الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: شرح آيات هذا الموضع
عرَّفنا ربُّنا عز وجل بنفسه في آيات هذا النص عبر النقاط التالية:
1 -
سعة علم الله تعالى وما اختصَّ الله بعلمه سبحانه:
عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى ما اختصَّ بعمله دون سائر خلقه، فقال:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
ومفاتح الغيب خمسةٌ تضمَّنتها آية سورة لقمان، ففي الحديث عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمسٌ، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]» [البخاري: 4778]. وسيأتي بيانها بحول الله وقوَّته في سورة لقمان.
والمفاتح: جمع مفتح، وهو المفتاح، أو مخازن الغيب. والله سبحانه علمه واسعٌ لا يخفى عليه شيءٌ {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59] أي: علمه محيطٌ بجميع الكائنات برِّيِّها وبحريِّها.
فلا يخفى عليه الذَّرُّ إما. . . تَراءَى للنَّواظِرِ أو تَوَارَى
وأعلمنا ربُّنا بأنَّه لا يخفى عليه شيءٌ، ولا يغيب عنه شيءٌ فقال:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] أي ما تسقط من ورقةٍ في الصحاري والبراري والأمصار والقرى إلا ويعلمها الله، وانظر إلى الأرض كم فيها من أشجارٍ،
وكم على كلِّ شجرةٍ من أوراقٍ، وما من ورقةٍ في البراري والقفار، والحقول والحدائق والجبال تسقط إلا وعلم الله تعالى محيطٌ بها، وما ممن حبَّةٍ تندثر في تراب الأرض فتنبتُ، أو نبتةٌ تصفرُّ وتذوي وتموت إلا وعلم الله محيطٌ بها، وكلُّ ذلك مدوَّنٌ في كتابٍ مبينٍ، وهو اللوح المحفوظ.
2 -
الله تعالى يتوفانا بالليل ويعلم ما جرحنا في النهار:
أخبرنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّه يتوفانا بالليل، ويعلم ما جرحنا بالنَّهار، قال سبحانه:{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} [الأنعام: 60] وتوفِّيه لنا في الليل، أي: بالنوم، لأنَّه يقبض سبحانه أرواحنا عن التصرف بالنوم، وهذا التوفي هو التوفي الأصغر، قال تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجلَّ مُسَمًّى} [الزمر: 42].
وقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} أي: ما كسبتموه بجوارحكم من الخير والشر. وقوله تعالى: {ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} أي: يوقظكم في النهار من منامكم. وقوله: {لِيُقْضَى أَجلَّ مُسَمًّى} أي: ليقضي الله الأجل الذي سمَّاه لحياتكم، وذلك بالموت. وقوله:{ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ} أي: إلى الله مصيركم ومعادكم، {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم في يوم الدين بما عملتموه في الحياة الدنيا، ثم يحاسبكم، ويجزيكم عمَّا عملتموه.
وهذا الذي تضمنته الآية وإن كان خبرًا من الله عن قدرته وعلمه إلا أنَّ فيه احتجاجًا على المشركين الذين كانوا ينكروه قدرته على إحيائهم بعد مماتهم وبعثهم بعد فنائهم، فالذي يقبض أرواحهم بالليل، ويبعثهم في النار، ليبلغوا أجلاً مسمَّى، قادرٌ على إحيائهم بعد الموت [الطبري: 4/ 3202].
3 -
الله هو القاهر فوق عباده:
أعلمنا ربُّنا عز وجل أنَّه القاهر فوق عباده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 61] أي: هو الغالب خلقه، العالي عليهم بذاته وقدرته، {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61]. والحفظة الذين يرسلهم الله علينا الملائكة الذين يحفظون أجسادنا وأعمالنا، قال السُّدي في الحفظة:«هي المعقِّبات من الملائكة، يحفظونه، ويحفظون عمله» [الطبري: 4/ 3204].
وقد ذكر الله تعالى الملائكة الذين يحفظون العباد في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. وفي قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11] وفي قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18].
«وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [الأنعام: 61] أي: إذا احتضر وَحانَ أجلُهُ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} أي: ملائكةٌ موكلون بذلك، قال ابن عباس وغير واحدٍ: لملك الموت أعوانٌ من الملائكة، يخرجون الروح من الجسد، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} أي: في حفظ روح
الموتى، بل يحفظونها، وينزلونها حيث شاء الله عز وجل إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجَّار ففي سجِّين عياذًا بالله من ذلك» [ابن كثير: 3/ 29].
وقوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62]. أي: ردَّ الله الخلائق من الملائكة والجنِّ والإنس بالموت إليه، فالله مولاهم الذي يملكهم ويتولى أمورهم سبحانه، وهو أسرع الحاسبين، فيحكم فيهم - سبحانه - بعدله.
4 -
الله - تعالى - الذي ينجي عباده من ظلمات البر والبحر:
أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين سائلًا إياهم عن الذي ينجيهم من ظلمات البرِّ والبحر إذا أحاطت بهم {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 63].
والمراد بالظلمات في الآية الشدائد والأهوال والكربات التي تحيق بالإنسان في البرِّ والبحر، والعرب تقول: عامٌ أسود، ويومٌ مظلمٌ، وقد اعتاد الإنسان حتى لو كان مشركًا إذا أحاطت به ظلمات البرِّ والبحر أن يدعو ربَّه تضرُّعًا وخفية، أي: يدعوه مظهرًا الضَّراعة، وهي شدَّة الفقر والحاجة إلى ربِّه، ويدعوه خفيةً، أي: سرّاً، وأعلمنا ربُّنا أنَّه يقول في مناجاته ربَّه {لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
والإنسان عندما تحيط به المصائب العظام والكوارث التي لا يستطيع لها دفعًا يتوجَّه إلى ربه مخلصًا له الدين، لأنَّه في حالة الاضطرار يعلم أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، وأنَّه لا ينجيه مما حلَّ به إلا الحيُّ القيوم، {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22 - 23].
وقد تحدَّث بعض ركَّاب الطائرات عن حال الركاب عندما وقع خللٌ في طائرتهم، وهي تطير بهم في الفضاء، وتكاد تسقط بهم، وبيَّن كيف تضرَّعوا إلى ربِّهم مخلصين له الدين، لا فرق بين الفاسق والعالم بالله.
وأخبرنا ربُّنا - سبحانه - أنه وحده القادر على إنجاء عباده من الكوارث والكروب التي تحيط بهم، ولكنَّ هؤلاء بعد أن ينجيهم ربُّهم مما أصابهم يعودون إلى شركهم وكفرهم {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64].
5 -
الله تعالى قادر على أن يأخذ عباده بعذابٍ يحيط بهم:
أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخوِّف الناس عذابه وانتقامه {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَاسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65].
والعذاب الذي تهدَّد الله به عباده قد يكون آتيًا من فوقهم كعذاب قوم لوط، وعذاب أصحاب الفيل، وقد يكون بالصيحة أو الغرق أو الريح أو الحجارة، وقد يكون من تحتهم كالخسف والزلازل، وقد يكون بتسليط بعضهم على بعضٍ.
قال الربيع بن أنسٍ: «{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يعني: يبث فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فرقاً، يقاتل بعضكم بعضاً، ويخالف بعضكم بعضاً» [التفسير البسيط: 8/ 204].
ومن يقرأ التاريخ بعد عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم يجد سجلاً حافلاً بما أصاب البشرية من خسفٍ وزلازل وبراكين وصواعق، وما ثار بين الناس من حروبٍ ذاق فيها بعضهم بأس بعضٍ، وقد وقع في هذه الأيام التي أكتب فيها تفسير هذه الآية [يوم الجمعة، الثامن من ربيع الأول عام 1432 هـ الذي يوافقه الحادي عشر من شباط (مارس) 2011] زلزالٌ عظيم في اليابان، لم تصب بمثله تلك الديار منذ مائة وخمسين عاماً، وقد امتدَّت آثاره إلى دول كثيرة مجاورةٍ، وارتفعت أمواج البحر في بعض مدن اليابان إلى عشرة أمتار، ودخلت مياه البحر إلى العمران، وسقط ألوف القتلى، وانهارت العمارات، وخربت الأسواق، وثارت الحرائق، وأصبحت بعض المحطات الكهربائية النووية في خطر.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته أن لا يصيبها بالعذاب، فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، ففي صحيح مسلم عن عامر بن سعد، عن أبيه، أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يومٍ من العالية، حتى إذا مرَّ بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه
ركعتين، وصلَّينا معه، ودعا ربَّه طويلًا، ثم انصرف إلينا، فقال:«سألت ربي ثلاثًا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدةً، سألت ربِّي أن لا يهلك أمَّتي بالسَّنة، فأعطانيها، وسألته أن لا يهلك أمَّتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» [مسلم: 2890].
والذي أعطاه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن لا يهلك أمَّته بعذاب عامٍّ أو بغرقٍ عامٍّ، أما أن يعذب طائفةً منهم بالعذاب، أو يهلك بعضهم بالغرق، فهذا قد وقع، ولا يزال مستمراً.
وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإنِّي سألت ربِّي لأمَّتي أن لا يهلكها بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإنَّ ربِّي قال: يا محمد! إنِّي إذا قضيت قضاءً فإنَّه لا يردُّ، وإنِّي أعطيتك لأمَّتك أن لا أهلكهم بسنةٍ عامَّةٍ، وأن لا أسلِّط عليهم عدوًا من سوى أنفسهم، يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال: من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا» [مسلم: 2889].
وعن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65] قال النبي صلى الله عليه وسلم «أعوذ بوجهك» . فقال: {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجلَّكُمْ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا أيسر» [البخاري: 7406. وانظر الحديث رقم 4628].