الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضع القرآني [48]
إنا خلقناكم من تراب
في هذه الآيات نادى ربُّ العزَّة الناس الذين يشكُّون بالبعث، ويكذبون به {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي: كنتم مرتابين في البعث وشاكين فيه، وقوله:{فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي: بخلق أبيكم آدم، فقد خلقه من تراب، ثمَّ أصبح التراب طيناً، ثمَّ حمأً مسنوناً، ثمَّ صلصالاً كالفخار، وقد خلقه ربُّ العزَّة بيده، ثم نفخ فيه الروح.
وبقية البشر خلقهم من ذكرٍ وأنثى إلا عيسى ابن مريم، فإنَّه خلق من أنثى من غير أب. وبنو آدم يخلقون في أرحام أمهاتهم، ويكون أوَّل أمرهم نطفة، أي: منياً، ثم يصبح هذا المني علقةً، وهي الدم الجامد الغليظ، ثم يصبح قطعة لحمٍ على شكل المضغة، وقد يكتمل خلق هذه المضغة، حتى يتشكل منها الطفل، وقد لا يتمُّ خلقها {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} وقد اكتشف العلم الحديث بواسطة المكبرات أنَّ مني الرجال تحوي كلُّ قذفة منه ملايين الحيوانات المنوية، فإذا عاشر الرجل زوجته، انطلقت الحيوانات المنوية إلى حيث تكون بويضة المرأة، فإذا وجد أحدها البويضة التحم بها، وعند ذلك تأخذ هذه البويضة الملقحة بالانقسام والتكاثر، وتنغرس في جدار رحم المرأة، ثم تصبح علقةً، ثم مضغةً، وبعد ذلك تنمو إلى أن تصبح طفلاً، وقد أدخل الأطباء المعاصرون في رحم امرأة أثناء الحمل آلةً صوروا عبرها ما يجري في الرحم للجنين من أول أمره، فكان ما يجري في الرحم هو ما حدثنا عنه ربُّ العزَّة تبارك وتعالى في هذه الآية.
وقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: لنبين لكم بهذا النقل من طورٍ إلى طور كمال قدرتنا على البعث بعد الموت، وعلى كلِّ شيءٍ، لأنَّ مَنْ قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق.
وبعد أن يكتمل خلق الجنين في الرحم، يخرجه الله إلى هذه الحياة، ثم ينمو هذا الطفل حتى يبلغ أشدَّه في سنِّ الثلاثين إلى سنِّ الأربعين، وبعض
الناس يتوفى مبكراً قبل أن يبلغ سنَّ الأشد، وبعضهم يكبر حتى يردَّ إلى أرذل العمر، {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجلَّ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} و {أَرْذَلِ الْعُمُرِ} . . . أخسه وأدونه، وهو الهرم والخرف، حتى لا يعقل.
ومن الآيات التي أوضح الله فيها أطوار خلق الإنسان قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَانَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]، وقوله:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجلَّا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67].
وقد عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بمزيد من التعريف بنفسه، فقال:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، وقوله:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً} أي: تراها هامدة رؤيةً بصريةً، وهامدةً يابسةً، ليس فيها حياةٌ، ولا نباتٌ، قوله:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} فإذا أنزل الله عليها ماء المطر أو الأنهار أو العيون {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي: تحركت الأرض بالنبات الذي تحرك في داخلها، ثم خرج منها، ومعنى {وَرَبَتْ} زادت وارتفعت. وقوله:
{وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي: من كلِّ صنفٍ حسنٍ، والبهجة: حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج، وهو الحسن الصورة الذي تتمتع العين برؤيته.
وعقَّب الله - تعالى - على ما ذكره بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 6 - 7]. وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} والحقُّ الموجود الثابت الأبديُّ السرمديُّ الذي لا يتغير، ولا يزول.
وقوله: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} أي: كما أحيا الأرض بالنبات، فإنه يحيى يوم القيامة العباد، ويخرجهم من قبورهم {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 78 - 80].
وقوله: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومن عظيم قدرته إحياء في يوم الدين، وقوله:{وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} الساعة: القيامة، وقد قرَّر مجيئها من غير شك، {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: يجيبهم.
* * *