الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 54 - 57].
ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآيات
استوى على العرش: معنى استوى علا وارتفع واستقرَّ، أما كيفية الاستواء فلا يعلمه إلا الله تعالى، والعرش سرير ملك الله تعالى، وهو أعظم مخلوقاته سبحانه.
يغشى الليل النهار، أي: يغطيه، ويستره.
يطلبه حثيثاً، أي: يطلب الليل النهار في غاية السُّرعة.
أقلَّت: حملت.
الثقال: ثقلها بسبب ما تحمله من المياه.
الميِّت: القاحل الممحل.
رابعًا: شرح آيات هذا الموضع
عرَّفنا الله ربُّنا في هذه الآيات بنفسه تبارك وتعالى، حتى لو أنَّك سألت فقلت: من ربنا؟ لكانت الآيات جواباً عن السؤال، وإنَّ صيغة الآيات لتدلُّ على أن مراد الله تعالى بالآيات هو تعريف عباده بنفسه، اقرأ طليعة الآيات في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] وأقرأ خاتمة هذه الآية {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وتدبَّر ما قرأته ستجد صدق ما ذكرتُه.
وقد عرَّفنا ربُّنا بنفسه تبارك وتعالى من خمسة أوجه، هي:
1 -
خلقه سبحانه السموات والأرض في ستة أيام:
أخبرنا ربُّنا - سبحانه - أنه وحده الذي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما في ستة أيام، وهذه الأيام تبدأ من يوم الأحد، وتنتهي في يوم الجمعة، وهذه الأيام من أيام الله تعالى، ولا ندري طولها، وقد أعلمنا ربُّنا تبارك وتعالى أنَّ يوماً عنده كألف سنةٍ من سنواتنا، وأعلمنا ربُّنا أنَّ مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنةٍ من سنوات الدنيا {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54].
2 -
استواء ربِّنا جل جلاله على العرش:
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] العرش في لغة العرب سرير الملك، قال تعالى في كرسي ملكة سبأ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] وقال نبي الله سليمان: {أَيُّكُمْ يَاتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَاتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 38] وقال الله تعالى في عرش نبيِّ الله يوسف {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] والعرش أعظم مخلوقات الله تعالى، وهو لله تعالى سرير ملكه وقد وصفه الله تعالى بأنَّه عظيم {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129] ووصفه بأنَّه مجيدٌ في قوله {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15].
وكان عرش الله في الأزل علي الماء {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]. ويحمل عرش ربِّنا في يوم القيامة ثمانيةٌ من الملائكة {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]. وهؤلاء الملائكة الذين يحملون العرش في يوم القيامة يسبِّحون بحمد ربِّهم {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر: 7]. وفي يوم القيامة ترى الملائكة حافِّين من حول العرش يسبحون بحمد الله {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] وقد ضلَّ قومٌ كثيرون في تعريف عرش الرحمن، والنصوص التي سقناها تدلُّ على أنَّ عرش الرحمن سريرٌ عظيمٌ كريمٌ مجيدٌ، استوى عليه الرحمن ومعنى استوى في اللغة العرب: ارتفع، واستقرَّ وعلا.
3 -
يغشي الله تعالى الليل النهار يطلبه حثيثاً:
عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى أنه {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف: 54] أي: يجعل الليل غشاءً وساتراً للنهار ومغطياً له، وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه المقام، أي: يغشي النهار الليل أيضًا، فيأتي ضوء النهار ويغشى ظلام الليل، فيذهبه، ويحلُّ محلَّه، كما قال:{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعزَّيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 37 - 38].
وقوله تعالى: {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} أي: يطلبه طلباً حثيثاً مسرعاً غاية الإسراع فلا يمهله لحظةً [العذب النمير: 3/ 381].
4 -
جعل الله الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره:
وقوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} أي: أنَّ الله خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر والنجوم، وجعلهن مسخراتٍ بأمره، أي: في طلوعهنَّ وغروبهنَّ وحركاتهنَّ، كلُّ ذلك مقدَّرٌ وفق ما يريده الله ويحدِّده.
والله تعالى {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} فالخلق له كلُّه وحده، والأمر له كلُّه وحده. وقوله:{فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي: تبارك وتقدَّس، وأصل تبارك تفاعل إذا كثرت بركاته وخيراته.
وبعد أن عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى بنفسه أمرنا أن ندعوه تضرعاً وخفية، وأمرنا أن ندعوه خوفاً وطمعاً، فالدعاء هو العبادة كما صحَّ في الحديث، والله هو الذي يستحقُّ أن يعبد.
وقد أمرنا ربُّنا عز وجل أن ندعوه تضرُّعاً وخفيةً في قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] ومعنى {تَضَرُّعًا} أي: متذللين بخشوعٍ واستكانةٍ، ومعنى. . . {وَخُفْيَةً} أي: سراً وهمساً، ندعوه راجين رحمته خائفين عذابه. والدعاء الذي أمرنا الله به هو العبادة، وقد كان دعاء الصالحين خفيةً، فزكريا عليه السلام {نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3].
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فالله لا يحبُّ المعتدين، لا في الدعاء ولا في غيره، ومن الاعتداء في الدعاء رفع الصوت بالدعاء، أو
الدعاء بأن يؤتى الداعي مقام الملائكة ومقام الرُّسل والأنبياء، ومن ذلك ما رواه أبو داود أنَّ عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول:«اللهم إنِّي أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها» فقال: أي بنيَّ، سل الله الجنَّة، وتعوذ به من النَّار، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إنَّه سيكون في هذه الأمَّة قومٌ يعتدون في الطهور والدُّعاء» [صحيح سنن أبي داود: 87].
وأمرنا ربُّنا أن ندعوه سبحانه خوفاً وطمعاً {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
أمرنا ربُّنا تبارك وتعالى أن ندعوه جامعين بين الخوف منه والطَّمع في ثوابه.
وجمع الله - تعالى - بين الخوف والطَّمع، ليكون العبد خائفاً راجياً، كما قال تعالى:{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] فإنَّ موجب الخوف معرفة سطوة لله وشدَّة عقابه، وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه، قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]. ومن عرف فضل الله رجاه، ومن عرف عذابه خافه.
ويستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف، ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات، وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت، لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يموتنَّ أحدكم إلَاّ وهو يحسن الظَّن بربِّه» [التسهيل، لابن جزي: 2/ 35].