الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ
فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَوْ سِتَّةٍ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ فَعَلَهُ، فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، صَفَّ الْإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، فَصَلَّى بِهِمْ جَمِيعًا إِلَى أَنْ يَسْجُدَ،
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
[فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ]
[أَنْوَاعُ صَلَاةِ الْخَوْفِ]
فَصْلٌ
فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الْآيَةَ، وَمَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ صلى الله عليه وسلم، ثَبَتَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَتَخْصِيصُهُ بِالْخِطَابِ لَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَبِالسُّنَّةِ، وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام صَلَّاهَا، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى فِعْلِهَا، وَصَلَّاهَا عَلِيٌّ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَحُذَيْفَةُ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَالنَّبِيُّ لَمْ يُصَلِّهَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ؟
وَجَوَابُهُ: بِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِهَا.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عليه السلام نَسِيَهَا يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ قِتَالٌ يَمْنَعُهُ مِنْهَا.
(قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ) أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ: (صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَاةُ الْخَوْفِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ، أَوْ سِتَّةٍ) وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: سِتَّةِ أَوْجُهٍ أَوْ سَبْعَةٍ (كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِمَنْ فَعَلَهُ) قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: تَقُولُ بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا أَوْ تَخْتَارُ وَاحِدًا مِنْهَا؟ قَالَ: أَنَا أَقُولُ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْهَا كُلِّهَا فَحَسَنٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَهْلٍ فَأَنَا أَخْتَارُهُ.
وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ مُبَاحَ الْقِتَالِ، سَفَرًا كَانَ أَوْ حَضَرًا، مَعَ خَوْفِ هُجُومِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ لِقَوْلِهِ {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] (فَمِنْ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، صَفَّ الْإِمَامُ الْمُسْلِمِينَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ) قَالَ جَمَاعَةٌ: أَوْ أَكْثَرَ (فَصَلَّى بِهِمْ جَمِيعًا) مِنَ الْإِحْرَامِ، وَالْقِيَامِ، وَالرُّكُوعِ، وَالرَّفْعِ مِنْهُ (إِلَى أَنْ يَسْجُدَ فَيَسْجُدَ
فَيَسْجُدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَيَحْرُسُ الْآخَرُ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ إِلَى الثَّانِيَةِ، فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَإِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ، سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَ، وَحَرَسَ الْآخَرُ حَتَّى يَجْلِسَ الْإِمَامُ فِي التَّشَهُّدِ، فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَيَتَشَهَّدَ وَيُسَلِّمَ بِهِمْ.
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، وَيَحْرُسُ الْآخَرُ حَتَّى يَقُومَ الْإِمَامُ إِلَى الثَّانِيَةِ فَيَسْجُدَ وَيَلْحَقَهُ، فَإِذَا سَجَدَ فِي الثَّانِيَةِ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الَّذِي حَرَسَ، وَحَرَسَ الْآخَرُ حَتَّى يَجْلِسَ فِي التَّشَهُّدِ فَيَسْجُدَ، وَيَلْحَقَهُ فَيَتَشَهَّدَ، وَيُسَلِّمَ بِهِمْ) جَمِيعًا. هَذِهِ الصِّفَةُ رَوَاهَا جَابِرٌ قَالَ:«شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةَ الْخَوْفِ فَصَفَّنَا خَلْفَهُ صَفَّيْنِ، وَالْعَدُوُّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فَكَبَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَكَعَ وَرَكَعْنَا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، وَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ، وَقَامُوا، ثُمَّ تَقَدَّمَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ، وَتَأَخَّرَ الصَّفُّ الْمُقَدَّمُ، ثُمَّ رَكَعَ، وَرَكَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وَرَفَعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ انْحَدَرَ بِالسُّجُودِ، وَالصَّفِّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي كَانَ مُؤَخَّرًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، وَقَامَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم السُّجُودَ، وَقَامَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِيهِ، انْحَدَرَ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ، ثُمَّ سَلَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَسَلَّمْنَا جَمِيعًا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ بَعْضَهُ، وَرَوَى هَذِهِ الصِّفَةَ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَيَّاشٍ الزُّرَّقِيِّ، قَالَ:«فَصَلَّاهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِعَسَفَانَ، وَمَرَّةً بِأَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ» ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُؤَلِّفُ هُنَا تَأَخُّرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَتَقَدُّمَ الْمُؤَخَّرِ؛ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْخَبَرِ كَمَا تَرَى، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ " فَقِيلَ: هُوَ أَوْلَى لِلتَّسَاوِي فِي فَضِيلَةِ الْمَوْقِفِ، وَلِقُرْبِ مُوَاجَهَةِ الْعَدُوِّ، وَقِيلَ: تَجُوزُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ يَحْرُسُ السَّاجِدُ مَعَهُ أَوَّلًا، وَذَكَرَ الْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " الْمُحَرَّرِ " أَنَّ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ لَا يَسْجُدُونَ مَعَ الْإِمَامِ، بَلْ يَقِفُونَ حَرَسًا؛ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ، وَإِنْ حَرَسَ بَعْضُ الصَّفِّ، أَوْ جَعَلَهُمْ صَفًّا وَاحِدًا، جَازَ، لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَفِعْلُهُ عليه السلام أَوْلَى، وَظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَخْفَى بَعْضُهُمْ
الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، جَعَلَ طَائِفَةً حِذَاءَ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً، فَإِذَا قَامُوا إِلَى الثَّانِيَةِ، ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى. وَسَلَّمَتْ وَمَضَتْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الْأُخْرَى، فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، أَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى، وَتَشَهَّدَتْ، وَسَلَّمَ بِهِمْ. فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا يَخَافُوا كَمِينًا. زَادَ أَبُو الْخَطَّابِ وَتَبِعَهُ فِي " التَّلْخِيصِ ": أَوْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِمْ كَثْرَةٌ بِأَنْ يَحْرُسَ بَعْضُهُمْ، وَيُصَلِّيَ بَعْضٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي: إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةَ الْقِبْلَةِ، جَعَلَ طَائِفَةً حَذْوَ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً، فَإِذَا قَامُوا إِلَى الثَّانِيَةِ، ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى، وَسَلَّمَتْ، وَمَضَتْ إِلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الْأُخْرَى فَصَلَّتْ مَعَهُ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ أَتَمَّتْ لِأَنْفُسِهَا أُخْرَى، وَتَشَهَّدَتْ، وَسَلَّمَ بِهِمْ) وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ صَالِحِ بْنِ خَوَاتِ بْنِ جُبَيْرٍ عَمَّنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعِ صَلَاةَ الْخَوْفِ: «أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ، وَطَائِفَةً وُجَاهَ الْعَدُوِّ، فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ ثَبَتَ قَائِمًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَصَفُّوا وُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِسًا، وَأَتَمُّوا لِأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ» وَصَحَّ عَنْ صَالِحِ بْنِ خَوَاتٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ مَرْفُوعًا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ أَنَكَى لِلْعَدُوِّ، وَأَقَلُّ فِي الْأَفْعَالِ؛ وَهُوَ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْوَطُ لِلصَّلَاةِ وَالْحَرْبِ، وَإِنْ صَلَّى كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ؛ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، جَازَ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ فِي غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ؛ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَجَمَاعَةٍ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ عليه السلام بِذَاتِ الرِّقَاعِ كَانَتْ كَذَلِكَ، وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهَا تُفْعَلُ، وَإِنْ كَانَ الْعَدُوُّ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: قَالَ شَيْخُنَا: نَصُّ أَحْمَدَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا لَمْ تُمْكِنْ صَلَاةُ عَسَفَانَ، لِانْتِشَارِ الْعَدُوِّ، وَقَوْلُ الْقَاضِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا أَمْكَنَتْ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَوْلُهُ: (جَعَلَ طَائِفَةً حَذْوَ الْعَدُوِّ) ، شَرَطَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي " التَّلْخِيصِ " أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ يُمْكِنُ تَفْرِيقُهُمْ طَائِفَتَيْنِ، كُلُّ طَائِفَةٍ ثَلَاثَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء: 102] وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَذَهَبَ الْمُؤَلِّفُ وَجَمْعٌ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثَةِ يَصِحُّ بِهِ الْجَمَاعَةُ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ طَائِفَةٌ كَالثَّلَاثَةِ، بَلْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا الْوَاحِدُ.
قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: وَإِنْ كَانَ كُلُّ طَائِفَةٍ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، كُرِهَ، وَصَحَّ، وَظَاهِرُهُ لَا يَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا، لَكِنْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ تَحْصُلُ الثِّقَةُ بِكِفَايَتِهَا، وَحِرَاسَتِهَا، زَادَ أَبُو الْمَعَالِي: بِحَيْثُ يَحْرُمُ فِرَارُهَا، فَإِنْ فَرَّطَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ أَثِمَ؛ وَهُوَ صَغِيرَةٌ، الْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَخْتَصُّ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ، وَقِيلَ: يَفْسُقُ، وَإِنْ لَمْ يَتَكَرَّرْ، كَالْمُوَدِّعِ، وَمَتَى خَشِيَ اخْتِلَالَ حَالِهِمْ، وَاحْتِيجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى، فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَنْهَزَ إِلَيْهِمْ بِمَنْ مَعَهُ، وَثَبَتُوا عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِمْ، فَإِنْ أَتَى الطَّائِفَةَ الَّتِي بِإِزَاءِ الْعَدُوِّ مَدَدٌ، اسْتَغْنَتْ بِهِ عَنِ الْحِرَاسَةِ، فَهَلْ تَتْرُكُ الْحِرَاسَةَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ وَتُصَلِّي؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَعَلَيْهِمَا مَتَى صَلَّتْ، فَصَلَاتُهَا صَحِيحَةٌ.
قَوْلُهُ: (وَطَائِفَةٌ تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَةً) ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَفِّفَ لَهُمُ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَهَا عَلَى التَّخْفِيفِ، وَكَذَا الطَّائِفَةُ الَّتِي تُفَارِقُهُ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهَا لَا تُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَقِلَّ قَائِمًا؛ لِأَنَّ النُّهُوضَ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ جَمْعًا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى مُفَارَقَتِهِمْ لَهُ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَازَتْ لِلْعُذْرِ، وَتَنْوِي الْمُفَارَقَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمُتَابَعَةَ، وَلَمْ يَنْوِ الْمُفَارَقَةَ، بَطَلَتْ، وَتَسْجُدُ لِسَهْوِ إِمَامِهَا قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ عِنْدَ فَرَاغِهَا؛ وَهِيَ بَعْدَ الْمُفَارَقَةِ مُنْفَرِدَةٌ، وَقِيلَ: مَنْوِيَّةٌ، وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَنْوِيَّةٌ فِي كُلِّ صَلَاتِهِ، يَسْجُدُونَ لِسَهْوِهِ لَا لِسَهْوِهِمْ.
مَغْرِبًا صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً. وَإِنْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ،
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَوْلُهُ: (ثَبَتَ قَائِمًا) أَيْ: يَقْرَأُ حَالَ انْتِظَارِهِ وَيُطِيلُهَا، ذَكَرَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " وَغَيْرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا الْمُؤَلِّفُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ حَالُ سُكُوتٍ، وَالْقِيَامُ مَحَلُّ الْقِرَاءَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَا كَمَا فِي التَّشَهُّدِ إِذَا انْتَظَرَهُمْ، وَقَالَ الْقَاضِي: إِذَا قَرَأَ فِي انْتِظَارِهِمْ، قَرَأَ بَعْدَ مَجِيئِهِمْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَسُورَةٍ خَفِيفَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَأْ فِي انْتِظَارِهِمْ قَرَأَ إِذَا جَاءُوا بِالْفَاتِحَةِ وَسُورَةٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ، فَلَوْ قَرَأَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، ثُمَّ رَكَعَ عِنْدَ مَجِيئِهِمْ، أَوْ قَبْلَهُ، فَأَدْرَكُوهُ رَاكِعًا، رَكَعُوا مَعَهُ، وَصَحَّتْ لَهُمُ الرَّكْعَةُ مَعَ تَرْكِ السُّنَّةِ.
قَوْلُهُ: فَإِذَا جَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ، أَيْ: يَتَشَهَّدُ وَيُطِيلُهُ، وَيُطِيلُ الدُّعَاءَ فِيهِ حَتَّى يُدْرِكَهُ فَيَتَشَهَّدُوا، وَيُسَلِّمَ بِهِمْ، وَقِيلَ: لَهُ أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَهُمْ بَعْدَ أَنْ صَلَّوْا مَعَهُ رَكْعَةً، ثُمَّ يُصَلُّوا وَحْدَهُمْ رَكْعَةً أُخْرَى وَيُسَلِّمُوا، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمُوَافَقَةِ الْخَبَرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَلَاتَهُمْ كُلَّهَا مَعَهُ، وَلِتَحْصُلَ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ، وَالثَّانِيَةَ السَّلَامَ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ، كَصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَالرُّبَاعِيَّةِ الْمَقْصُورَةِ لِلْمُسَافِرِ، فَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَتُصَلَّى فِي الْخَوْفِ حَضَرًا بِشَرْطِ كَوْنِ الطَّائِفَةِ أَنْ تُعِينَ، فَيُصَلِّي بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً بَعْدَ حُضُورِهَا الْخُطْبَةَ، فَإِنْ أَحْرَمْ بِالَّتِي لَمْ يَحْضُرْهَا، لَمْ يَصِحَّ، وَتَقْضِي كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً بِلَا جَهْرٍ، وَتُصَلِّي الِاسْتِسْقَاءَ ضَرُورَةً كَالْمَكْتُوبَةِ، وَالْكُسُوفُ وَالْعِيدُ آكَدُ مِنْهُ.
(فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً) ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ التَّفْضِيلِ، فَالْأُولَى أَحَقُّ بِهِ، وَمَا فَاتَ الثَّانِيَةَ يَنْجَبِرُ بِإِدْرَاكِهَا السَّلَامَ مَعَ الْإِمَامِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ عُكِسَ، صَحَّتْ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ؛ لِأَنَّ الْأُولَى أَدْرَكَتْ مَعَهُ فَضِيلَةَ الْإِحْرَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ الثَّانِيَةَ فِي الرَّكَعَاتِ لِيَحْصُلَ الْجَبْرُ بِهِ، قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَكَيْفَ فَعَلَ جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا تُصَلِّي جَمِيعَ صَلَاتِهَا فِي حُكْمِ الْإِتْمَامِ، وَالْأُولَى تَفْعَلُ صَلَاتَهَا فِي حِكَمِ الِانْفِرَادِ.
صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَأَتَمَّتِ الْأُولَى بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَالْأُخْرَى تُتِمُّ بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وَسُورَةٍ، وَهَلْ تُفَارِقُهُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ؛ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَإِنْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعًا، فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَيَيْنِ،
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَخَرَّجُ: يَفْسَدُ مِنْ فَسَادِهَا بِتَفْرِيقِهِمْ أَرْبَعَ طَوَائِفَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إِذَا صَلَّى بِالثَّانِيَةِ الرَّكْعَةَ الثَّالِثَةَ، وَجَلَسَ لِلتَّشَهُّدِ قَامَتْ، وَلَا تَتَشَهَّدُ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِتَشَهُّدِهَا، بِخِلَافِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَفِيهِ وَجْهٌ: تَتَشَهَّدُ مَعَهُ إِذَا قُلْنَا: إِنَّهَا تَقْضِي رَكْعَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ، لِئَلَّا يُفْضِيَ إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ بِتَشَهُّدٍ وَاحِدٍ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ (وَإِنْ كَانَتْ رُبَاعِيَّةً غَيْرَ مَقْصُورَةٍ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَأَتَمَّتِ الْأُولَى) بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ (بِالْحَمْدُ لِلَّهِ) وَحْدَهَا (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) لِأَنَّهَا آخِرُ صَلَاتِهَا (وَ) تَقُومُ (الْأُخْرَى) إِذَا تَشَهَّدَتْ مَعَهُ الْأَوَّلَ (تُتِمُّ بِالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُورَةٍ) لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهَا، وَتَسْتَفْتِحُ إِذَا قَامَتْ لِلْقَضَاءِ، وَيُسَلِّمُ بِهِمْ، وَإِنْ قُلْنَا: مَا يَقْضِيهِ الْمَسْبُوقُ آخِرَ صَلَاتِهِ، فَلَا اسْتِفْتَاحَ، وَلَا يَقْرَأُ السُّورَةَ (وَهَلْ تُفَارِقُهُ الْأُولَى فِي التَّشَهُّدِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، عَلَى وَجْهَيْنِ) إِحْدَاهُمَا: تُفَارِقُهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ التَّشَهُّدِ، قَدَّمَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ "، وَ " الْفُرُوعِ "، وَجَزَمَ بِهِ فِي " الْوَجِيزِ "، وَغَيْرِهِ، وَيَنْتَظِرُ الثَّانِيَةَ جَالِسًا يُكَرِّرُهُ، فَإِذَا أَتَتْ، قَامَ لِيُدْرِكَ جَمِيعَ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ، وَلِأَنَّ الْجُلُوسَ أَخَفُّ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ مَتَى انْتَظَرَهُمْ قَائِمًا احْتَاجَ إِلَى قِرَاءَةِ السُّورَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ خِلَافُ السُّنَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي: تُحْرِمُ مَعَهُ، ثُمَّ يَنْهَضُ بِهِمْ، وَالثَّانِي: يُفَارِقُونَهُ حِينَ قِيَامِهِ إِلَى الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّطْوِيلِ مِنْ أَجْلِ الِانْتِظَارِ، وَالتَّشَهُّدُ يُسْتَحَبُّ تَخْفِيفُهُ، وَلِأَنَّ ثَوَابَ الْقَائِمِ أَكْثَرُ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، وَيَصِحُّ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً، وَبِأُخْرَى ثَلَاثًا، وَيَكُونُ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ، قَالَهُ ابْنُ تَمِيمٍ.
(وَإِنْ فَرَّقَهُمْ أَرْبَعًا فَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً) أَوْ فَرَّقَهُمْ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَصَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ، وَبِالْبَاقِيَتَيْنِ رَكْعَةً رَكْعَةً، أَوْ صَلَّى بِكُلِّ فِرْقَةٍ رَكْعَةً فِي الْمَغْرِبِ (صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَيَيْنِ) فَقَطْ، ذَكَرَهُ السَّامِرِيُّ، وَصَاحِبُ " التَّلْخِيصِ "، وَ " الْوَجِيزِ "، وَقَدَّمَهُ فِي " الْفُرُوعِ "
وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْأُخْرَيَيْنِ إِنْ عَلِمَتَا بُطْلَانَ صَلَاتِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً، ثُمَّ تَمْضِي إِلَى الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى، فَيُصَلِّي بِهَا رَكْعَةً وَيُسَلِّمُ وَحْدَهُ، وَتَمْضِي هِيَ إِلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِي الْأُولَى فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا، ثُمَّ تَأْتِي
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّا بِمَنْ صَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلِمُفَارَقَتِهَا قَبْلَ الِانْتِظَارِ الثَّالِثِ؛ وَهُوَ الْمُبْطِلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ (وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ زَادَ انْتِظَارًا ثَالِثًا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ، فَوَجَبَ بُطْلَانُهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ فَعَلَهُ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِحَاجَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَقِيلٍ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ صَلَاةُ شِدَّةِ الْخَوْفِ (وَالْأُخْرَيَيْنِ إِنْ عَلِمَتَا بُطْلَانَ صَلَاتِهِ) لِأَنَّهُمَا ائْتَمَّا بِمَنْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ، أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً مِنْ أَوَّلِهَا، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُمَا إِذَا جَهِلَتَا بُطْلَانَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، أَنَّهَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى، وَكَمَا لَوِ ائْتَمَّ بِمُحْدِثٍ لَا يَعْلَمُ حَدَثَهُ، وَيَجُوزُ خَفَاؤُهُ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا، قَالَهُ فِي " الشَّرْحِ "، وَ " الْوَجِيزِ "، وَفِيهِ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ وَالْمَأْمُومَ يَعْلَمَانِ وُجُودَ الْمُبْطِلِ، وَإِنَّمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الْبُطْلَانَ، كَمَا لَوْ عُلِمَ حَدَثُ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُبْطِلًا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِحَاجَةٍ صَحَّتْ صَلَاةُ الْجَمِيعِ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهُوَ أَقْيَسُ، فَعَلَى هَذَا تُفَارِقُهُ الْأُولَتَانِ بَعْدَ الْقِيَامِ، وَتُفَارِقُهُ الثَّالِثَةُ، وَتَقُومُ الرَّابِعَةُ عَقِبَ رَفْعِهِ مِنَ السُّجُودِ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، صَحَّتْ صَلَاةُ الْأُولَى فَقَطْ، وَبَطَلَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَبَاقِي الطَّوَائِفِ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْكُلِّ لِنِيَّتِهِ صَلَاةً مُحَرَّمَةً ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: تَصِحُّ صَلَاةُ الْإِمَامِ فَقَطْ، جَزَمَ بِهِ فِي الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِينَ إِنَّمَا فَسَدَتْ لِانْصِرَافِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الِانْصِرَافِ.
قَالَ فِي " الْفُرُوعِ ": وَيَتَوَجَّهُ احْتِمَالٌ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ لِانْصِرَافِهِمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ تَمْضِيَ إِلَى الْعَدُوِّ، وَتَأْتِيَ الْأُخْرَى فَيُصَلِّيَ بِهَا رَكْعَةً وَيُسَلِّمَ وَحْدَهُ، وَتَمْضِيَ هِيَ إِلَى الْعَدُوِّ، ثُمَّ تَأْتِيَ الْأُولَى فَتُتِمَّ صَلَاتَهَا، ثُمَّ تَأْتِيَ الْأُخْرَى فَتُتِمَّ صَلَاتَهَا) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: «صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: صَلَاةَ الْخَوْفِ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، وَالطَّائِفَةُ الْأُخْرَى مُوَاجَهَةُ الْعَدُوِّ، ثُمَّ انْصَرَفُوا، وَقَامُوا فِي مَقَامِ
الْأُخْرَى فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً وَيُسَلِّمَ بِهَا. الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ الْمَقْصُورَةَ تَامَّةً، وَتُصَلِّيَ مَعَهُ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا، فَتَكُونَ لَهُ تَامَّةً، وَلَهُمْ مَقْصُورَةً. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْمِلَ
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
أَصْحَابِهِمْ مُقْبِلِينَ عَلَى الْعَدُوِّ، وَجَاءَ أُولَئِكَ فَصَلَّى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ قَضَى هَؤُلَاءِ رَكْعَةً، وَهَؤُلَاءِ رَكْعَةً» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ الْقِرَاءَةُ فِي الرَّكْعَةِ الَّتِي تَقْضِيهَا، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا قِرَاءَةَ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا مُؤْتَمَّةٌ بِهِ حُكْمًا، فَلَا يَقْرَأُ فِيمَا يَقْضِيهِ، كَمَنْ زُحِمَ أَوْ نَامَ حَتَّى سَلَّمَ إِمَامُهُ، وَالْمَنْصُوصُ خِلَافُهُ، وَإِذَا قَضَتِ الثَّانِيَةُ رَكْعَتَهَا حِينَ تُفَارِقُ الْإِمَامَ ثُمَّ تَمْضِي، وَتَأْتِي الْأُولَى فَتُتِمُّ صَلَاتَهَا، جَازَ.
قَالَ ابْنُ تَمِيمٍ: وَهُوَ أَحْسَنُ؛ لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُصَلِّيَ بِكُلِّ طَائِفَةٍ صَلَاةً، وَيُسَلِّمَ بِهَا) رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا، وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ حَسَنَةٌ قَلِيلَةُ الْكُلْفَةِ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ، وَلَا إِلَى تَعْرِيفِ كَيْفِيَّةِ الصَّلَاةِ، وَبَنَاهُ الْقَاضِي عَلَى اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُنْتَفِلِ، وَنَصُّهُ التَّفْرِقَةُ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنْ يُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ الْمَقْصُورَةَ تَامَّةً، وَتُصَلِّيَ مَعَهُ كُلُّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا تَقْضِي شَيْئًا، فَتَكُونَ لَهُ تَامَّةً، وَلَهُمْ مَقْصُورَةً) لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِذَا كُنَّا بِذَاتِ الرِّقَاعِ قَالَ: فَنُودِيَ بِالصَّلَاةِ، فَصَلَّى بِطَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَأَخَّرُوا، وَصَلَّى بِالطَّائِفَةِ الْأُخْرَى رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَلِلْقَوْمِ رَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُثْقِلُهُ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ.
ــ
[المبدع في شرح المقنع]
وَتَأَوَّلَهُ الْقَاضِي عَلَى أَنَّهُ عليه السلام صَلَّى بِهِمْ كَصَلَاةِ الْحَضَرِ، وَأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ قَضَتْ رَكْعَتَيْنِ؛ وَهُوَ تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ لِمُخَالَفَةِ صِفَةِ الرِّوَايَةِ، وَقَوْلِ أَحْمَدَ، وَمَنَعَهُ فِي " الْمُحَرَّرِ " لِاحْتِمَالِ سَلَامِهِ، فَتَكُونُ الصِّفَةُ قَبْلَهَا.
تَتْمِيمٌ: وَهُوَ الْوَجْهُ السَّادِسُ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا؛ وَهُوَ لَوْ قَصَرَهَا، وَصَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً بِلَا قَضَاءٍ، كَصَلَاتِهِ عليه السلام فِي خَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةَ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، صَحَّ فِي ظَاهِرِ كَلَامِهِمْ، وَاخْتَارَهُ الْمُؤَلِّفُ، وَقَدَّمَهُ فِي " الرِّعَايَةِ "، وَ " الْفُرُوعِ "، وَ " مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ "، وَغَيْرِهِمْ، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ، وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ.
قَالَ فِي " الشَّرْحِ ": الَّذِينَ قَالُوا: رَكْعَةً، إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ شِدَّةِ الْقِتَالِ، وَالَّذِينَ رَوَيْنَا عَنْهُمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرُهُمْ لَمْ يَنْقُصُوا مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَالْأَخْذُ بِرِوَايَةِ مَنْ حَضَرَهَا وَصَلَّاهَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْلَى.
زِيَادَةٌ: إِذَا صَلَّى بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ نَجْدٍ، عَلَى مَا خَرَّجَهُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ وَهِيَ أَنْ تَقُومَ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَأُخْرَى تُجَاهَ الْعَدُوِّ، وَظَهْرُهَا إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ يُحْرِمُ وَيُحْرِمُ مَعَهُ الطَّائِفَتَانِ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَةً هُوَ وَالَّتِي مَعَهُ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى الثَّانِيَةِ وَيَذْهَبُ الَّذِينَ مَعَهُ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَتَرْكَعُ وَتَسْجُدُ، ثُمَّ يُصَلِّي بِالثَّانِيَةِ وَيَجْلِسُ، وَتَأْتِي الَّتِي تُجَاهَ الْعَدُوِّ فَتَرْكَعُ وَتَسْجُدُ وَيُسَلِّمُ بِالْجَمِيعِ، جَازَ.
(وَيُسْتَحِبُّ أَنْ يَحْمِلَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَدْفَعُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا يُثْقِلُهُ، كَالسَّيْفِ وَالسِّكِّينِ) ذَكَرَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وَقَوْلِهِ {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فَدَلَّ عَلَى الْجُنَاحِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَكَانَ شَرْطًا كَالسُّتْرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ مُنَجَّا: وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ حَمْلَهُ يُرَادُ لِحِرَاسَةٍ أَوْ قِتَالٍ، وَالْمُصَلِّي لَا يَتَّصِفُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَالْأَمْرُ بِهِ لِلرِّفْقِ بِهِمْ وَالصِّيَانَةِ لَهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْإِيجَابِ، كَمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ لَمَّا كَانَ لِلرِّفْقِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّحْرِيمِ، وَذَكَرَهُ الشَّرِيفُ، وَابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّ حَمْلَهُ