت عمران، وتقدم تفسيرهما لك بما لا مزيد عليه (فيُؤتى عيسى) أي يأتون عيسى ويقولون له أنت روح الله وكلمته ولك منزلة عند ربك فاشفع لنا عنده (فيقول) عيسى لهم (لست) أهلًا (لها) ومستحقًا بها (ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم أي الزموه واطلبوا منه الشفاعة لكم عند ربكم (فاُوتَى) أنا بصيغة المبني للمجهول أي يأتون ويطلبون مني الشفاعة عند ربهم (فأقول) لهم (أنا) أهلٌ (لها) مستحق بها (فأنطلق) أي فأذهب إلى مقام المناجاة (فأستأذن) في إظهار شكواي (على ربي فيُؤذن لي) في ذلك (فأقوم بين يديه) سبحانه وتعالى (فأحمده) سبحانه (بمحامد لا أقدر عليه) أي أصفه سبحانه وتعالى بأوصاف لا أستطيع عليها (الآن) أي في الدنيا، وفي بعض النسخ (إلا أن يُلهمنيه الله) على الاستثناء بدل الآن، قال النواوي: هكذا هو في الأصول (لا أقدر عليه) بتذكير الضمير وهو صحيح ويعود الضمير في عليه إلى الحمد وكان الظاهر أن يقال (عليها) بتأنيث الضمير فيعود إلى المحامد (يُلهمنيه) أي يُلقي ذلك الحمد (الله) سبحانه وتعالى في قلبي في ذلك الوقت وكان الظاهر أيضًا أن يقال (يُلهمنيها) بتأنيث الضمير الرابط لأن الجملة صفة لمحامد

ص: 56

ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ: رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ بُرَّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفعْ. فَأَقُولُ: أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ لِيَ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ

ــ

(ثم) بعدما وصفته بمحامد (أَخِرُّ) وأسقط على وجهي (له ساجدًا) أي ساجدًا له سبحانه (فيقال لي) أي يُنادي منادٍ من الله سبحانه قائلًا (يا محمد ارفع رأسك) من السجود (وقل) ما شئت من الكلام (يُسْمَعْ لك) قولك سماع قبولٍ (وسل) أي اطلب ما شئت من الله سبحانه في خاصة نفسك وفي أمتك (تُعْطَه) بإسكان الهاء على السكت أو على الوقف أي تعط مسئولك (واشفع) لمن شئت (تُشفَّع) أي تُقبل في شفاعتك (فأقول) أنا يا (رب) يُهمني (أمتي أمتي) بالتكرار مرتين، وفي بعض النسخ يا رب أمتي أمتي بزيادة حرف النداء (فيقال) لي من جنابه سبحانه (انطلق) أي اذهب يا محمد إلى النار (فمن كان في قلبه) من أهل النار (مثقال حبة) أي عدل حبة واحدة ووزنها (من بُرة) أي قمح بضم الباء وتشديد الراء المفتوحة (أو) قال من (شعيرة) واحدة الشعير كلاهما قوت معروف (من إيمان) تمييزُ ذاتٍ لمثقال (فأخرجه منها) أي من النار، قال النواوي: هكذا في بعض الأصول، وفي بعضها فأخرجوه بالضمير مع واو الجمع فالضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الملائكة، وفي بعضها فأخرجوا بحذف الضمير لأنه فضلة فيجوز حذفها (فأنطلق) أي فأذهب إلى النار (فأفعل) ذلك الذي أمرني به ربي (ثم أرجع) ثانيًا (إلى) موضع مناجاة (ربي فأحمده) أي فأصفه (بتلك المحامد) والأوصاف أي بمثلها (ثم) بعد حمده (أَخِرُّ) أي أسقط (له ساجدًا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعطه واشفع تشفع فأقول) يارب يُهمني (أمتي أمتي فيقال لي انطلق) أي اذهب إلى النار (فمن كان في قلبه مثقال حبة) أي وزن حبة (من خردل) حب معروف من الأبازير (من إيمان) تمييز مثقال (فأَخْرِجْهُ) بالإفراد والضمير في جميع الأصول كما أومأ إليه النواوي (منها) أي من النار (فأنطلق) إلى النار (فأفعل) ما أمرني

ص: 57

ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَبِّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُل يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَة، وَاشفَعْ تُشَفعْ. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ لِيَ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ"

ــ

به ربي من الإخراج (ثم أعود) وأرجع (إلى) موضع مناجاة (ربي) ثالثًا (فأحمده بتلك المحامد ثم أَخِرُّ له ساجدًا فيقال لي) مِن ذلك الجناب (يا محمد ارفع رأسك وقل يُسمع لك وسل تُعطه واشفع تُشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال لي انطلق) إلى النار (فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى) بالتكرار ثلاثًا أي أقل أقل أقل (من مثقال حبة من خردل) صفة لحبة (من إيمان) تمييز لمثقال (فأخرجه من النار فأنطلق) إلى النار (فأفعل) ذلك الذي أمرني به ربي، قال النواوي: وفي هذا الحديث دلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلِّمين في أن الإيمان يزيد وينقص، ونظائره في الكتاب والسنة كثير، وفي المفهم قوله:(فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من بُرةٍ أو شعيرةٍ من إيمان فأخرجه منها) إلى أن قال (أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان) اختلف الناس في هذا الإيمان المقدَّر بهذه المقادير فمنهم من قال هو اليقين ورأى أن العلم يصح أن يقال فيه إنه يزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن وباعتبار دوام حضوره وأنه ينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن، وهذا معقول غير أن حَمْل هذا الحديث عليه فيه بُعْدٌ لما جاء من حديث أبي سعيد الخدري السابق حيث قال الشافعون: لم نَذَرْ فيها خيرًا مع أنه تعالى مُخرج بعد ذلك جموعًا كثيرة ممن يقول لا إله إلا الله وهم مؤمنون قطعًا، ولو لم يكونوا مؤمنين لما خرجوا بوجه من الوجوه، ولذلك قال تعالى: لأُخْرِجنَّ من قال لا إله إلا الله وعن إخراج هؤلاء عبَّر بقوله فيَقْبِضُ قبضةً فيُخْرج قومًا لم يعملوا خيرًا قط.

فإذًا فالأصح في تأويل هذا الحديث أن يكون الإيمان هنا أطلق على أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشِبْهِ ذلك، وسماها إيمانًا لكونها في محل الإيمان أو من الإيمان على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره أو كان منه بسبب وإنما قلنا: أراد به أعمال القلوب هنا دون أعمال الأبدان لقوله: (من كان في قلبه) و (وجدتم في قلبه) فخصه بالقلب، ولا جائز أن يكون التصديق على ما تقدم فتعين ما قلنا، والله أعلم.

ص: 58

هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ الَّذِي أَنْبَأَنَا بِهِ. فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ. فَلَمَّا كُنَّا بِظَهْرِ الْجَبَّانِ قُلْنَا: لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَنِ فَسَلَّمْنَا عَلَيهِ، وَهُوَ مُسْتَخْفٍ فِي دَارِ أَبِي حُذَيفَةَ. قَال: فَدَخَلْنَا عَلَيهِ فَسَلَّمْنَا عَلَيهِ. فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ، جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَبِي حَمْزَةَ. فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْلَ حَدِيثٍ حَدَّثَنَاهُ فِي الشَّفَاعَةِ. قَال: هِيهِ،

ــ

وذكر الحبة ونصفها والمثقال ونصفه وأدنى من ذلك هي كلها عبارات عن كثرة تلك الأعمال وقِلَّتِهَا. اهـ.

(هذا) المذكور (حديث أنس) أي لفظ حديث أنس بن مالك (الذي أنبأنا) وأخبرنا (به) في ذلك اليوم، وهذا من كلام معبد بن هلال العنزي أي قال معبد: هذا المذكور حديث أنس الذي سمعنا منه (فخرجنا من عنده) أي من عند أنس (فلما كنا بظهر الجَبَّان) أي بظاهر مقابر البصرة وأعلاها المرتفع منها، والجبَّان مقابر البصرة كالحجون لمكة والبقيع للمدينة، قال أهل اللغة: الجبَّان والجبَّانة بفتح الجيم والباء المشددة الصحراء، وسُمي بذلك المقابر لأنها في الصحراء وهي من تسمية الشيء باسم موضعه (قلنا) أي قال بعضنا لبعض (لو مِلْنَا) وعَدَلْنا (إلى الحسن) بن أبي الحسن البصري وذهبنا إليه (فسلمنا عليه) لكان خيرًا لنا فجواب لو محذوف (وهو) أي والحسن يومئذ (مُسْتَخْفٍ) أي مستتر ومُتغَيِّب عن الناس (في دار أبي حذيفة) خوفًا من فتنتهم، قال النواوي: وكان استخفاؤه من الحجاج الثقفي الجائر المشهور، قال الأبي: كان يتخوَّف من الحجاج فدخل الدار مستترًا فيها ودعا الله سبحانه أن يستره عنهم فدخلوا الدار ست مرات فلم يجدوه وهو فيها، وكان الحسن يُعرّض بالحجاج وكان الحجاج يقول في الحسن: عِلْجٌ يَنْزِلُ خِصَاصَ البصرة له خطابة وبيان يخطب الناس إن شاء وإن شاء سكت لقد هممتُ أن أسقي الأرض من دمه (قال) معبد (فدخلنا عليه) أي على الحسن (فسلمنا عليه فقلنا) له (يا أبا سعيد) كنية الحسن (جئنا من عند أخيك أبي حمزة) أنس بن مالك الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلم نسمع) من أحد من الناس (مثل حديثٍ حدثناه) أبو حمزة اليوم (في الشفاعة) أي في شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فـ (قال) الحسن لنا (هيه) أي حَدِّثُونيهِ، قال القاضي:(هيه) بسكر الهاء الأولى وإسكان الياء وكسر الهاء الثانية وتقال بالهمزة بدل الهاء الأولى، قال ابن السَّرِيِّ: بكسر الهاء إذا استزدته من حديث مُعيَّن فإن وصلْت نَوَّنْتَ، فقلت: إيهٍ يا فتى، وإن استزدته من حديث

ص: 59

فَحَدَّثْنَاهُ الْحَدِيثَ. فَقَال: هِيهِ، قُلْنَا: مَا زَادَنَا. قَال: قَدْ حَدَّثَنَا بِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ جَمِيعٌ وَلَقَدْ تَرَكَ شَيئًا مَا أَدْري أَنَسِيَ الشَّيخُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يُحَدِّثَكُمْ فَتَتَّكِلُوا. قُلْنَا لَهُ: حَدِّثْنَا. فَضَحِكَ وَقَال: "خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ هَذَا إلا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ. "ثُمَّ أَرْجِعُ إِلَى رَبِّي فِي الرَّابِعَةِ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ،

ــ

غير معيَّن نونتَ فقلت: إيهٍ أي حدِّث أي حديث كان، فإن أسكتَّه قلت: إِيهًا عنَّا اهـ.

(فحدثناه) أي حدثنا الحسن (الحديث) الذي سمعناه من أنس (فقال) الحسن لنا (هيه) أي زيدوه لي (قلنا) للحسن (ما زادنا) أنس على هذا الحديث الذي حدَّثْنَاكَهُ (قال) الحسن والله (قد حدثنا) أنس (به) أي بهذا الحديث (منذ عشرين سنة) أي من قبل عشرين سنة (وهو) أي والحال أن أنسًا (جَمِيع) بفتح الجيم وكسر الميم بعدها ياء ساكنة أي مجتمع القوة والحفظ كاملهما لم يأخذ منه الكِبَر (ولقد ترك) أي والله لقد ترك أنس (شيئًا) من هذا الحديث الذي حدثكموه (ما أدري) ولا أعلم (أَنَسِيَ الشيخ) ذلك الشيء الذي تركه من الحديث (أو كره) الشيخ (أن يُحدثكم) ذلك الشيء (فتتكلوا) عليه وتقصروا في أعمالكم اتكالًا واكتفاءً عنها بذلك الشيء، قال معبد بن هلال (قلنا له) أي للحسن (حدثنا) يا أبا سعيد ذلك الشيء الذي تركه أنس منا (فضحك) الحسن من قولنا، وفيه ضحك العالِمِ بحضرة أصحابه إذا كان بينه وبينهم أُنس ولم يخرج بضحكه إلى حد يعد تركًا للمروءة (وقال {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}) أي ملتبسًا بعجل أي باستعجال (ما ذكرتُ لكم هذا) الذي تركه منكم في حال من الأحوال (إلا وأنا) أي إلا والحال أنا (أريد) وأقصد (أن أُحدثكموه) أي أُحدثكم ذلك الشيء الذي تركه عنكم، قال النواوي: قوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} فيه جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا، وجاء مثله في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم طرق فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما ليلًا فانصرف وهو يقول:{وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلًا} قال الحسن: وذلك الشيء الذي تركه أنس قوله صلى الله عليه وسلم (ثم) بعد إخراج من في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان (أرجع إلى) موضع مناجاة (ربي في) المرة (الرابعة) قال السنوسي: وهذا ابتداء تمام الحديث بقوله (ثم أرجع) أي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرجع الرابعة (فأحمده بتلك المحامد ثم أَخِرُّ له ساجدًا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك

ص: 60

وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ. فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَال: لَا إِلَهَ إلا اللهُ. قَال: لَيسَ ذَاكَ لَكَ أَوْ قَال: لَيسَ ذَاكَ إِلَيكَ) وَلَكِنْ، وَعِزَّتِي، وَكِبْرِيَائِي، وَعَظَمَتِي، وَجِبْرِيَائِي، لأُخْرِجَنَّ مَنْ قَال: لَا إِلَهَ إلا اللهُ"

ــ

وقل يُسمع لك وسل تُعط) بدون هاء السكت (واشفع تُشفع فأقول يا رب ائذن لي في) إخراج (من قال لا إله إلا الله) محمد رسول الله قال الأبي: قال الحميدي: يعني من قالها من أمتي، وقال أبو طالب عقيل بن أبي طالب: يحتمل ذلك ويحتمل من قالها من كل أمة، ويؤيد العموم طلب الإذن في الشفاعة لأنه قد كان أَذِنَ له في الشفاعة في أمته وما كان له أن يُقْدِمَ على الشفاعة في ذلك دون إذن لقوله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ} الآية، وحالات المشفوع فيه أربع: من عنده مثقال بُرةٍ، ومن عنده مثقال ذرة، ومن عنده أدنى من ذرة، والرابع: من قال لا إله إلا الله مرة واحدة صدقًا من قلبه ثم غفل عن استصحابها، قال الحميدي: لأنه إن قالها مرتين فالثانية خير زائد على الإيمان فيرجع إلى أحد المقادير الأُوَل.

(قال) عز وجل (ليس ذاك) أي إخراج من قال لا إله إلا الله مرة واحدة مستحقًا (لك) يا محمد (أو قال) النبي صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل (ليس ذاك) الإخراج مفوَّضًا (إليك) يا محمد والشك من الراوي، قال الأبي: أطلق له في السؤال ووعد الإعطاء حيث قال (سل تُعط) ووعده تعالى صِدْقٌ، ثم لما سأل قيل: ليس ذلك لك ويُجاب بأنه إنما وعد إعطاء ما يمكن إعطاؤه، وإعطاؤه هذا غير ممكن لأنه مما استأثر الله عز وجل به، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما سأل ذلك ظنًّا أن إعطاءَه ممكن ولا يُعترض بأنه صلى الله عليه وسلم قد علم في الدنيا أنه مما استأثر الله عز وجل به لأنا نقول وإن عَلِمَه في الدنيا فيجوز أن يكون نسي ذلك في الآخرة والنسيان عليه جائز لا سيما في ذلك اليوم وقد يتعين هذا التأويل أعني الحمل على النسيان إذ لا يجوز أن يسأل نبي ما يعلم أنه غير ممكن. والله أعلم. اهـ منه (ولكن وعزتي) أي ولكن يا محمد أقسمت لك بعزتي (وكبريائي وعَظَمَتي وجبريائي لأخرجن) من النار (من قال لا إله إلا الله) محمد رسول الله في عمره مرة صدقًا من قلبه.

قال السنوسي: معنى ليس ذلك إليك ليس إخراج من ليس معه إلا كلمة التوحيد إليك وإنما الذي يفعل ذلك "أنا تعظيمًا لاسمي وإجلالًا لتوحيدي" وهو مخصص لعموم

ص: 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من: قال لا إله إلا الله) ويحتمل أن يجري على عمومه ويحتمل على حال ومقام آخر. اهـ قال النواوي: معنى لأخرجن من قال لا إله إلا الله لأتفضلن عليهم بإخراجهم من غير شفاعة أحد. والله أعلم.

وفي المفهم قوله (وعزتي) العزة القوة والغلبة ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبني ويقال أيضًا عز الشيء إذا قل فلا يكاد يوجد مثله، يَعزُّ عَزًّا وعَزَازةً وعَزَّ يَعِزُّ عَزًّا إِذا صار قويًّا بعد ضعف وذِلَّة فعزّة الله تعالى قهره للجبابرة وقوته الباهرة وهو مع عديم المثل والنظير {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (وكبريائي) والكبرياء والكبر كلاهما مصدر كَبُرَ في نفسه يَكْبُرُ وأصله من كبُر في نفسه لا من كبر السن ولا من كبر الجرم لكن صار ذلك بحُكم عُرفِ الاستعمال عبارةً عن حصول كمال الذات يستلزم ترفيعًا لها على الغير، ومن هاهنا كان الكِبْرُ قبيحًا ممنوعًا في حقنا واجبًا في حق الله تعالى وبيانه أن الكمال الحقيقي المطلق لا يصح إلا لله تعالى وكمال غيره إنما هو غرض نسبي فإذا وصف الحق نفسه بالكبر ونسبه إليه كانت النسبة حقيقة في حقه إذ لا أكمل منه ولا أرفع فكل كامل ناقص وكل رفيع محتقر بالنسبة إلى كماله وجلاله، وقوله (وعظمتي) والعظمة بمعنى الكبرياء غير أنها لا تستدعي غيرًا يتعاظم عليه كما يستدعيه الكبر على ما بينَّا، وأيضًا فقد يُستعمل الكبير فيما لا يُستعمل فيه العظيم فيُقال فلان كبير السن ولا يُقال عظيم السن، وقوله (وجبريائي) بكسر الجيم معناه بجبروتي، قال القاضي عياض: جاءت لموازنة الكبرياء كما قالوا الغدايا والعشايا والأصل وجبروتي، والجبروت العظمة والجبار العظيم الشأن الممتنع على من يرومه ومنه نخلة جبارة إذا فاقت الأيدي طولًا، ويُقال منه جبار بين الجبْرِية والجبروت، وقيل القاهر، وقيل في اسم الجبار إنه المُصلح من جبرتُ العَظم أي جبر فقر عباده فيكون بمعنى المحسن والتاء في الجبروت لمبالغة الجبر مثل ملكوت ورحموت ورهبوت من المُلك والرحمة والرهبة، وقال بعضهم: والفرق بين العزة والكبرياء والعظمة والجبرياء أن العزة صفة أثرها غلبته تعالى على غيره، والكبرياء صفة أثرها تَرَفُّعُهُ تعالى على غيره، والعظمة صفة أثرها اتصافه تعالى بالكمال في ذاته وصفاته وأفعاله، والجبرياء صفة أثرها قهره تعالى من شاء بما شاء على ما شاء.

ص: 62

قَال: فَأَشهَدُ عَلَى الحَسَنِ أَنَّهُ حَدَّثَنَا بِهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، أُرَاهُ قَال: قَبْلَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ.

377 -

(173)(9) حدَّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ نُمَيرٍ (وَاتَّفَقَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ، إلا مَا يَزِيدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْحَرْفِ بَعْدَ الْحَرْفِ) قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ

ــ

(قال) معبد بن هلال العنزي (فأشهد على الحسن) البصري (أنه حدثنا به) أي بهذا الحديث المذكور، وجملة قوله:(أنه سمع أنس بن مالك) بدل من الضمير في به قال معبد (أُراه) أي أُرى الحسن وأظنه (قال قبل عشرين سنة وهو) أي والحال أن أنسًا (يومئذ) أي يوم إذ حدثنا (جميع) أي مجتمع الحفظ والقوة لم يأخذ منه السن والكبر.

قال النواوي: قوله: (فأشهد على الحسن أنه حدثنا به) إلى آخره إنما ذكره تأكيدًا ومبالغة في تحقيقه وتقريره في نفس المخاطب وإلا فقد سبق هذا في أول الكلام فلا حاجة إليه. والله أعلم.

ثم استشهد المؤلف رحمه الله تعالى لحديث أنس بن مالك بحديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:

(377)

- (173)(9)(حدثنا أبو بكر) عبد الله بن محمد (بن أبي شيبة) إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي ثقة من العاشرة (ومحمد بن عبد الله بن نمير) الهمداني أبو عبد الرحمن ثقة من العاشرة، وفائدة هذه المقارنة بيان كثرة طرقه (واتفقا) أي واتفق كل منهما (في سياق الحديث) أي في سوق الحديث ونظمه وترتيبه (إلا ما يزيد أحدهما من الحرف) أي من اللفظ المذكور له (بعد الحرت) أي بعد اللفظ الذي ذكره الآخر أي اتفقا في نظم الحديث وتركيبه إلا ما اختلفا فيه من اللفظ الذي زاده أحدهما دون الآخر (قالا) أي قال كل منهما (حدثنا محمد بن بشر) العبدي أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ من التاسعة مات سنة (203) روى عنه في عشرة أبواب تقريبًا، قال (حدثنا أبو حيان) بالتحتانية المشددة يحيى بن سعيد بن حيان التيمي الكوفي المدني من تيم الرّباب ثقة عابد من السادسة مات سنة (145) روى عنه في (6) أبواب تقريبًا (عن أبي زُرعة) هَرِم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي ثقة من الثالثة روى عنه في (2) تقريبًا (عن

ص: 63

أَبِي هُرَيرَةَ؛ قَال: "أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَرُفِعَ إِلَيهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَال: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

ــ

أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني الصحابي المُكثر، وهذا السند من خماسياته رجاله كلهم كوفيون إلا أبا هريرة فإنه مدني (قال) أبو هريرة رضي الله عنه (أُتي) بصيغة المضارع المبني للمجهول (رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أتاه آت (يومًا) من الأيام (بلحم) شاة (فرُفع إليه) بالبناء للمجهول أيضًا أي رُفع إليه صلى الله عليه وسلم (الذراع) أي الكتف أي رفعها إليه أحد من الحاضرين من القصعة ووضعه في يده صلى الله عليه وسلم ليأكله (وكانت) الذراع (تعجبه) من بين سائر لحم الشاة.

قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: محبته صلى الله عليه وسلم للذراع لنضجها وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها وحلاوة مذاقها وبُعدها عن مواضع الأذى والقذر، وقد روى الترمذي بإسناده عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كانت الذراع أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غِبًّا فكان يعجل إليها لأنها أعجلها نضجًا (فنهس) صلى الله عليه وسلم أي أخذ بأطراف أسنانه وقطع (منها) أي من لحم الذراع (نهسة) أي أخذة أي مرة وفي المرقاة فنهس أي أخذ بمقدم أسنانه منها أي من الذراع يعني مما عليها من اللحم.

قال القاضي: أكثر الرواة على أنه بالسين المهملة ووقع لابن ماهان (نهش) بالشين المعجمة وكلاهما صحيح بمعنى الأخذ بأطراف الأسنان.

قال الهروي: قال أبو العباس ثعلب: النهس بالمهملة أطراف الأسنان وبالمعجمة الأضراس (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد الناس يوم القيامة) والسيد الفائق قومه المفزوع إليه عند الشدائد، وعبارة المفهم (أنا سيد الناس) المُقدَّم عليهم والسيد هو الذي يسُودُ قومه أي يفُوقهم بما جمع من الخصال الحميدة بحيث يلجئون إليه ويُعوِّلون في مهماتهم.

قال الشاعر:

فإن كنت سيدنا سُدْتنا

وإن كنت للخال فاذهب فخُل

وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك

ص: 64

وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي ويَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ،

ــ

المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون ويشهد له بذلك النبيون والمرسلون وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء فكلهم تبرأ منها ودل على غيره إلى أن بلغت محلها واستقرت في نصيبها. وخص يوم القيامة وإن كان سيدهم أيضًا في الدنيا لخُلُوص ذلك اليوم له بلا منازع لأن آدم عليه السلام وجميع أولاده تحت لوائه صلى الله عليه وسلم.

قال الأبي قوله (أنا سيد الناس) أمره الله سبحانه أن يقول هذا نصيحة للأمة ليعرفوا حقه صلى الله عليه وسلم فيُحبوه ويُعظموه ويمتثلوا أمره ويتقربوا إليه بالصلاة عليه والمدح له وإعمال المطي في زيارة مسجده صلى الله عليه وسلم والاغتباط بذلك وكثرة حمد الله تعالى على التوفيق لاتباعه فيكثر بذلك ثوابهم وترتفع درجاتهم ويتخلصوا بذلك من أهوال الدنيا والآخرة. اهـ.

(وهل تدرون) أي وهل تعلمون (بم) أي بأي سبب (ذاك) أي سيادتي لجميع الناس يوم القيامة وم اسم استفهام دخل عليها حرف الجر فحُذفت ألفها فرقًا بينها وبين الموصولة وسبب سيادتي لهم أنه (يجمع الله) سبحانه وتعالى: (يوم القيامة الأولين والأخرين في صعيد واحد) أي في أرض واسعة مستوية (فـ) لأجل استوائها (يُسمعهم) النداء (الداعي) أي المُنادي الواحد (وينفذهم) أي يخرُقهم ويُجاوزهم (البصر) حتى يرى ما وراءهم.

قال ابن الأثير: أي يبلغهم بصر الناظر أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم لاستواء الصعيد. اهـ نهاية، وقال القرطبي: معناه أنهم مجتمعون مهتمون بما هم فيه لا يخفى منهم أحد بحيث إن دعاهم داع سمعوه وإن نظر إليهم ناظر أدركهم، ويحتمل أن يكون الداعي هو الذي يدعوهم إلى العرض والحساب أو أمر آخر كقوله تعالى:{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6].

قال النواوي: (ينفذهم) بالذال المعجمة وبضم الياء وبفتحها.

وقال الكسائي: يُقال نفذني بصره إذا بلغني وجاوزني إلى ما ورائي قال ويقال أنفذت القوم إذا خرقتهم ومشيت في وسطهم فإن جزتهم حتى تخلفتهم قلت نفذتهم بغير ألف، وقال أبو عبيد: والمراد بالبصر بصر الرحمان، وقال صاحب المطالع: بصر

ص: 65

وَتَدْنُو الشَّمسُ فَيَبلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَمَا لَا يَحتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ. فَيأْتُونَ آدَمَ. فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ، أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا

ــ

الرحمان محيط بالجميع في مستوى الأرض وغيرها وإنما المراد بصر الناظر، وقال أبو حاتم والمحدثون يقولون: بالذال المعجمة وإنما هو بالمهملة أي يرى جميعهم من نفدت وأنفدت. اهـ، وقال صاحب المطالع: معناه أنه يحيط بهم الناظر لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض أي ليس فيها ما يستتر به أحد عن الناظرين.

قال السنوسي: والمقصود من هذه العبارة والله أعلم الكناية عن بروز الجميع في أرض مستوية ليس بعضها أخفض من بعض ولا فيها سرب ولا مدخل ولا شجر يستتر به أحد ويخفي نفسه حتى لا ينال حر الشمس ولا يُشاهد تلك الأهوال العظام لأن تعلق البصر بكل واحد من جماعة واستماعهم لداعيهم يستلزم عادة استواءهم في الظهور فعبَّر بهذا الملزوم وأُريد لازمه على ما تقرر في الكناية، وبهذا تَعْرِف ضعف تفسير البصر ببصر الرحمن لفوات الكناية معه وخلو الكلام عن الفائدة، والله تعالى أعلم.

(وتدنو) أي تقرب (الشمس) إليهم (فيبلغ الناس) أي يحصل لهم (من الغم) والهم (والكرب) والشدة (ما لا يطيقون) الصبر عليه (وما لا يحتملون) أي لا يقدرون حمله (فيقول بعض الناس لبعض) على سبيل الشكاية (ألا ترون ما أنتم فيه) من الشدائد والكروب (ألا ترون ما قد بلغكم) وحل بكم من الشدائد التي لا يُطاق حملها (ألا تنظرون) وتطلبون (من يشفع لكم) أي من يطلب لكم الخير والنجاة من هذه الشدائد (إلى ربكم) أي عند ربكم وقد قدَّمنا أن معنى الشفاعة طلب الخير من الغير للغير (فيقول بعض الناس لبعض ائتوا آدم) أبا البشر أي اذهبوا إليه واطلبوا الشفاعة منه (فيأتون آدم فيقولون) له (يا آم أنت أبو البشر) وجدُّهم الأعلى ولك منزلة وخاصية عند ربك لم توجد لغيرك؛ لأنه قد (خلقك الله) سبحانه وتعالى وأوجدك (بيده) أي بلا واسطة وَالِدَينِ (ونفخ فيك من روحه) بلا سبق مادة أصل آدمي (وأمر الملائكة) بالسجود لك (فسجدوا لك) ولك خصائص لم توجد لغيرك تُوجب لك منزلة عند ربك (اشفع لنا) أي اطلب لنا الخروج من

ص: 66

إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِن رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثلَهُ. وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنِ الشجَرَةِ فَعَصَيتُهُ، نَفْسِي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيرِي،

ــ

هذه الكروب وكشفها عنا (إلى ربك) أي عند ربك (ألا ترى) وتنظر (إلى ما نحن فيه) من الشدائد (ألا ترى إلى ما بلغنا) أي وصل إلينا وحل بنا من الأهوال (فيقول آدم) عليه السلام (إن ربي) قد (غضب) وسخط (اليوم غضبًا لم يغضب) قَطُّ (قبله) أي قبل هذا اليوم (مثله) أي مثل ذلك الغضب (و) غضب اليوم غضبًا (لن يغضب) عَوْضُ (بعده) أي بعد هذا اليوم (مثله) أي مثل ذلك الغضب. قال النواوي: والمراد بغضب الله تعالى ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وما يرونه من أليم عذابه وما يُشاهده أهل المجمع من الأهوال التي لم تكن قبل ولن يكون مثلها بعد ولا شك في أن هذا كله لم يتقدم قبل ذلك اليوم مثله ولا يكون بعده مثله، وهذا معنى غضب الله تعالى كما أن رضاءه ظهور رحمته ولطفه بمن أراد به الخير والكرامة لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضاء، والله أعلم.

قلت: والمذهب الأسلم في أحاديث الصفات وآياتها إمرارها على ظاهرها وعدم تأويلها، وعليه فالحق أن يقال هنا غضب الله تعالى صفة ثابتة له نثبتها ونعتقدها لا نكيفها ولا نمثلها والله تعالى أعلم وكذا يقال في رضائه تعالى.

قال السنوسي: (فإن قلت) كون ما وُجد من الانتقام في ذلك اليوم لم يُوجد قبلُ ظاهرٌ وأما كونه لا يُوجد بعده فليس بظاهر كيف وعذاب الكافرين بعده لا ينقطع (قلت) إن المخاوف في ذلك اليوم عظمت حتى خاف المطيع، بل ورد إن جهنم حين تزفر لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه وبعد هذا اليوم وانقضائه باستقرار كل فريق في منزله لا يكون الحال هكذا بل أهل الجنة يأمنون ويحل عليهم الرضوان الذي لا سخط بعده أبدًا فالخوف العام والهول الأعظم الذي خاف من أجله البرآء أن ينالهم توبيخ أو ملام لم يكن قبل ذلك اليوم ولا يكون بعده على الدوام، اهـ منه.

(وإنه) سبحانه وتعالى (نهاني عن) أكل ثمر (الشجرة) التي هي الموز أو غيرها على ما قيل كما بسطت الكلام عليها في الحدائق (فعصيته) أي فعصيت نهيه بأكلها تُهمُّني اليوم (نفسي نفسي) مرتين على التأكيد (اذهبوا إلى غيري) ممن يصلح لهذه الشفاعة

ص: 67

اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الأرضِ، وَسَمَّاكَ اللهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِن رَبِّي قُدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ،

ــ

(اذهبوا إلى نوح) تخصيص بعد إطلاق لأنه أوقع في النفس (فيأتون نوحًا فيقولون) له (يا نوح أنت أول الرسل) بالدعوة إلى التوحيد (إلى) أهل (الأرض وسماك الله عبدًا شكورًا) أي كثير الشكر لنعم ربه صيغة مبالغة من الشكر، حيث قال في كتابه العزيز {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}. (اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ) من الشدائد والأهوال (ألا ترى ما قد بلغنا؟ ) أي وصل إلينا من المخاوف (فيقول لهم) نوح (إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه) أي وإن الشأن والحال (قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي) بقولي {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} فاستجيب لي ولا أدري ما يفعل بي ربي بسببها فاليوم تُهمُني (نفسي نفسي اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام) خليل الرحمن (فيأتون إبراهيم فيقولون) له (أنت) يا إبراهيم (نبي الله وخليله) أي صفيّه (من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى) وتنظر (إلى ما نحن فيه) من الأهوال العظام (ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ ) ووصل إلينا من الشدائد (فيقول لهم إبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله وذكر) لهم (كذباته) اعتذارًا عن نفسه. وقد فسرها في الطريق الثاني بأنها قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم، وقوله عن زوجته سارة: هي أختي، وليست بكذبات حقيقة لأن الأولى على تقدير همزة الاستفهام الإنكاري أي أهذا الكوكب ربي أي ليس ربي، نظير قول الشاعر:

لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا

بسبع رميت الجمر أم بثمان

ص: 68

نَفْسِي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسى. فَيَأْتُونَ مُوسى صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ. فَضَّلَكَ اللهُ، بِرِسَالاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى إلى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسى، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ

ــ

أي أبسبع، والثانية قالها توطئة للاستدلال على أنها ليست آلهة وقطعًا لدعواهم أنهما تضر وتنفع ولذا عقبه بقوله فاسألوهم إن كانوا ينطقون، والثالثة إنما قالها تعريفًا لأنه سيسقم في المستقبل واسم الفاعل يكون بمعنى المستقبل، والرابعة إنما عنى أنها أخته في الإسلام كما نص عليه بقوله لها أنت أختي في الإسلام، تُهمُّني اليوم (نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقولون) له (يا موسى أنت رسول الله) قد (فضلك الله برسالاته وبتكليمه) إياك، وقوله (على الناس) متعلق بفضلك، وهذا إشارة إلى قوله تعالى:{إِنِّي اصْطَفَيتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلَامِي} ، قال القرطبي: ولا خلاف بين أهل السنة في أن موسى سمع كلام الله الذي لا يشبهه كلام البشر الذي ليس بصوت ولا حرف ولو سمعه بالحرف والصوت لما صحت خصوصية الفضيلة لموسى بذلك، إذ قد سمع كلامه تعالى بواسطة الحرف والصوت المُشرك كما قال تعالى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: ]، واستيفاء الكلام على هذه المسألة سؤالًا وجوابًا في كتب الكلام. اهـ. (اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله واني قتلت نفسًا لم أُومَرْ بقتلها) فلا أدري ما يعاملني ربي فيها وهو قتل القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي وهو كافر، تُهمُني اليوم (نفسي نفسي اذهبوا إلى عيسى صلى الله عليه وسلم فيأتون عيسى فيقولون) له (يا عيسى أنت رسول الله وكلمت الناس في) زمن (المهد) والسرير الذي يُمهَّد لك لتضجع عليه لصغرك أي حالة كونك صغيرًا في تلك الحالة (وكلمة منه) سبحانه وتعالى سماه كلمة لأنه كان بكلمة كن من غير أن يتقلب في أطوار الخلق كما تقلب غيره

ص: 69

أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ. فَاشفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيه؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى صلى الله عليه وسلم: إِن رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغضَبْ قَبلَهُ مِثلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، نَفْسِي، نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيرِي، اذهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَيَأتُونِي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَغَفَر اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّم مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشَفْعَ لَنَا إِلَى رَبًكَ، أَلا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَاقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي،

ــ

(ألقاها) أي ألقى تلك الكلمة (إلى مريم) أي أبلغها وأوصلها إليها (وروح منه) سبحانه وتعالى قد تقدم البسط في هذا المقام فلا عود ولا إعادة (فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ) من الشدائد والأهوال (ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر) عيسى في هذه الرواية (له ذنبًا) يعتذر به، تُهمُني (نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتوني فيقولون) لي (يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء) قد خُتِمُوا بك، كما نص عليه في سورة الأحزاب وكما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلفًا، ولا اعتبار بما قاله بعض الزنادقة محتجًا بما وقع في الحديث المشهور من زيادة قوله وسيكون بعدي ثلاثون وكلهم يدَّعِي أنه نبي لا نبي بعدي إلا من شاء الله، وهذه الزيادة باطلة زادها محمد بن سعيد الشامي المصلوب على الزندقة وإنما زادها لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة ولم تحفظ إلا من طريقه، وتأولها بعضهم إن صحت بعيسى عليه السلام للإجماع على نزوله ولكنه لا ينزل رسولًا إلى أهل الأرض حينئذ (ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فانطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي) قد زاد عليه في حديث أنس (فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد ثم أَخِرُّ ساجدًا) قال القرطبي: وبمجموع الحديثين يكمل المعنى، ويُعْلم مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لآداب الحضرة العلية، ثم اعلم أن هذا الانطلاق من النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو إلى جنة الفردوس التي هي أعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن كما جاء في الصحيح بناء على أن لا محل له هناك إلا الجنة والنار وعلى أن العرش محيط بأعلى الجنة. والله تعالى أعلم.

ص: 70

ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ وَيُفهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسنِ الثَّنَاءِ عَلَيهِ شَيئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي. ثُمَّ قَال: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأسَكَ، سَل تُعْطَه، اشفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي. أُمَّتِي. فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، أَدْخِلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِكَ، مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيهِ، مِنَ الْبَابِ الأَيمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ

ــ

ولا شك في أن دخول الجنة هو المحل الكريم لا بد فيه من استئذان الخزنة، وعن هذا عثر بقوله صلى الله عليه وسلم:(فأستأذن على ربي) ولا يُفهم من هذا ما جرت به عاداتنا في أن المستأذِنَ عليه قد احتجب بداره وأحاطت به جهاته فإذا استُؤذن عليه فأذن دخل المستأذن معه فيما أحاط به إذ كل ذلك على الله تعالى محال فإِنه منزه عن الجسمية ولوازمها.

(ثم يفتح الله) سبحانه وتعالى ويُفيض (عليَّ ويُلهمني) أي يُلقي في رُوعِي (من محامده) جمع محمدة بمعنى الثناء والوصف الجميل (وحُسْن الثناء عليه) تعالى عطف تفسير لما قبله وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف أي والثناء الحسن (شيئًا لم يفتحه لأحد قبلي) تنبيه: في حديث أبي هريرة إن المحامد كانت بعد السجود، وفي حديث أنس قبل السجود في حالة القيام، وذلك يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أكثر من التحميد والثناء في هذا المقام كله في قيامه وسجوده إلى أن أُسعف في طلبته. اهـ ط (ثم قال) لي (يا محمد ارفع رأسك) من السجود و (سل) ما شئت (تعطه) و (اشفع) لمن شئت بما شئت (تُشفع) أي تُقبل شفاعتك فيه (فـ) بعد هذا القول (أرفع رأسي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقال: يا محمد أدْخِل الجنة من أمتك من لا حساب) ولا مناقشة (عليه) يعني والله أعلم السبعين ألفًا الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون (من الباب الأيمن) وهو الذي على يمين القاصد إلى الجنة بعد جواز الصراط والله أعلم (من أبواب الجنة) الثمانية وكأنه أفضل الأبواب، والضمير في قوله (وهم شركاء الناس) أي في دخولهم (فيما سوى ذلك من الأبواب) أي لا يُمنعون منها، يحتمل أن يعود إلى الذين لا حساب عليهم وهو الظاهر ويكون معناه أنهم لا يُلجؤون إلى الدخول من الباب الأيمن بل يدخلون من أي باب شاؤوا تكرمة لهم كما جاء في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث قال: (فهل على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فقال صلى

ص: 71

وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِن مَا بَينَ الْمِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ

ــ

الله عليه وسلم: لا وأرجو أن تكون منهم) متفق عليه، وكما قال صلى الله عليه وسلم:(فيمن أسبغ الوضوء وهلل بعده أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء) رواه مسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الأمة، وفيه بُعد. اهـ من المفهم.

وفي المفهم قوله: (يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه) هذا يدل على أنه شفع فيما طلبه من تعجيل حساب أهل الموقف فإنه لَمَّا أُمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم ولذلك قال في الرواية الأخرى (فيُؤذن له وتُرسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط) وهذا المساق أحسن من مساق حديث معبد عن أنس فإِنه ذكر فيه عَقِيبَ استشفاعه لأهل الموقف أنه أجيب بشفاعته لأمته، وليست الشفاعة العامة التي طلب منه أهل الموقف، وكأن هذا الحديث سكت فيه عن هذه الشفاعة فذُكرت شفاعته لأمته لأن هذه الشفاعة هي التي طُلبت عن أنس أن يُحدِّث بها في ذلك الوقت وهي التي أنكرها أهل البدع. والله تعالى أعلم. قال القاضي رحمه الله تعالى: شفاعات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أربع: الأولى: شفاعته العامة لأهل الموقف ليُعجِّل حسابهم ويُراحوا من هول موقفهم وهي الخاصة به صلى الله عليه وسلم. الثانية: في إدخال قوم من أمته الجنة دون حساب. الثالثة: في قومٍ من مُوحِّدي أمته استوجبوا النار بذنوبهم فيُخرجون من النار ويُدخلون الجنة بشفاعته وهذه الشفاعة هي التي أنكرتها المبتدعة الخوارج والمعتزلة فمنعتها على أصولهم الفاسدة وهي الاستحقاق الأصلي المبني على التحسين والتقبيح العقليَّينِ وتلك الأصول قد استأصلها أئمتنا في كتبهم أنها مصادمة لأدلة الكتاب والسنة الدالة على وقوع الشفاعة في الآخرة ومن تصفح الشريعة والكتاب والسنة وأقوال الصحابة وابتهالهم إلى الله تعالى في الشفاعة عَلِمَ على الضرورة صحة ذلك وفساد قول من خالف في ذلك. الرابعة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وترفيعها والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ من إكمال المعلم.

(والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين) أي إن ما بين طرفي المصراعين (من مصاريع الجنة) والمصراع من الباب أحد غلقتيه يُجمع على مصاريع. اهـ منجد.

ص: 72

لَكَمَا بَينَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ. أَوْ كَمَا بَينَ مَكَّةَ وَبُصْرَى".

378 -

(00)(00) وحدَّثني زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ؛

ــ

والباب هو الذي يُغلق من مجموع المصراعين إلى عضادتي الباب وعُضادتا الباب خشبتاه من جانبيه المتصلتان بالجدار. اهـ منه. والمصراعان الشُّقتان من الباب المغلقتان بالغلق، أي إن بُعد ما بين طرفيِّ المصراعين من مصاريع الجنة وطرفاه هما المتصلتان بالعُضادتين (لكما بين مكة وهجر) أي لكبُعد مسافة ما بين مكة المكرمة وبين هجر التي من بلاد البحرين (أو) قال (كـ) بُعد (ما بين مكة) المكرمة (وبصرى) الشامية، يحتمل أن يكون هذا شكًّا من بعض الرواة ويحتمل أن يكون تنويعًا كأنه صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى ما بينهما راء قدَّره بكذا وقدَّره آخر بكذا ويصح أن يقال سلك بها مسلك التخيير فكأنه قال قدِّروها إن شئتم بكذا وإن شئتم بكذا. وهجر هذه مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين، قال الجوهري في صحاحه: هجر اسم بلد مذكر مصروف والنسبة إليه هاجري، قال النووي: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث (إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر) لأن تلك قرية من قرى المدينة المنورة كانت القلال تُصنع بها وهي غير مصروفة، وبُصْرَى بضم الباء وسكون الصاد وبألف مقصورة هي مدينة مشهورة من مدن الشام بينها وبين مكة شهر وهي على ثلاث مراحل من دمشق.

وهذا الحديث أعني حديث أبي هريرة شارك المؤلف في روايته البخاري [3340] والترمذي [2436].

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال:

(378)

- (00)(00)(وحدثني زهير بن حرب) بن شداد الحرشي مولاهم أبو خيثمة النسائي ثقة ثبت من العاشرة مات سنة (234) روى عنه في (20) بابًا تقريبًا (حدثنا جرير) بن عبد الحميد بن قُرط الضبي أبو عبد الله الكوفي ثقة من الثامنة مات سنة (188) روى عنه في (16) بابًا تقريبًا (عن عمارة بن القعقاع) بن شُبْرُمةَ الضبي الكوفي ثقة من السادسة روى عنه في (5) أبواب تقريبًا (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي ثقة من الثالثة (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر الدوسي المدني رضي الله عنه، وهذا السند من خماسياته رجاله ثلاثة منهم كوفيون وواحد مدني وواحد

ص: 73

قَال: "وُضِعَتْ بَينَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ وَلَحْمٍ. فَتَنَاوَلَ الذِّرَاعَ. وَكَانَتْ أَحَبَّ الشَّاةِ إِلَيهِ. فَنَهَسَ نَهْسَةً فَقَال: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ نَهَسَ أُخرَى فَقَال: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمَّا رَأَى أَصْحَابَهُ لَا يَسْأَلُونَهُ قَال: أَلا تَقُولُونَ كَيفَهْ؟ قَالُوا: كَيفَهْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَال:

ــ

نسائي، وغرضه بسوقه بيان متابعة عمارة بن القعقاع لأبي حيان في رواية هذا الحديث عن أبي زرعة، وفائدتها بيان كثرة طرقه (قال) أبو هريرة (وُضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قُدامه (قصعة) أي إناء يُشْبع ثلاثة أنفار (من ثريد) أي من خبز فُتِّت وبُلَّ بالمرق (ولحم) شاة (فتناول) أي أخذ من اللحم (الذراع) أي ذراع الشاة ويدها (وكانت) الذراع (أحب) لحم (الشاة إليه) أي عنده صلى الله عليه وسلم (فنهس) أي أخذ من الذراع بأطراف مقدم أسنانه (نهسة) أي أخذة (فقال أنا سيد الناس) ورئيسهم (يوم القيامة) والسيد من يُفْزع إليه عند الشدائد (ثم نهس) من اللحم نهسة (أخرى فقال أنا سيد الناس يوم القيامة) مرة ثانية (فلما رأى) وعلم (أصحابه لا يسألونه) عن سبب ذلك (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألا تقولون) أي أتسكتون عنِّي ولا تقولون (كيفه) أي كيف تكون سيد الناس يوم القيامة أي في أي حال تكون سيدهم لأن كيف استفهام عن الحال والهاء في كيفه هاء السكت ليست ضميرًا يؤتى بها عند الوقف حفظًا للحركة (قالوا) أي قال الحاضرون من الأصحاب (كيفه) بهاء السكت أيضًا أي كيف تكون سيدهم (يا رسول الله) في ذلك اليوم، قال القاضي قوله (ألا تقولون كيفه) الهاء للسكت تلحق الاسم والفعل والحرف وإنما تلحق لتصحيح الحركة قبلها وحفظها من السقوط نحو غُلاميه وكتابيه ولم يتسنه على قولٍ وأينه وكيفه على قول بعضهم، أو لتمام المنقوص نحو عَمَّهْ ولِمَهْ وقِه، أولمد الصوت في النداء والنُّدبة، وفيه من الفوائد تنبيه العالم الطالب على موضع السؤال إذا انقبض الطالب عنه وتعظيم القوم العالم أن يسألوه عن كل شيء ولعل هذا كان بعد نهيهم عن السؤال إلا فيما أُذن لهم فيه. اهـ. قال النواوي: وأما قول الصحابة (كيفه يا رسول الله) فأثبتوا الهاء في حالة الدرج ففيها وجهان حكاهما صاحب التحرير وغيره: أحدهما أن من العرب من يُجْري الدَّرْجَ مجرى الوقف، والثاني: أن الصحابة قصدوا اتباع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي حثهم عليه فلو قالوا كيف لما كانوا سائلين عن اللفظ الذي حثهم عليه. والله أعلم اهـ (قال)

ص: 74

يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالمِينَ". وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ. وَزَادَ فِي قِصَّةِ إِبرَّاهِيمَ فَقَال. وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: هَذَا رَبِّي. وَقَوْلَهُ لآلِهَتِهِمْ: بَل فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَقَوْلَهُ: إِنِّي سَقِيمٌ. قَال: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بَيَدِهِ، إِن مَا بَينَ الْمِصْرَاعَينِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ إِلَى عِضَادَتَيِ انبَابِ لَكَمَا بَينَ مَكَّةَ وَهَجَرٍ أَوْ هَجَرٍ وَمَكَّةَ".

قَال: لَا أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَال.

379 -

(174)(10) حدَّثنا مُحَمَّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ البَجَلِيُّ،

ــ

رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقوم الناس) كلهم من الأولين والآخرين في عرصات القيامة (لـ) عرض (رب العالمين) وحسابهم على أعمالهم (وساق) عمارة بن القعقاع (الحديث) السابق أي ذكره على سياقه ونظمه وترتيبه من كير تغيير (بمعنى حديث أبي حيان عن أبي زرعة و) لكن (زاد) عمارة بن القعقاع على حديث أبي حيان (في قصة إبراهيم) صلى الله عليه وسلم أي زاد لفظة (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (وذكر) إبراهيم في اعتذاره إليهم (قوله) أي قول إبراهيم (في الكوكب هذا ربي) في صورة الأنعام (وقوله لآلهتهم) في صورة الأنبياء (بل فعله كبيرهم هذا، وقوله) في سورة الصافات (إني سقيم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة) جمع مصراع (إلى عضادتي الباب) والمصراعان ما بين العضادتين والعضادتان خشبتا الباب من جانبيه ذكره الجوهري (لكما بين مكة) المكرمة (و) بين (هجر) بلدة من بلاد البحرين (أو) قال الراوي أو من دونه لكما بين (هجر ومكة) بتقديم هجر على مكة (قال) أبو هريرة أو أبو زرعة (لا أدري) ولا أعلم (أي ذلك) أي أيَّ التركيبين (قال) النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو هريرة، والشك من أبي هريرة فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أبي زرعة فيما قال أبو هريرة هل قال تقديم مكة على هجر أو قال بتقديم هجر على مكة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ثم ذكر المؤلف رحمه الله تعالى المتابعة في حديث أبي هريرة والاستشهاد لحديث أنس أيضًا بحديث حذيفة رضي الله عنه فقال:

(379)

- (174)(10)(حدثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي) أبو جعفر الكوفي روى عن محمد بن فضيل في كتاب الإيمان في باب الشفاعة وعمر بن عبيد وأبي

ص: 75

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيلٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيفَةَ؛ قَالا: قَال: رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ اللهُ تبارك وتعالى النَّاسَ. فَيقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ:

ــ

معاوية ويروي عنه (م د ت ق) وعبد الله بن زيدان، وقال في التقريب: صدوق من صغار العاشرة مات اليوم الأول أو اليوم الثاني من صفر يوم الجمعة سنة (242) اثنتين وأربعين ومائتين بالكوفة، قال (حدثنا محمد بن فضيل) بن غزوان الضبي مولاهم أبو عبد الرحمن الكوفي صدوق عارف رُمي بالشيع من التاسعة مات سنة (195) روى عنه في (20) بابا تقريبًا، قال (حدثنا أبو مالك) سعد بن طارق بن أشيم (الأشجعي) الكوفي ثقة من الرابعة مات في حدود سنة (140) روى عنه المؤلف في ستة أبواب تقريبًا (عن أبي حازم) سلمان الأشجعي مولى عزة الكوفي ثقة من الثالثة مات على رأس المائة روى عنه في (5) أبواب تقريبًا (عن أبي هريرة) الدوسي المدني، وهذا السند من خماسياته ومن لطائفه أن رجاله كلهم كوفيون إلا أبا هريرة فإنه مدني، وغرضه بسوقه بيان متابعة أبي حازم لأبي زرعة (و) قال محمد بن فضيل أيضًا حدثنا (أبو مالك) الأشجعي (عن ربعي) بن حِرَاش العبسي أبي مريم الكوفي عابد من الثانية مات سنة (100) مائة روى عنه في (6) أبواب تقريبًا (عن حذيفة) بن اليمان العبسي أبي عبد الله الكوفي حليف الأنصار الصحابي الجليل من السابقين صاحب سِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات سنة (36) في خلافة علي روى عنه في (5) أبواب تقريبًا، وهذا السند من خماسياته ومن لطائفه أن رجاله كلهم كوفيون، وغرضه الاستشهاد بحديث حذيفة لحديث أبي هريرة السابق رضي الله تعالى عنهما (قالا) أي قال كل من أبي هريرة وحذيفة بن اليمان (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع الله تبارك وتعالى الناس) في عرصات القيامة (فيقوم المؤمنون) من بين الكفار (حتى تُزلَفَ) وتُقَرَّب (لهم الجنة) من أزلف الرباعي، ومنه قوله تعالى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)} أي قُربِّت {وإذا الجنة أزلفت} قال المازري: قوله (حتى تُزلف) بضم التاء وسكون الزاي وفتح اللام على صيغة المبني للمجهول أي يقومون من بين الكفار ويجتمعون في موضع قريب إلى الجنة حتى قُرِّبت لهم الجنة وتُدْنَى لهم للمشاورة في طلب من يشفع لهم عند ربهم (فيأتون آدم) عليه السلام (فيقولون) له

ص: 76

يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إلا خَطيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْني إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ. قَال: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ،

ــ

(يا أبانا) ويا جَدَّنَا (استفتح لنا الجنة) أي اطلب لنا من الله سبحانه فتح أبواب الجنة (فيقول) آدم (وهل أَخْرَجَكُم من الجنة إلا خطيئة أبيكم) وذنبه حين أكل الشجرة التي نُهي عن أكلها، وقوله (آدم) بالفتحة عطف بيان من أبيكم أو بدل منه وفي بعض النسخ التشكيل بالضم وهو خطأ إلا أن يقال بدل اشتمال من خطيئة على ما قيل (لست) أنا (بصاحب ذلك) المقام أي أهلًا لذلك المطلوب الذي طلبتموه من الشفاعة (اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله) فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت خليل الرحمن وصفيُّه استفتح لنا الجنة (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (فيقول) لهم (إبراهيم لست بصاحب ذلك) الاستفتاح (إنما كنت خليلًا من وراء) موسى عليه السلام الذي كان من (وراء) محمد صلى الله عليه وسلم فأنا من الخُلّة في المرتبة الثالثة. قال (ع) وفي هذا حجة لمزيته صلى الله عليه وسلم في القُرب على إبراهيم عليه السلام، وليس ذلك إلا بالرؤيا والمناجاة، والله أعلم بقوله وراء وراء، وقال القرطبي: معناه أنا متأخر عن غيري في الخُلَّة وإنما كمال الخُلَّة لمن خُص بالمقام المحمود في ذلك اليوم، قال النووي: قال صاحب التحرير: هذه كلمة تُذكر على سبيل التواضع أي لست بتلك الدرجة الرفيعة، قال: وقد وقع لي معنى مليح فيه وهو أن معناه أن المكارم التي أُعطيتُها كانت بوساطة سفارة جبريل عليه السلام ولكن ائتوا موسى فإنه حصل له سماع الكلام بغير واسطة، قال: وإنما كرر وراء وراء لكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حصل له السماع بغير واسطة وحصل له الرؤية، فقال إبراهيم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين هذا كلام صاحب التحرير وأما ضبط وراء وراء فالمشهور فيه الفتح فيهما بلا تنوين فحينئذ تقول في إعرابها من حرف جر مبني بسكون على النون المُدغمة في واو وراء، وراء وراء ظرف مركب من الظروف المكانية في محل الجر بمن مبني على فتح الجزأين بُني الجزء الأول لشبهه بالحرف شبهًا افتقاريًا لافتقاره إلى الجزء الثاني وبُني الجزء الثاني لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا لتضمنه معنى حرف العطف وهو نظير خمسة عشر وإنما حُرِّك ليُعلم أن له أصلًا في الإعراب وكانت الحركة فتحةً للخِفَّةِ

ص: 77

اعْمِدُوا إِلَى مُوسى صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا. فَيَأْتُونَ مُوسَى صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. اذْهَبُوا إِلَى عِيسى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسى صلى الله عليه وسلم: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم. فَيَقُومُ فَيُؤذَنُ لَهُ. وتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ. فَتقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ قَال: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي،

ــ

مع ثِقَلِ التركيب والجار والمجرور متعلق بواجب الحذت لوقوعه صفة لخليلًا أي إنما كنتُ خليلًا كائنًا من وراء وراء أي خليلًا وراءَ منزلتَين، وما ذكره النواوي هنا كلام لا طائل له عند النحاة (اعمدوا) أي اقصدوا (إلى موسى صلى الله عليه وسلم الذي كلمه الله) سبحانه وتعالى (تكليمًا) بلا واسطة (فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول) موسى (لست بصاحب ذلك) المقام (اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه) فيأتون عيسى (فيقول) لهم (عيسى صلى الله عليه وسلم لست بصاحب ذلك) أي صاحب ذلك المقام المحمود ولا أهلًا له ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين فإِنه صاحب ذلك المقام (فيأتون محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقوم) محمد صلى الله عليه وسلم استئذانًا لربه في الشفاعة (فيُوذن له) صلى الله عليه وسلم في الشفاعة فَيشفَع في فصل القضاء (وتُرسل الأمانة) ضِدُّ الخيانة (والرحم) أي القرابة أي تطلقان وتصوران مشخصتين على الصفة التي أرادها الله تعالى، قال النواوي: إرسالهما لعِظَم شأنهما وكثير موقعهما فتُصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله تعالى (فتقومان جنبتي الصراط) بفتح الجيم والنون أي تقومان على جانبي الصراط (يمينًا وشمالًا) لتطالبا كُل من يريد الجوازَ على الصراط بحقوقهما، والمعنى أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة أمرهما مما يلزم العباد من رعاية حقهما تمثلان هنالك للأمين والخائن والواصل والقاطع فتُحَاجَّان عن المحق الذي راعاهما وتشهدان على المبطل الذي أضاعهما ليتميز كل منهما، وفي الحديث حث على رعاية حقهما والاهتمام بأمرهما، وجنبتا الصراط ناحيتاه اليمنى واليسرى. اهـ من المرقاة.

(فيمر أولكم) أيتها الأمة مرورًا على الصراط كالبرق) أي كلَمَعَانِ البرق أي يمر مرورًا كمرور البرق الخاطف على العين أو حالة كون مروره كمرور البرق (قال) الراوي أبو هريرة أو حذيفة (قلت بأبي أنت وأمي) أي أنت يا رسول الله مفديُّ من كل مكروه

ص: 78

أَيُّ شَيءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَال: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَينٍ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيرِ وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ. وَنَبِيّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ، سَلِّمْ سَلِّمْ. حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبادِ. حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيرَ إلا زَحْفًا"

ــ

بأبي وأمي (أيُّ شيء) من المخلوق يمر مرًا (كمر البرق) أي كمرور البرق ورجوعه استفهام تعجب (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألم تروا) وتنظروا (إلى البرق كيف يمر) بسرعة (ويرجع) إلى المحل الذي بدأ منه بسرعة (في) قدر (طرفة عين) ولمحتها وطرفة العين غلق الجفن على العين وفتحه (ثم) يمر ثانيهم مرًا كمر الريح) أي كمرور الريح المطلقة المرسلة (ثم) يمر ثالثهم (كمر الطير) المُسْرع في طيرانه (و) يشتد فريق منهم في مروره شدًّا كـ (شد الرجال) بكسر الراء وفتح الجيم أي كَعَدْو الرجال الأقوياء المبالغين في عَدْوهم، والشد هو العدو المبالغ والجري كما في حديث السعي (لا تقطع الوادي إلا شدًّا) أي إلا عدوًا كما في النهاية، قال القاضي: والصحيح المشهور فيه الجيم -أي كسرعة جريهم وعدوهم الشديد- جمع رجل وعند ابن ماهان كشد الرحال بالحاء المهملة وكأنه سُميت الراحلة بالرَّحْل ثم جُمع وشدُّها عدوها البالغ وجريها والمعنى متقارب أي كشد الرواحل جمع راحلة وفيه بُعد.

وقوله (تجري) وتسرع (بهم أعمالهم) تفسير لقوله فيمر أولكم كالبرق ثم كمر الريح إلخ يعني أن سرعة مزهم على الصراط بقدر أعمالهم ألا تراه كيف قال داحتى تعجز أعمال العباد" والمعنى أنهم يكونون في سرعة المرور على حسب مراتهم وأعمالهم، بمعنى سرعة مرورهم إنما هي بقدر أعمالهم وهذا بعدل الله تعالى وإلا فكُل برحمته وفضله وفي رواية بعضهم (تجري بهم أعمالهم) ولا وجه لزيادة الباء في هذه الرواية. اهـ أبي (ونبيكم) أيتها الأمة المحمدية (قائم) يومئذ (على الصراط) حالة كونه (يقول) داعيًا الله يا (رب سلم) المارين على الصراط من السقوط في جهنم و (سلمـ) هم من خطف الكلاليب وقوله (حتى تعجز أعمال العباد) غاية لقوله تجري بهم أعمالهم بحسب تفاوت مراتبها حتى تعجز وتقصر أعمال بعض العباد عن الجري بهم لغلبة ما ارتكبوا من السيئات، وحتى في قوله (حتى يجيء الرجل) بمعنى الفاء أي فيجيء الرجل منهم للمرور على الصراط (فلا يستطيع السير) والمرور على الصراط (إلا زحفًا) أي إلا سير زحف

ص: 79

قَال: "وَفِي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَة. مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ".

وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيرَةَ بِيَدِهِ، إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا

ــ

ومشي على دُبُره لا يقدر القيام على رجليه كالصبي الذي يزحف على دُبُره، وفي المرقاة قوله (حتى تعجز) إلخ متعلق بتجري، وقوله (حتى يجيء الرجل) بدل من قوله حتى تعجز وتوضيح له. اهـ، وفي المفهم و (الزحف) مشيُ الضعيف يقال زحف الصبي يزحف على الأرض قبل أن يمشي وزحف البعير إذا أعيا فَجَرَّ فِرْسَنَهُ "خُفَّهُ" (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفي حافتي الصراط) بتخفيف الفاء أي جانبيه (كلاليب) جمع كَلُّوبٍ على وزن فَعُّول نظير سَفُّود وهي التي سماها فيما تقدم خطاطيف وهي حديدة مُعْوَجَّة الرأس مِثْل ما في المقادي (معلَّقة) في هواء جهنم (مأمورة) من الله تعالى (بأخذ من أُمرت به) أي بأخذ من أُمرت بخطفه (فـ) منهم (مخدوش) أي فمن المارين على الصراط مخدوش أي مخطوف بالكلاليب مقطّع بها (ناج) من السقوط في جهنم (و) منهم (مكدوس) أي مدفوعٌ مَرْمِيٌّ (في النارِ) قال في النهاية: أي مدفوع، وتكدس الإنسان إذا دُفع من ورائه فسقط، وفي رواية (مكردس) وهو بمعنى مكدوس يقال كردس الرجل خيله إذا جمعها كراديس أي قطعًا كبارًا، ويحتمل أن يكون معناه المكسور فقار الظهر، ويحتمل أن يكون من الكردسة وهو الوثاق يقال كُرْدِسَ الرجل جُمعت يداه ورجلاه حكاه الجوهري، قال أبو هريرة (والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم) أي إن بُعد عمقه (لسبعون خريفًا) أي لمسافة سبعين عامًا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، يفسره ما في الحديث الآخر حيث قال فيه (إن الصخرة العظيمة لتُلقى في شفير جهنم فتهوي فيه سبعين عامًا) رواه الترمذي [2578] من حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه، والخريف أحد فصول السنة كما قال بعضهم:

ربيع صيف من الأزمان

خريف شتاء فخذ بياني

وهو الذي تُخترفُ فيه أي تُجنى وتُقْطف فيه الثمار والعرب تذكره كما تذكر المساناة والمشاهرة يقال عاملته مُخارفة أي إلى الخريف، والأجود رفع (لسبعون) على الخبر، وبعضهم يرويه (لسبعين) وهو صحيح أيضًا مخفوضًا بالإضافة على مذهب من يُبقي المضاف إليه مخفوضًا بعد حذف المضاف فيكون التقدير إن قعر جهنم لسير سبعين

ص: 80

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

خريفًا أو على أن قعر جهنم مصدر قَعَرْتُ الشيء إذا بلغت قعره ويكون سبعين ظرف زمان في موضع خبر إن، والتقدير إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفًا والخريف السنة كما مر آنفًا والله أعلم. وهذا الحديث انفرد به مسلم في روايته عن حذيفة رضي الله عنه.

وجملة ما ذكره المؤلف في هذا الباب من الأحاديث ثلاثة: الأول حديث أنس ذكره للاستدلال وذكر فيه ثلاث متابعات، والثاني حديث أبي هريرة ذكره للاستشهاد وذكر فيه متابعتين، والثالث حديث حذيفة وذكر للاستشهاد أيضًا.

***

ص: 81