الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفترون: تكذبون وتختلقون.
يشتهون: يختارون.
كظيم: الكظيم الذي امتلأ غيظاً وحنقاً، فلا يتكلم.
يتوارى من القوم: يتغيب عن قومه.
أيمسكه على هونٍ، أي: يبقيه حياً وهو يشعر بالذلة والهوان.
مثل السوء: صفة السوء.
المثل الأعلى: الصفة العليا التي لا نقص فيها.
رابعًا: تفسير هذه الآيات الكريمات
عرَّفنا ربُّنا عز وجل بنفسه في هذه الآيات الكريمات، ببيان ما يأتي:
1 -
أمر الله تعالى عباده أن ينظروا إلى ما خلق من شيء:
وجَّه الله تبارك وتعالى أنظار عباده إلى النظر إلى ما خلق من شيءٍ يُتفيَّؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجَّداً لله، فقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 48 - 50].
قال ابن جريرٍ في تفسيره: «أو لم ير هؤلاء الذين مكروا السيئات إلى ما خلق الله من جسمٍ قائمٍ شجرٍ أو جبلٍ أو غير ذلك يتفيأ ظلاله عن اليمين
والشمائل، يقول: يرجع من موضع إلى موضع، فهو في أوَّل النهار على حال، ثم يتقلَّص، ثم يعود إلى حالٍ أخرى في آخر النهار» [تفسير الطبري: 6/ 4988].
وقال ابن الجوزي: «قوله تعالى: {إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} أراد من شيء له ظلٌّ، من جبلٍ، أو شجرٍ، أو جسمٍ قائمٍ {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ} وهو جمع ظل، وإنما جمع وهو مضاف إلى واحد، لأنه واحدٌ يراد به الكثرة. قال ابن قتيبة: ومعنى يتفيَّأ ظلاله: يدور ويرجع من جانبٍ إلى جانب، والفيء: الرجوع، ومنه قيل للظل بالعشيِّ: فيئٌ لأنه فاء عن المغرب إلى المشرق.
قال المفسرون: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة، كان الظلُّ قُدَّامك، فإذا ارتفعت كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك، وإذا دنت للغروب كان على يسارك، وإنما وحّد اليمين، والمراد به: الجمع، إيجازاً في اللفظ، كقوله تعالى:{وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، ودلّت «الشمائل» على أن المراد به الجميع، وقال الفراء: إنما وحَّد اليمين، وجمع الشمائل، ولم يقل: الشمال، لأنَّ كل ذلك جائز في اللغة» [زاد المسير: 4/ 452].
وقوله تعالى: {سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} أي: يسجدون لله رب العالمين، وهم داخرون، أي: صاغرون.
ثم أخبر ربُّ العزَّة - سبحانه - عن سجود الدواب والملائكة لله تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]. وهذا الكون كل ما فيه يسجد لله ربِّ العالمين، كما قال تعالى:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، وقال:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] ، ونحن نعلم أن المخلوقات التي عدَّها ربُّنا وغيرها تسجد له حقيقةً، ولكننا لا نعرف كيف تسجد، كما قال الله تعالى في تسبيح الكائنات {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
وقد كانت الجبال والطير يسبحن مع نبي الله داود عليه السلام {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} [الأنبياء: 79] وأخبرنا ربُّنا عز وجل أنَّ الرعد يسبح بحمده {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد: 13].
وأخبرنا ربُّنا العليم الحكيم سبحانه أنَّ الملائكة تسبح بحمده وهم لا يستكبرون، وأنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]. فالملائكة الكرام مع ما أعطاهم من قوى وقدراتٍ، لا يملك مثلها أحد من أهل الأرض يخافون ربَّهم من فوقهم، وهم يديمون طاعة ربِّهم، وكلُّ ما أمرهم به فعلوه من غير تقصير.
2 -
نَهْيُ الله عباده عن اتخاذ إلهين اثنين:
نهى الله - تعالى - عباده أن يتخذوا إلهين اثنين، وقرَّر سبحانه وتعالى أنَّ الإله الذي يستحقُّ العبادة إلهٌ واحدٌ {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51].
نهى الله تبارك وتعالى عن اتخاذ إلهين اثنين، ثم أثبت أنَّ الإلهية منحصرة في إلهٍ واحدٍ، وهو الله سبحانه، ثمَّ أمر الله سبحانه بالخوف منه وحده {فإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} أي: ولا تخافوا المعبودات الباطلة التي كان يعبدها المشركون.
وقوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النحل: 52] أي: هو مالكهما وخالقهما سبحانه، {وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا} [النحل: 52] أي: الدينونةُ لله ربِّ العالمين، وقوله:{وَاصِبًا} ، أي: دائماً، ومنه قوله تعالى:{وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي: دائمٌ.
وقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل: 52] أغير الله تتقون عذابه وعقابه؟ ثم قرر ربُّ العزَّة في خطابه عباده أنَّ كلَّ النعم التي تحيط بنا هي من ربِّنا وحده سبحانه، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]. والنعم قد تكون دينية، وهي معرفة الحقِّ والعمل به، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية، أو هي خارجية وهي تتمثل في الأولاد والأزواج والزروع والحرث ومتاع الدنيا، ونعم الله تعالى تحتاج إلى شكر.
وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، أي: إذا أصابتنا المصائب، ونزلت بنا الدوائر، فإلى الله تعالى نجأر، أي: ترفعون أصواتكم مستغيثين به سبحانه متضرعين له، لعلمكم أنَّه وحده الذي يستطيع رفع الضرِّ عنكم.
وأخبرنا عن حال الكفار إذا رفع الضر عنهم، فقال:{ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54]. أي: إذا رفع ربُّ العزَّة
الضرَّ الذي نزل بعباده سبحانه {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} أي: إذا جماعةٌ من العباد الذين أخلصوا دينهم في حال نزول الضرِّ بهم يشركون في حال رفعه الضرَّ عنهم، وهذا الذي فعله هؤلاء أمر مستغربٌ منه، متعجبٌ منه، فهؤلاء بعد أن وحّدوا كفروا {لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 55] أي: ليكفروا بما آتاهم الله تعالى من كشف الضرِّ، وقوله:{فَتَمَتَّعُوا} أي: بدنياكم، فإنَّها قليلةٌ فانيةٌ و {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عندما تصيرون إلى يوم الدين، وينزل بكم العذاب.
3 -
كفار أهل مكة يجعلون لأصنامهم نصيباً مما رزقهم الله تعالى:
أخبرنا ربُّنا العليم الحكيم أنَّ مشركي أهل مكَّة {يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل: 56]. أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ هؤلاء الكفار يجعلون للأصنام والأوثان التي لا تعقل، ولا تعلم، ولا تضر، ولا تنفع، يجعلون لها نصيباً من أموالهم وأنعامهم التي رزقهم الله تعالى إياها، {تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أقسم ربُّ العزَّة سبحانه وتعالى بذاته الكريمة، على أنَّهم سيسألون يوم القيامة عما كانوا يفترونه، وهذا السؤال سؤال توبيخ وتقريع، والمراد به أن يعترفوا على أنفسهم في ذلك اليوم، لأنَّ سؤال التوبيخ هو الذي لا جواب لصاحبه إلا ما يظهر فيه فضيحته.
وقوله: {تَفْتَرُونَ} أي: تقوَّلونه على الله تبارك وتعالى.
4 -
كان أهل الجاهلية ينسبون لله سبحانه البنات وينسبون لأنفسهم الذكور:
أخبرنا ربُّنا عز وجل أنَّ قبائل من عرب الجاهلية كانوا يجعلون البنات لله، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهونه:{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]. وهذا من إفكهم وضلالهم، فقد كانوا يزعمون أنَّ الملائكة بناتُ الله تعالى الله عما يقولون {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 151 - 154].
وقوله تعالى {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أي: يختارون لأنفسهم الذكور، ويأنفون من البنات، وأخبرنا ربُّنا عز وجل أنه {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 - 59].
أخبرنا ربُّنا عز وجل أن الواحد من أهل الجاهلية إذا رزقه الله تعالى بالأنثى، وبُشِّر بها، امتلأ قلبه غيظاً، وأصابه النكد والهمُّ، وتغيَّرت ملامح وجهه، وتعكَّرت، وظهرت عليه علامات الاكتئاب، وأصبح كظيماً، والكظيم الذي امتلأ غيظاً وحنقاً، فلا يتكلم. وتراه {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه} أي: تراه يتغيَّب عن قومه، ويختفي منهم، من سوء العار الذي بشِّر به، وأصبح الواحد منهم بين حالين تجاه هذه الوليدة، الأولى: أن يمسكها على هونٍ، أي: