الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: شرح آيات هذا الموضع
هذه الآيات الكريمات تعرفنا بربِّنا تبارك وتعالى على النحو التالي:
1 -
الله تعالى هو خالق السموات والأرض:
الله وحده الذي خلق السموات والأرض، لا يشركه في ذلك أحد، وهما من أعظم المخلوقات، وفيهما ما لا يحصى من الآيات، وكان أهل الجاهلية يقرِّون بتفرد الله بخلق السموات والأرض وحده، ولا يجادلون في ذلك، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} .
2 -
يوم يقول كن فيكون:
في يوم القامة يقول ربُّ العزَّة: {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقّ} أي: يقول ليوم البعث والنشور: {كُنْ فَيَكُونُ} أي: يكون كما يريده الله و {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْك} أي: قوله تبارك وتعالى الحق الذي لا باطل فيه، وله الملك الذي لا نقص فيه، وفي ذلك اليوم {يُنْفَخُ فِي الصُّور} البوق العظيم الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، فتقوم الساعة، ثم ينفخ فيه مرَّة أخرى، فإذا هم قيام ينظرون.
3 -
عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير:
عرَّفنا ربنا في خاتمة هذه الآية الكريمة بثلاث من صفاته الكريمة، فقال:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير} فهو سبحانه وتعالى
عالم الغيب، وهو ما غاب عنَّا من أمره تعالى وأمر هذا الكون، وأمر ما فيه من مخلوقات، وعالم ما نشاهده من هذه الحياة، وهو الحكيم سبحانه في تشريعه، والحكيم في أفعاله، وهو سبحانه الخبير بكلِّ شيءٍ، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
4 -
الله - سبحانه - فالق الحبِّ والنوى:
أخبرنا الله - تعالى - عن نفسه أنَّه {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُون} [الأنعام: 95] أعلمنا عز وجل أنَّه يفلق حبَّ القمح والشعير والذرة ونحوها، ويفلق نوى التَّمر والخوخ والدراق ونحوها عندما تندثر في التراب، وينزل عليها الماء، فيخرج من الحبوب النبات، ومن النَّوى الأشجار، وقد فسَّر الله تعالى فلقه للحبِّ والنَّوى بقوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} فمن الحبِّ والنوى الميت تخرج النَّبتة الحيَّة والشجرة الحيَّة، ومن النَّبتة الحيَّة، والشجرة الحية تخرج الحبوب والثمار الصلدة القاسية، {ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} هذا هو ربُّنا تبارك وتعالى الذي يستحقُّ أن يعبد دون غيره، فكيف تصرفون عن الحقِّ بعد هذا البيان.
وفي هذا الذي أخبرنا به سبحانه - عن نفسه في هذه الآية حجَّة على المكذبين بالبعث والنشور، فالقادر على أن يفعل هذا بالنبات، قادرٌ على إحياء الناس بعد موتهم.
5 -
الله سبحانه فالقُ الإصباح:
عرَّفنا ربُّنا عز وجل على ثلاثة من أفعاله تدلُّنا عليه سبحانه {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانً} [الأنعام: 96].
أخبرنا ربُّنا عز وجل أنه: «يفلق ظلام الليل عن غرَّة الصباح، فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه» [ابن كثير: 3/ 61].
وقد بيَّن سيد قطب رحمه الله تعالى العلاقة بين فلق الله الإصباح وفلقه الحبَّ والنوى، فقال: «وانفلاق الإصباح من الظلام حركة تشبه في شكلها انفلاق الحبّة والنواة، وانبثاق النُّور في تلك الحركة، كانبثاق البرعم في هذه الحركة، وبينهما من مشابه الحركة والحيوية والبهاء والجمال سمات مشتركةٌ، ملحوظةٌ في التعبير عن الحقائق المشتركة في طبيعتهما وحقيقتهما كذلك.
وبين انفلاق الحبِّ والنوى وانفلاق الإصباح وسكون الليل صلةٌ أخرى، إنَّ الإصباح والإمساء، والحركة والسكون في هذا الكون أو في هذه الأرض ذات علاقةٍ مباشرة بالنبات والحياة» [في ظلال القرآن: 2/ 1157].
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} أي جعل الله الليل الذي يغشى الأرض بظلامه ليسكن فيه الناس سكون راحةٍ، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67].
وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} أي: يجريان بحساب مقدَّرٍ مقنَّنٍ، لا يتغيَّر، ولا يضطرب، بل كلُّ منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتَّب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] والحسبان جمع حسابٍ، مثل ركبانٍ وركاب، وشهبان وشهاب، وقوله عز وجل {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] أي: هذا الذي ذكره سبحانه من فلقه الإصباح، وجعله الليل سكناً، وجعله الشمس والقمر حسباناً هو تقدير الله سبحانه الذي لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف، العليم بكلِّ شيءٍ فلا يخفى عنه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
6 -
جعل الله لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر:
أعلمنا الله - تعالى - أنه جعل لنا النجوم لنهتدي بها في ظلمات البرِّ والبحر {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وهذا مما امتنَّ الله به علينا في خلقه النجوم لنا، فسالكو القفار وراكبو البحار يهتدون بها في ظلمة الليل.
وختم سبحانه الآية بقوله: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] أي: قد بيَّنا الآيات التي سبق ذكرها، لقوم يعلمون شرع الله، ليتدبروها ويعرفوا الحق ويتجنبوا الباطل.
7 -
أنشأ الله تعالى البشر كلَّهم من نفس واحدة:
امتنَّ الله علينا نحن البشر بخلقنا من نفسٍ واحدةٍ {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأنعام: 98] والنفس الواحدة التي يعود البشر كلُّهم إليها هي آدم عليه السلام، فمنه خلق الله زوجه حواء، وخلق بقية البشر من ذكرٍ وأنثى، إلا عيسى ابن مريم، فإنَّه خلق من أنثى هي أمُّه مريم من غير أبٍ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1].
وقوله تعالى: {فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} [الأنعام: 98] ذهب كثيرٌ من أئمة التفسير كابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وأبي عبد الرحمن السلميِّ، وقيس بن أبي حازمٍ، ومجاهدٍ، وعطاءٍ، وإبراهيم النخعيِّ، والضَّحاك، وقتادة، والسُّديِّ، وعطاءٍ الخراساني إلى أنَّ المستقرَّ: الأرحام، والمستودع: أصلابٌ الرجال [ابن كثير: 3/ 62].
وقد تقدَّم العلم اليوم واكتشف أنَّ الإنسان يوجد من الخليَّة الملقحة، يقول سيد قطب في تفسير قوله تعالى:{فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ} «إنَّها اللَّمسة المباشرة في هذه المرة. . . ، اللمسة في ذات النفس البشرية، النفس البشرية الواحدة. تبدأ الحياة فيها خطوتها الأولى للتكاثر بالخلية الملقحة، فنفسٌ هي مستودعٌ لهذه الخلية في صلب الرجل، ونفسٌ هي مستقرٌ لها في رحم الأنثى. . . ، ثم تأخذ الحياة في النمو والانتشار، فإذا أجناسٌ وألوان؛ وإذا شياتٌ ولغاتٌ؛
وإذا شعوبٌ وقبائل؛ وإذا النماذج التي لا تحصى، والأنماط التي ما تزال تتنوع ما دامت الحياة.
{قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فالفقه هنا ضروريٌّ لإدراك صنع الله في هذه النفس الواحدة، التي تنبثق منها النماذج والأنماط، ولإدراك الموافقات العجيبة الكامنة وراء اتخاذ التلاقح وسيلة للإكثار، وتوفير الأعداد المناسبة دائماً من الذكور والإناث - في عالم الإنسان - لتتم عملية التزاوج التي قدَّر الله أن تكون هي وسيلة الإخصاب والإكثار، ووسيلة تنشئة الأطفال في ظروفٍ تحفظ (إنسانيتهم) وتجعلهم أكفاء للحياة (الإنسانية)!» [في ظلال القرآن: 2/ 1159 بشيء من الاختصار].
8 -
إنزال الله - تعالى - الماء من السماء وإنبات النبات به:
حدَّثنا ربُّنا تبارك وتعالى عن إنزاله الماء من السماء وما يفعله هذا الماء عندما ترتوي به الأرض، فلو أنَّك مررت بأرضٍ يابسةٍ جرداء، جادها الغيث فروَّاها، ثم مررت به مرةً أخرى بعد فترةٍ ليست بالطويلة، فإنَّك ترى عجباً، ترى تلك الأرض الجرداء أصبحت مُعشوشِبةً خضراء، تراها تنبت، وتزهر، وتخرج حبَّها، وثمرها، ومن يحسن النظر إلى آثار المياه، ويحسن الوصف، يرينا منظراً رائعاً بديعاً، ولا أحد أحسن وصفاً من وصف ربِّ العباد، ومن تأمَّل في وصفه لآثار ما صنع المليك، يرى صورةً مبهجةٍ ذات زينةٍ ورونقٍ، يقول ربُّنا الحكيم العليم:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الأنعام: 99] وكلُّ ما علاك فهو سماءٌ، ومن ذلك الغمام الذي ينزل منه الماء،
فأخرج الله سبحانه به نبات كلِّ شيءٍ، أي أخرج به جميع أنواع النبات، فلو أنك نظرت في القطعة الواحدة من الأرض التي غذاها الغيث، فإنَّك تجد فيها ما لا يحصى من النبات على شتى أنواعه وألوانه، وأخرج سبحانه من ذلك النبات خضراً، عبَّر عن الخضرة التي اتَّصف بها النبات بقوله:{خَضِراً} ، وخضراً أرقُّ وألطف من كلمة: أخضر.
وأخبرنا العليم الخبير سبحانه أنَّه أخرج من ذلك النبات الخضر حباً متراكباً، وهذا الحبُّ المتراكب تراه فيما ينبته القمح والشعير والذرة ونحوها من السنابل، ويخرج من النخيل من طلعها قنوان دانيةٌ، والطَّلع أول ما يرى من عذق النخلة، الواحدة طلعةٌ، ويخرج لنا ربُّنا من طلع النخل قنونًا دانيةً، والقنوان العذق الذي يحمل الثَّمر، والعذق في النَّخلة بمثابة القطف من العنب، وهذه القنوان دانيةٌ، أي قريبة المتناول، وعندما نقف ننظر إلى النَّخل وقد تدلَّت قطوفه، وتهدَّلت، نراها كما وصف ربُّنا:{قِنْوَانٌ دَانِيَة} .
هذا الذي سبق ذكره مشهد وصفه مليكنا سبحانه لأرضٍ أنبتت النبات، ومشهد آخر يريناه في قطعةٍ أخرى يتمثَّل في الجنَّات، وهي {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} والجنات البساتين، وهي بساتينٌ من أعنابٍ، وقد يكون الشجر زيتوناً أو رماناً، وما أنبته الله من النبات، وما أخرجه من أشجارٍ قد يكون مشتبهاً، وقد يكون غير متشابه، وقد يتشابه النبات، وقد تتشابه الأشجار، وقد يكون التشابه في الشجر، قد يكون التشابه في الثمر، وقد يكون في الطَّعم، وقد يختلف ذلك كله، فلا تشابه فيه.