الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حد الزنى
الزنى حرام. وهو من الكبائر العظام بدليل قوله تعالى: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء: 32]. وقال تعالى: {والذين لا يَدْعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثامًا? يضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} [الفرقان: 68 - 69].
وروى عبدالله قال: «سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعلَ لله نداً وهو خلقك. قال: ثم أيّ (1)؟ قال: أن تقتلَ ولدكَ مخافةَ أن يَطعَمَ معك. قال: ثم أيّ (2)؟ قال: أن تزني بحليلةِ جارك» (3).
قال المصنف رحمه الله: (إذا زنى الحر المحصن فحدُّه الرجم حتى يموت. وهل يجلد قبل الرجم؟ على روايتين).
أما كون الحر المحصن إذا زنى حده الرجم حتى يموت؛ فلما روي عن عمر ابن الخطاب أنه قال: «إن الله بعثَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنزلَ عليه الكتابُ. فكان فيما أُنزل عليه آية الرجم، فقرأتُها وعقلتُها ووعيتُها. ورجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمانٌ أن يقول قائل: ما نجدُ الرجمَ في كتاب الله فيضلوا بترك فريضةٍ أنزلها الله تعالى (4). فالرجم حقٌ على من زنى إذا (5) أحصنَ من
(1) في د: ثم قلت أي.
(2)
مثل السابق.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه (4207) 4: 1626 كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى:{فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} .
وأخرجه مسلم في صحيحه (86) 1: 90 كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده.
(4)
زيادة من أ.
(5)
في د: إذ.
النساء والرجال إذا كانت قامت البينة، أو كان الحَبَل أو الاعتراف. وقد قرأتها: الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتة» (1).
وأما كونه يُجلد قبل الرجم على روايةٍ؛ فلأن الله تعالى قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور: 2] ثم جاءت السنة بالرجم. فوجب الجمع بينهما.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والثيبُ بالثيبِ الجلدُ والرجم» (2).
وأما كونه لا يجلد على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً ولم يجلده (3). وقال: «اغدُ يا أنيسُ إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها» (4)، ولم يأمره بجلدها.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية ولم يجلدها (5)، ورجم عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم يجلدا.
ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه.
فإن قيل: لم قُيد ما ذكر بالحر والمحصن، والأدلة المذكورة عامة في الحر والعبد، وبعضها عام في المحصن وغيره؟
قيل: لأن حد العبد على النصف من الحر لما يأتي، وغير المحصن لا رجم عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرّق بين الثيب والبكر حيث قال:«البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائةٍ والرجم» (6) ولو وجب رجم البكر لذكره في الثيب.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6442) 6: 2503 كتاب المحاربين، باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1691) 3: 1417 كتاب الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا.
(2)
سيأتي تخريجه قريباً.
(3)
سبق ذكر حديث ماعز ص: 225.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2575) 2: 971 كتاب الشروط، باب الشروط التي لا تحل في الحدود.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1697) 3: 1324 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى.
(5)
حديث الغامدية أخرجه مسلم في صحيحه (1695) 3: 1321 كتاب الحدود، باب رجم الثيب في الزنى.
(6)
أخرجه مسلم في صحيحه (1690) 3: 1316 كتاب الحدود، باب حد الزنى.
قال: (والمحصن من وطئ امرأته في قُبُلِها في نكاح صحيح وهما بالغان عاقلان حران، فإن اختل شرط من ذلك في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما، ولا يثبت الإحصان بالوطء بملك اليمين، ولا في نكاح فاسد).
أما كون المحصن من وطئ امرأته؛ فلأن من وطئ امرأته وطئ في نكاح، والنكاح (1) يسمى إحصاناً بدليل قوله تعالى:{والمحصناتُ من النساء} [النساء: 24] أي المنكوحات. بخلاف من وطئ أمته أو أجنبية فإن ذلك وطئ لا في نكاح فلا يطلق على فاعله أنه محصن.
وقيد (2) وطء المرأة بكونه في قُبُلها؛ لأن ذلك هو الوطء الذي يعتد (3) على فعله وتصير المرأة ثيباً لا بدونه، وقد (4) دل قوله عليه السلام:«الثيبُ بالثيبِ» على اعتبار الثيوبة.
وقيد بكونه في نكاح صحيح؛ لأن الفاسد وجوده كعدمه.
وأما كونه من وطء كما تقدم، وهو وامرأته بالغان عاقلان حران: أما كون البلوغ والعقل شرطاً؛ فلأن الإحصان يوجب الرجم، والصبي والمجنون (5) [لا حد عليهما؛ لقوله عليه السلام: «رُفعَ القلمُ عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق
…
» (6)] (7).
فإن قيل: ما ذكر يدل على اشتراطهما فيمن يرجم فكيف يشترطان [بالنسبة إليهما؟
قيل: لأنهما شرط بالنسبة إلى من يرجم إجماعاً. فوجب أن يكون شرطاً] (8) بالنسبة إليهما. قياساً لأحد الموضعين على الآخر.
(1) في أ: ونكاح.
(2)
في أ: وقد.
(3)
في د: يعد.
(4)
في أ: فقد.
(5)
في د: والمجنون حتى.
(6)
سبق تخريجه ص: 215.
(7)
ساقط من د.
(8)
ساقط من أ.
ولأن نقص أحد الزوجين يمنع كمال الوطء. فوجب أن لا يحصل معه الإحصان؛ كما لو كان الزوجان غير كاملين.
وأما كون الحرية شرطاً؛ فلما يأتي من أن العبد حده خمسون جلدة.
والكلام في حرية الموطوءة كالكلام (1) في بلوغها وعقلها.
وأما كونه لا إحصان لواحد منهما إذا اختل شرط [مما ذكر في أحدهما؛ فلأن ما كان معلقاً على شرط لا يوجد بدونه. فإذا اختل شرط](2) لم يكن موجوداً. فلم يوجد المشروط (3)؛ لانتفاء شرطه.
وأما كون الإحصان لا يثبت بالوطء بملك اليمين ولا في نكاح فاسد؛ فلما تقدم ذكره قبل.
قال: (ويثبت الإحصان للذميين. وهل تحصن الذمية مسلماً؟ على روايتين. ولو كان لرجل ولد من امرأته فقال: ما وطئتها لم يثبت إحصانه).
أما كون الإحصان يثبت للذميين؛ فـ «لأن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً وامرأة منهم زنيا
…
وذكر الحديث. فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فرُجما» (4) متفق عليه.
ولأن الجناية بالزنى استوت بين المسلم والذمي. فوجب أن يستويا في الحد.
وأما كون الذمية تحصن مسلماً على روايةٍ؛ فلأن الذمية تحصن الذمي لما تقدم. فوجب أن تحصن المسلم بالقياس عليه.
وأما كونها لا تحصنه على روايةٍ؛ فلأن الإحصان من شرطه الحرية. فكان من شرطه الإسلام؛ كإحصان القذف.
وأما كون الرجل إذا كان له ولد من امرأته فقال: ما وطئتها لا يثبت إحصانه؛ فلأن الولد يلحق بإمكان الوطء، والإحصان لا يثبت إلا بحقيقته. فلم يلزم من الولد ثبوت الإحصان.
(1) في أ: كالأم.
(2)
ساقط من أ.
(3)
في أ: الشروط.
(4)
سيأتي تخريجه ص: 255.
قال: (وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاماً إلى مسافة القصر. وعنه: أن المرأة تنفى إلى دون مسافة القصر).
أما كون من ذكر يجلد مائة ويغرب عاماً؛ فلأن الله تعالى قال: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور: 2].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البكرُ بالبكرِ جلدُ مائةٍ وتغريبُ عام» (1). رواه مسلم.
فإن قيل: الأدلة المذكورة عامة (2) في الحر والعبد والمحصن وغير المحصن.
قيل: يخرج من ذلك العبد؛ لما يأتي، والمحصن؛ لما تقدم. ويبقى فيما عداهما على مقتضاه.
ولأن الخلفاء الراشدين فعلوا ذلك بالحر غير (3) المحصن وانتشر، ولم يعرف لهم مخالف. فكان إجماعاً.
وأما كون تغريب الرجل إلى مسافة القصر؛ فلأن ما دون ذلك في حكم الحضر.
وأما كون تغريب المرأة كذلك على المذهب؛ فلما ذكر في الرجل.
وأما كونها تنفى إلى دون مسافة القصر على روايةٍ؛ فلتقرب من أهلها فيحفظوها.
قال: (ويُخرج مع المرأة محرمها فإن أراد أجرة بُذلت من مالها. فإن تعذر فمن بيت المال. فإن أبى الخروج معها استؤجرت امرأة ثقة. فإن تعذر نفيت بغير محرم. ويحتمل أن يسقط النفي).
أما كون المرأة يُخرج معها محرمها؛ فلأنه سفر واجب. فأخرج معها محرمها؛ كسفر الحج.
وأما كون أجرة محرمها تبذل من مالها إذا أرادها؛ فلأن ذلك من مؤونة سفرها. أشبه مركوبها ونفقتها.
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1690) 3: 1316 كتاب الحدود، باب حد الزنى.
(2)
في أ: عام.
(3)
في د: يتميز.
وأما كونها من بيت المال إذا تعذر من مالها؛ فلأن فيه مصلحة لها. فوجب كونها من بيت المال عند تعذره من مالها؛ كنفقة نفسها.
وأما كون امرأة ثقة تستأجر إذا أبى المَحرم الخروج معها؛ فلأنه لا بد من شخص يكون معها من أجل حفظها، والأجنبي يخاف عليها منه. فلم يكن بد من امرأة ثقة؛ ليحصل المقصود من الحفظ.
وأما كونها تنفى بغير محرم إذا تعذر استئجار المرأة الثقة على المذهب؛ فلأنه سفر لا سبيل إلى تأخيره. أشبه سفر الهجرة (1) من بلد الكفر، والحج إذا مات المَحرم في الطريق.
وأما كون النفي يحتمل أن يسقط؛ فلأن المحرم إذا لم يوجد في الحج لا تسافر. فكذلك هاهنا.
قال المصنف رحمه الله: هذا -يعني الإحتمال المتقدم ذكره- اللائق بالشريعة. فإن نفيها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتعريض لها للفتنة.
فإن قيل: فما تصنع بعموم حديث التغريب؟
قيل: يخص بعموم قوله عليه السلام: «لا يحلُ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليوم الآخر أن تُسافرَ مسيرةَ ليلةٍ إلا مع ذي محرم» (2).
قال: (وإن كان الزاني رقيقاً فحده خمسون جلدة بكل حال، ولا يغرب).
أما كون الزاني إذا كان رقيقاً حده خمسون جلدة؛ فلما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد أنهما قالا: «سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمةِ إذا زنت ولم تحصن؟ قال: إذا زنتْ فاجلدوها، ثم إن زنتْ فاجلدوها، ثم إن زنتْ فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضَفِير (3» ) (4).
(1) في د: الحرم.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (1038) 1: 369 أبواب تقصير الصلاة، باب في كم يقصر الصلاة.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1339) 2: 977 كتاب الحج، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
(3)
في د: بظفير.
(4)
سبق تخريجه ص: 217.
وأما كونه حدّه ذلك بكل حال مزوجاً كان أو غير مزوج؛ فلعموم الحديث المذكور.
وأما كونه لا يغرّب؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في الحديث المذكور بجلد الأمة الزانية ولم يذكر أنها تغرّب.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا زنتْ أمةُ أحدكم فليحُدَّها ولا يعيرها ثلاث مرار (1). فإذا عادت الرابعة فليجلدها، وليبعها بضفير (2) أو بحبلٍ من شَعر» (3). ولو كانت تغرب لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم في الأول؛ لأنه سُئل عن حكمها، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولما نفاه في الثاني.
ولأن المملوك مشغول في خدمة السيد، وفي تغريبه ضياع لحق السيد من غير جناية منه.
ولأن الشارع أسقط الجمعة عن العبد لأجل حق السيد. فلأن يسقط التغريب عنه بطريق الأولى.
قال: (وإن كان نصفه حراً فحده خمس وسبعون جلدة وتغريب نصف عام. ويحتمل أن لا يغرب).
أما كون من نصفه حر حده خمس وسبعون جلدة؛ فلأن أرش جراحه على النصف من الحر، والنصف من العبد. فكذلك حده. وحد الحر غير المحصن مائة فنصفها خمسون. وحد العبد خمسون فنصفها خمس وعشرون فإذا ضممت نصفي الحدين كان خمساً وسبعين.
وأما كونه يغرب نصف عام على منصوص الإمام أحمد رحمه الله عليه؛ فلأن الحر (4) تغريبه عام، والعبد لا تغريب عليه فنصف الواجب من التغريب نصف عام.
(1) في أ: مرات.
(2)
في د: بظفير.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (4470) 4: 160 كتاب الحدود، باب في الأمة تزني ولم تحصن.
(4)
ساقط من أ.
وأما كونه يحتمل أن لا يغرّب؛ فلأن حق سيد بعضه يقتضي بقاءه في بلده ليتمكن من الانتفاع بحصته. فغلب حقه على التغريب؛ لما في حق السيد من التأكيد.
قال: (وحد اللوطي كحد الزاني (1) سواء. وعنه: حده الرجم بكل حال).
أما كون حد اللوطي كحد الزاني على روايةٍ؛ فلأنه زان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان» (2).
ولأنه إيلاج في فرج. أشبه الإيلاج في فرج المرأة.
فعلى هذا إن كان محصناً رُجم، وإن كان غير محصن وهو حر جُلد مائة وغُرّب عاماً، وإن كان عبداً جُلد مائة من غير تغريب.
وأما كون حده الرجم بكل حال محصناً كان أو غير محصن على روايةٍ؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من وجدتموهُ يعملُ عملَ قومِ لوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعولَ به» (3). رواه أبو داود.
وفي لفظ: «فارجموا (4) الأعلى والأسفل» (5).
ولأن الله تعالى عذَّبَ قوم لوط بالرجم فيجب أن يُعذبَ من فعلَ مثل فعلهم بمثل عذابهم؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يدل دليل على تغيره (6).
قال: (ومن أتى بهيمة فعليه حد اللوطي عند القاضي. واختار الخرقي وأبو بكر أنه يعزر. وتقتل البهيمة. وكره أحمد أكل لحمها. وهل يحرم؟ على وجهين).
أما كون من أتى بهيمة عليه حد اللوطي عند القاضي؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أتى بهيمةً فاقتلوهُ واقتلُوها [معه» (7). رواه أبو داود.
(1) في أ: الزنا.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 233 كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (4462) 4: 158 كتاب الحدود، باب فيمن عمل عمل قوم لوط.
وأخرجه الترمذي في جامعه (1456) 4: 57 كتاب الحدود، باب ما جاء في حد اللوطي.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2561) 2: 856 كتاب الحدود، باب من عمِل عمَل قوم لوط.
(4)
في د: فارجموه.
(5)
ذكره ابن حجر في تلخيص الحبير وعزاه إلى ابن ماجة، ولم أقف عليه عند ابن ماجة 4:103.
(6)
في أ: تغييره.
(7)
أخرجه أبو داود في سننه (4464) 4: 159 كتاب الحدود، باب فيمن أتى بهيمة.
وأما كونه يعزر على اختيار الخرقي وأبي (1) بكر؛ فلأنه وطء محرم لا حد فيه] (2). وذكر المصنف رحمه الله في المغني هذين الوجهين روايتين.
وأما كون البهيمة تقتل؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واقتلُوها معه» (3).
وأما كون الإمام أحمد كره أكل لحمها إن كانت مأكولة؛ فلاختلاف الناس في حِلّ الأكل.
وأما كونه يحرم على وجه؛ فلأنه لحم حيوان وجب قتله لحق الله تعالى. فحرم أكله؛ كالفواسق الخمس.
وأما كونه لا يحرم على وجه؛ فلقوله تعالى: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} [المائدة: 1]. مع سائر العمومات.
ولأنه لحم حيوان يجوز أكله إذا ذبحه من هو من أهل الذكاة. فحل أكله؛ كغيره.
(1) في أ: وأبو.
(2)
ساقط من د.
(3)
سبق قريباً.
فصل [في شروط حد الزنى]
قال المصنف رحمه الله: (ولا يجب الحد (1) إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يطأ في الفرج سواء كان قبلاً أو دبراً، أو أقل ذلك تغييب الحشفة في الفرج. فإن وطئ دون الفرج أو أتت المرأةُ المرأةَ فلا حد عليهما).
أما كون الحد لا يجب إلا بشروط ثلاثة؛ فلما يأتي ذكره فيها.
وأما كون أحدها أن يطأ في الفرج؛ فلما روي «أن رجلاً جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني نِلْتُ من امرأةٍ حراماً ما ينالُ الرجل من امرأتهِ إلا الجماع. فقال: استغفرِ الله وتوضأ» (2). أمره بالاستغفار ولم يوجب عليه حداً.
وأما كون الوطء في الفرج يوجب ذلك سواء كان قبلاً أو دبراً؛ فلأن الدبر إن كان من غلام فالوطء فيه موجب للحد لما مر من قوله: وحد اللوطي كحد الزاني، وإن كان من امرأة فهو أيضاً زنى وفيه حده؛ لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له فيها ولا شبهة. فكان زنى؛ كالوطء في القُبُل.
ولأنه وطء في دبر. أشبه دبر الرجل.
ولا بد أن يلحظ أن الموطوءة في دبرها ليست زوجته ولا أمته. فإن كانت إحداهما فلا حد عليه مع كونه حراماً. وسيأتي تعليل ذلك في قوله: أو وطئ امرأته (3) في دبرها.
(1) في أ: الجلد.
(2)
أخرجه الترمذي في جامعه (3113) 5: 291 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود.
(3)
في أ: امرأة.
فصل [الشرط الثاني]
قال المصنف رحمه الله: (الثاني: انتفاء الشبهة. فإن وطئ جارية ولده أو جارية له فيها شِرْك أو لولده، أو وجد امرأة على فراشه ظنها امرأته أو جاريته، أو دعى الضرير امرأته أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها، أو وطئ في نكاح مختلف في صحته، أو وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها، أو لم يعلم بالتحريم لحداثة عهده بالإسلام، أو نشوئه ببادية بعيدة، أو أكره على الزنى: فلا حد فيه. وقال أصحابنا: إن أكره الرجل فزنى حُدَّ).
أما كون الثاني من شروط وجوب الحد انتفاء الشبهة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرءوا الحدودَ بالشبهات» (1).
وأما كون من وطئ جارية ولده لا حد فيه؛ فلوجود الشبهة له فيها. بيان الشبهة قوله صلى الله عليه وسلم: «أنتَ ومالُكَ لأبيك» (2)، وجارية الابن من ماله.
وأما كون من وطئ جارية له فيها شِرْك لا حد فيه؛ فلأن الوطء في ذلك وطء في فرج له فيه ملك. أشبه وطء المكاتبة والمرهونة.
ولأن ملك بعضها شبهة. فوجب أن يدرأ به الحد؛ لما تقدم من الحديث (3)
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (1424) 4: 33 كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد. ولفظه: عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم
…
».
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2545) 2: 850 كتاب الحدود، باب الستر على المؤمن ودفع الحدود بالشبهات. ولفظه:«ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً» .
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 238 كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحدود بالشبهات. واللفظ له.
(2)
أخرجه ابن ماجة في سننه (2291) 2: 769 كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده.
(3)
في د زيادة: كملك الكل.
وأما كون من وطئ (1) جارية لولده فيها شِرْك لا حد فيه؛ فلأن الشِّرْك في إسقاط (2) الحد كملك الكل، ولو وطئ جارية ولده لم يحد.
وأما كون من وطئ امرأة وجدها على فراشه ظنها امرأته أو جاريته لا حد فيه؛ فلأن الواطئ هنا اعتقد إباحة الوطء بما يعذر مثله فيه. أشبه ما لو زُفَّتْ إليه غير زوجته، وقيل له: هذه زوجتك.
ولأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهذه شبهة.
وأما كون الضرير إذا دعى امرأته أو جاريته فأجابه غيرها فوطئها لا حد فيه؛ فلأنه في معنى من وجد امرأة على فراشه فظنها زوجته، والتساوي معنى يوجب التساوي حكماً.
وأما كون من وطئ في نكاح مختلف فيه؛ كنكاح المتعة والشِّغار والتحليل، والنكاح بلا ولي ولا شهود، ونكاح الأخت في عدة أختها، ونكاح المجوسية والوثنية: لا حد فيه؛ فلأن الاختلاف شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
وأما كون من وطئ امرأته في دبرها أو حيضها أو نفاسها لا حد فيه؛ فلأن له في ذلك شبهة من حيث إنه يملك وطئها في الجملة.
وأما كون من زنى ولم يعلم بالتحريم؛ لحداثة عهده بالإسلام، أو نشوئه ببادية بعيدة: لا حد فيه؛ فلأنه وطئ ظانًّا حلّ الوطء بما يعذر في مثله. فلم يكن فيه حد؛ كما لو وجد امرأة على فراشه وظنها زوجته فوطئها.
وأما كون المرأة إذا أكرهت على الزنى لا حد فيه؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عُفيَ لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهُوا عليه» (3).
ولأن الإكراه يمنع من نسبة الفعل إلى الفاعل.
وأما كون الرجل إذا أُكره على ذلك لا حد فيه على اختيار المصنف؛ فلما تقدم في المرأة.
(1) في د: ولو وطئ.
(2)
في أ: إسقاطه.
(3)
أخرجه ابن ماجة في سننه (2043) 1: 659 كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي.
وأما كونه يحد على قول أصحابنا؛ فلأن الإكراه في حقه غير متصور؛ لأن الوطء لا يتم إلا بانتشار إليه، وذلك لا يحصل إلا من شهوته وإرادته، وحصول الشهوة والإرادة تنفي حصول الإكراه.
قال: (وإن وطئ ميتة أو ملك أمه أو أخته من الرضاع فوطئها فهل يحد أو يعزر؟ على وجهين).
أما كون من وطئ ميتة يحد على وجه؛ فلأنه وطء حرام يوجب الغسل. فيوجب الحد؛ كالحية (1).
وأما كونه يُعَزّر على وجه؛ فلأنه لا يجب به الحد؛ لأنه وطء لا يجب به المهر، ولا يشتهى مثله عادة. فلا يجب به الحد؛ كوطء البهيمة، وإذا لم يجب الحد يعزر؛ لأنه وطء حرام لا حد فيه ولا كفارة. أشبه وطء البهيمة.
وأما كون من ملك أمّهُ أو أخته من الرضاع فوطئها يُحدّ على وجه؛ فلأنه وطء في فرج لا يستباح بحال. فأوجب الحد؛ كوطء الغلام.
وأما كونه يعزر على وجه فلأنه لا يحد؛ لأنه وطء في بضع مملوك له. بدليل أنه يملك المعاوضة عليه بعقد النكاح. فلم يوجب الحد؛ كوطء الجارية المشتركة.
ولأنه وطء اجتمع فيه موجب ومسقط، والحدود مبنية على الدرء والإسقاط. فإذا لم يحد يعزر؛ لأنه وطء حرام لا حد فيه ولا كفارة.
(1) في أ: الغسل فأوجب كالحية.
قال: (وإن وطئ في نكاح مجمع على بطلانه؛ كنكاح المزوجة والمعتدة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع، أو استأجر امرأة للزنى أو لغيره وزنى (1) بها، أو زنى بامرأة له عليها القصاص، أو بصغيرة أو مجنونة أو بامرأة ثم تزوجها، أو بأمة ثم اشتراها، أو أمكنت العاقلة من نفسها مجنوناً أو صغيراً فوطئها: فعليهم الحد).
أما كون من وطئ في نكاح مجمع على بطلانه عليه الحد؛ فلأنه وطء لم يصادف ملكاً ولا شبهة ملك فأوجب الحد عملاً بالنصوص المقتضية له السالمة عن معارضة الملك والشبهة.
وفي الأثر «أن عمرَ رضي الله عنه رُفع إليه امرأة تزوجت في عدتِها. فقال: هل علمتُما؟ فقالا: لا. فقال: لو علمتُما لرجمتُكُما» (2)، ونكاح غير المعتدة من الأنكحة المجمع على بطلانها في معنى نكاح المعتدة؛ لاشتراك الكل في الإجماع على بطلانه.
ولأنه إذا وجب الحد بوطء المعتدة في نكاح. فلأن يجب الحد بوطء المزوجة في النكاح بطريق الأولى.
وأما قول المصنف رحمه الله: كنكاح المعتدة والمزوجة والخامسة وذوات المحارم من النسب والرضاع؛ فبيان لصور من صور النكاح المجمع على بطلانها وتعداد لها.
وأما كون من استأجر امرأة للزنى أو لغيره عليه الحد إذا زنى بها؛ فلعموم قوله تعالى: {الزانيةُ والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة} [النور: 2]. وعموم سائر الأخبار.
ولأن المعنى الذي وجب عليه الحد موجود هاهنا. فوجب أن يجب عملاً بالمقتضي لذلك.
(1) في أ: فزنى.
(2)
لم أقف عليه هكذا. وقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن قتادة قال: «قلت لسعيد بن المسيب: إن تزوجها في عدتها عمداً؟ قال: يقام عليها الحد» (28545) 5: 512 كتاب الحدود، في المرأة تزوج في عدتها أعليها حد؟
وأما كون من زنى بامرأةٍ له عليها القصاص عليه الحد؛ فلأن استحقاق قتلها لا يوجب إباحة وطئها ولا يؤثر فيه شبهة. فوجب أن يجب الحد عملاً بالنصوص الدالة على وجوبه على الزاني.
وأما كون من زنى بصغيرة أو مجنونة عليه الحد؛ فلأن الواطئ من أهل وجوب الحد وقد فعل ما يوجبه. فوجب أن يترتب عليه موجبه عملاً لمقتضي (1) ذلك.
وأما كون من زنى بامرأة ثم تزوجها أو أمة ثم اشتراها عليه الحد؛ فلأن الملك وُجد بعد وجوب الحد. فلم يسقط؛ كما لو سرق نصاباً ثم ملكه لم يسقط عنه القطع. فكذا هاهنا.
وأما كون العاقلة إذا أمكنت منها مجنوناً أو صغيراً فوطئها عليها الحد؛ فلأن سقوط الحد عن أحد الواطئين لمعنى يخصه. فلا يوجب سقوطه عن الآخر؛ كما لو زنى المستأمن بمسلمة.
(1) في أ: بالمقتضى.
فصل [الشرط الثالث]
قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يثبت الزنى. ولا يثبت إلا بشيئين: أحدهما: أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس وهو بالغ عاقل، ويصرح بذكر حقيقة الوطء، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم الحد).
أما كون الثالث من شروط وجوب الحد أن يثبت الزنى؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واغدُ يا أنيسُ إلى امرأةِ هذا فإن اعترفتْ فارجمها» (1).
وقال عمر رضي الله عنه: «إن الرجمَ حقٌ واجبٌ على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينةُ، أو كان الحبلُ، أو الاعتراف» (2).
ولأنه حق. فلا يترتب عليه موجبه بغير ثبوت؛ كسائر الحقوق.
وأما كون الزنى لا يثبت إلا بشيئين هما إقرار وشهادة؛ فلأنه يترتب عليه حكم شرعي. فلا يثبت إلا بذلك؛ كسائر الأشياء.
وأما كون أحد الشيئين اللذين يثبت بهما الزنى أن يقر بالزنا؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الرجم على الإقرار حيث قال: «فإن اعترفتْ فارجمها» (3)، وفي حديث عمر:«أو كان الاعتراف» (4).
وأما كون الإقرار أربع مرات؛ فلما روى أبو هريرة قال: «أتى رجلٌ من الأسلميين (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقال: يا رسول الله! إني زنيتُ. فأعرضَ عنه فتنحّى تلقاء وجهه. فقال: يا رسول الله! إني زنيتُ. فأعرضَ عنه فتنحّى (6)
(1) سبق تخريجه ص: 236.
(2)
سبق تخريجه ص: 236.
(3)
سبق قريباً.
(4)
سبق قريباً.
(5)
في د: من المسلمين إلى.
(6)
ساقط من د.
تلقاء وجهه. فقال: يا رسول الله! إني زنيتُ. فأعرضَ عنه حتى ثنَّى ذلك عليه (1) أربع مرات. فلما شهدَ على نفسه أربعَ شهادات دعاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبكَ جنون؟ قال: لا. قال: فهل أحصنتَ؟ قال: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارجموه» (2) متفق عليه.
ولو وجب الحد بأقل من أربع شهادات لرتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجم عليه؛ لأنه لا يجوز ترك حد لله تعالى. وفي حديث نُعيم بن هزَّال: «أنه قالها أربع مرات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكَ قُلتَها أربعَ مرات» (3). رواه أبو داود.
وهذا يدل على أن الإقرار الأربعة هي الموجبة.
وفي حديث أبي بردة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه وسلم: [«إن أقررتَ أربعاً رجمكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم» (4)](5). وفيه وجهان من الدلالة:
أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ما ذكره ولم ينكره. فكان بمنزلة قوله؛ لأنه لا يُقر على الخطأ.
وثانيهما: أنه إنما قال ذلك؛ لأنه علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو لم يعلم لما تجاسر على مثل قوله بين يديه.
فإن قيل: فقد تقدم قوله عليه السلام: «فإن اعترفتْ فارجمها» (6)، وفي حديث عمر:«أو الاعتراف» (7). والاعتراف (8) يحصل بالمرة.
(1) زيادة من د.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (6439) 6: 2502 كتاب المحاربين، باب سؤال الإمام المقر: هل أحصنت.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1691) 3: 1318 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (4419) 4: 145 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه (1695) 3: 1323 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى عن بريدة.
وأخرجه أبو داود في سننه (4426) 4: 147 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك عن ابن عباس. وفي (4422) 4:146. عن جابر بن سمرة.
(5)
ساقط من د.
(6)
سبق تخريجه ص: 236.
(7)
سبق تخريجه ص: 236.
(8)
في أ: فإن قيل الاعتراف.
قيل: الاعتراف مصدر يقع على المرة والمرات. فيجب حمله على المرات المقدم ذكرها؛ لما فيه من الجمع بين الحديثين.
وأما كون الإقرار أربع مرات يُثبت الزنى في مجلس كان أو مجالس؛ فلعموم ما تقدم.
وأما كون المُقر يُقر وهو بالغ عاقل؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: «رُفعَ القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلُغ، وعن المجنون حتى يُفيق
…
» (1)، وفي قصة ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر:«أبكَ جنون؟ قال: لا» (2)، وفي حديث ابن عباس قال:«أتي عمر رضي الله عنه بمجنونة قد زنتْ فاستشارَ فيها أناساً. فأمر بها عمر رضي الله عنه أن ترجم. فمرّ بها على ابن أبي طالب قال: ما شأنُ هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان أمرَ بها عمر أن تُرجم. فقال: أرجعوها. ثم أتاهُ فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمتَ أن القلمَ قد رُفع عن ثلاثة؟ عن المجنون حتى يُفيق قال: بلى. قال: فما بالُ هذه؟ [قال: لا شيء] (3) قال: فأرسِلْها. قال: فجعل يكبِّر» (4). رواه أبو داود.
وأما كونه يصرّح في إقراره بذكر حقيقة الوطء؛ فلأن الزنى يعبر به عما ليس بموجب للحد. فلم يكن بد من ذكر حقيقة الزنى؛ لتزول الشبهة النافية لوجوب الحد.
وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز: «لعلك قبّلتَ أو غمزتَ أو نظرتَ. قال: لا. قال: أفنِكتَها؟ لا يكْني. قال: نعم. قال: فعندَ ذلك أمر برجمه» (5)، وفي روايةٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أفنِكتَها؟ قال: نعم. قال: حتى غابَ ذلك منكَ في ذلك منها. قال: نعم. قال: كما يغيبُ المِرْودُ في المكحلة والرشاء في البئر. قال: نعم. قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم.
(1) سبق تخريجه ص: 215.
(2)
سبق تخريجه ص: 252.
(3)
ساقط من أ.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (4399) 4: 140 كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه (6438) 6: 2502 كتاب المحاربين، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت.
أتيتُ منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً
…
وذكر الحديث» (1). رواه أبو داود.
وأما كونه لا ينزع عن إقراره حتى يتم الحد؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما هرب ماعز: هلاّ تركتمُوه» (2).
قال: (الثاني: أن يشهد عليه أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنى ويجيئون في مجلس واحد سواء جاؤوا متفرقين أو مجتمعين).
أما كون الثاني من الشيئين اللذين يثبت بهما الزنى أن يُشهد عليه؛ فلأن الشهادة مثبتة لغير الزنى. فوجب أن تكون مثبتة له أيضاً، وفي حديث عمر:«إنّ الرجمَ حقٌ واجبٌ ما قامت البينة» (3).
وأما كون من يشهد عليه أربعة؛ فلأن الله تعالى قال: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} [النور: 13]، وقال:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} [النور: 4]، وقال:{فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} [النساء: 15].
وأما كونهم رجالاً؛ فلأن في شهادة النساء شبهة لما في قبول شهادتهن من الاختلاف، والحدود تدرأ بالشبهات.
وأما كونهم أحراراً؛ فلأن في شهادة العبيد خلافاً بين العلماء، وذلك شبهة. فلا تقبل فيما يدرأ بالشبهات.
وأما كونهم عدولاً؛ فلأن ذلك شرط في سائر الشهادات. فلأن يشترط ذلك فيما فيه يحتاط بطريق الأولى.
وأما كونهم يصفون الزنى فيقولون: رأينا ذكره في فرجها كالمِرْوَد في المكحلة والرشاء في البئر؛ فلأن ذلك شرط في الإقرار. فلأن يشترط في الشهادة بطريق الأولى.
وفي حديث جابر قال: «جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ائتوني بأعلم رجلين منكم. فأتوا بابني صُوريا. فَنَشَدَهما كيف تجدان أمرَ
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4428) 4: 148 كتاب الحدود، باب رجم ماعز بن مالك.
(2)
سبق تخريجه ص: 228.
(3)
سبق تخريجه ص: 236.
هذين في التوراة؟ قالا: نجدُ أنه إذا شهد أربعة أنهم رأوْا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة رُجما. قال: فما منعكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهبَ سلطاننا فكرهنا (1) القتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة. فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما» (2).
ولأنهم إذا لم يصفوا الزنى احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد. فاعتبر ذكر كيفيته؛ ليتميز الموجب من غيره.
وأما كون الشهود يجيؤون في مجلس واحد؛ فـ «لأن عمر شهد عنده أبو بكرة (3) ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة» (4). ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم؛ لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر.
ولأنه لو شهد ثلاثة فحدوا ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته فلولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم.
وأما كون مجيئهم مجتمعين أو متفرقين سواء؛ فلأن شهود المغيرة جاؤوا واحدًا واحداً وسمعت شهادتهم. وإنما حُدوا؛ لعدم كمالها، وفي الحديث أن أبا بكرة قال لعمر:«أرأيتَ لو جاء آخر فشهد أكنتَ ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده» .
ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد. أشبه ما لو جاؤوا مجتمعين.
ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه، ولهذا أجزأ فيه القبض فيما يشترط فيه القبض.
(1) في أ: وكرهنا.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (6901) 6: 2672 كتاب الاعتصام، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1699) 3: 1326 كتاب الحدود، باب رجم اليهود، أهل الذمة في الزنى.
وأخرجه أبو داود في سننه (4452) 4: 156 كتاب الحدود، باب في رجم اليهوديين.
(3)
في أ: أبو بكر.
(4)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 234 كتاب الحدود، باب شهود الزنا إذا لم يكملوا أربعة.
قال: (فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم، أو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة، أو لم يكملها: فهم قذفة وعليهم الحد).
أما كون الذي جاء بعد قيام الحاكم؛ فلأن شهادته غير مقبولة ولا صحيحة. أشبه ما لو لم يشهد أصلاً.
وأما كونه عليه الحد؛ فلأنه قاذف، ويجب عليه الحد؛ لعموم الأدلة المقتضية لوجوب ذلك.
وأما كون الشهود الثلاثة قذفة إذا امتنع الرابع من الشهادة أو لم يكملها؛ فلأن الله تعالى أوجب عليهم الحد بقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور: 4].
ولأن ذلك إجماع الصحابة فإن عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع بمحضر من الصحابة ولم ينكروه.
قال: (وإن كانوا فُسَّاقاً أو عُمياناً أو بعضهم فعليهم الحد. وعنه: لا حد عليهم).
أما كون من ذكر عليهم الحد على المذهب؛ فلأن شهادتهم لم تكمل. فوجب بها الحد على الشهود؛ كما لو شهد ثلاثة فقط.
وأما كونهم لا حد عليهم على روايةٍ؛ فلأنهم أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم. وإنما جاء رد الشهادة لمعنى غير تفريطهم. أشبه ما لو شهد عدول بزنى امرأة وشهد نساء ثقات أنها عذراء.
قال: (وإن كان أحدهم زوجاً حد الثلاثة ولاعن الزوج إن شاء).
أما كون الثلاثة فيما ذكر تحد؛ فلأنهم قذفة حيث لم تكمل البينة؛ لأن شهادة الزوج غير مسموعة.
وأما كون الزوج يلاعن إن شاء؛ فلأن الزوج إذا قذف زوجته له الخيرة بين اللعان وبين تركه؛ لما ذكر في باب اللعان.
قال: (وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت أو بلد، واثنان أنه زنى بها في بيت أو بلد آخر: فهم قذفة وعليهم (1) الحد. وعنه: يحد المشهود عليه وهو بعيد).
أما كون الشهود قذفة عليهم الحد على المذهب؛ فلأنه لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد. أشبه ما لو انفرد بالشهادة اثنان.
وأما كون المشهود عليه يحد على روايةٍ؛ فلأن الشهادة كملت في الجملة.
وأما كون ذلك بعيداً؛ فلأن كمال الشهادة يعتبر كونه على فعل واحد والفعل هاهنا متعدد. ضرورة تعداده بتعداد البيت والبلد.
قال: (وإن شهدا أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد الآخران أنه زنى بها في زاويته الأخرى، أو شهدا (2) أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد الآخران أنه زنى بها في قميص أحمر: كملت شهادتهم. ويحتمل أن (3) لا تكمل كالتي قبلها).
أما كون شهادة (4) من ذكر تكمل على المذهب؛ فلأنه أمكن صدق الشهود بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتين وأخذ الثوبين وتمامه في الآخر.
فإن قيل: فقد يمكن أن تكون الشهادة على فعلين. فلم وجب الحد والحدود تدرأ بالشبهات؟
قيل: يبطل هذا بما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكون الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في ذلك الموضع مرتين ومع هذا فلا يمنع وجوب الحد.
وأما كون شهادتهم يحتمل أن لا تكمل كالتي قبلها؛ فلأن الشهادة هنا مختلفة. أشبهت الشهادة في المسألة المذكورة قبل.
(1) في أ: عليهم.
(2)
في أ: شهد.
(3)
في أ: أنها.
(4)
في أ: شهادات.
قال: (وإن شهدا (1) أنه زنى بها مطاوعة وشهد آخران أنه زنى بها مكرهة: لم تكمل شهادتهم. وهل يحد الجميع أو شاهدا المطاوعة؟ على وجهين. وعند أبي الخطاب: يحد الزاني المشهود عليه دون المرأة والشهود).
أما كون شهادة من ذكر لا تكمل على المذهب؛ فلأن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة.
فعلى هذا لا يحد الرجل ولا المرأة المشهود عليهما؛ لأن الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد عليهما.
وأما كون جميع الشهود يحدون على وجه؛ فلأنهم قذفوا الرجل.
وأما كون شاهدي (2) المطاوعة يحدان على وجه؛ فلأنهما قذفا المرأة وشهدا عليها (3) بالزنا ولم تكمل شهادتهم.
وأما كون الزاني يحد على قول أبي الخطاب؛ فلأنه شهد عليه أربعة، وذلك يوجب الحد.
وأما كون المرأة لا تحد؛ فلأنه لم يشهد عليها أربعة بزنى يوجب الحد؛ لأنه لا حد مع الإكراه.
قال: (فإن شهد أربعة فرجع أحدهم فلا شيء على الراجع، ويحد الثلاثة. وإن كان رجوعه بعد الحد فلا حد على الثلاثة، ويغرم الراجع ربع ما أتلفوه).
أما كون الراجع قبل الحد فيما ذكر لا شيء عليه؛ لأنه كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله.
وحكى المصنف رحمه الله رواية في المغني أنه يحد وصححها، ولم يذكر لذلك دليلاً.
وأما كون الثلاثة تحد؛ فلأن رجوع الراجع ينقص عدد الشهود. فوجب أن يحدوا؛ كما لو كانوا كذلك في الابتداء.
وأما كون الثلاثة لا حد عليهم إذا كان رجوع الشاهد بعد الحد؛ فلأن الشهادة كملت واتصل بها الحكم. فلم يجب عليهم شيء؛ لعدم كونهم قذفة.
(1) في أ: شهد.
(2)
في أ: شاهدين.
(3)
في د: عليهما.
وأما كون الراجع يغرم ربع ما أتلفوه؛ فلأنه برجوعه أقر على نفسه أن التلف المتقدم حصل بفعله وفعل بقية الشهود. تعذر قبول ذلك بالنسبة إلى بقية الشهود وبقي قوله مقبولاً بالنسبة إليه وهم أربعة. فوجب عليه ربع ذلك.
قال: (وإن شهد أربعة بالزنى بامرأة فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا على الشهود. نص عليه).
أما كون المرأة المذكورة لا حد عليها؛ فلأن عذرتها دليل براءتها.
وأما كون الشهود لا حد عليهم؛ فلأن صدقهم محتمل لجواز أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها.
قال: (وإن شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة فشهد أربعة آخرون على الشهود أنهم هم الزناة بها لم يحد المشهود عليه. وهل يحد الشهود الأولون حد الزنى؟ على روايتين).
أما كون المشهود عليه لا يحد؛ فلأن شهادة الآخرين تضمنت جرح الأولين وشهادة الآخرين تتطرق إليها (1) التهمة.
وأما كون الشهود الأولين يحدون على روايةٍ؛ فلأنهم شهد عليهم أربعة بالزنى.
وأما كونهم لا يحدون حد الزنى على روايةٍ؛ فلأن الشهادة المذكورة متهم فيها من الجهة المتقدم ذكرها.
قال: (وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بذلك بمجرده).
أما كون المرأة المذكورة لا تحد بمجرد ما ذكر؛ فلأنه يحتمل أن يكون الحمل من وطء شبهة أو إكراه، والحد يدرأ بالشبهة.
فإن قيل: قد روي عن عمر: «إن الرجمَ حقٌ واجبٌ على من زنى وقد أحصن إذا كانت البينةُ، أو الحبلُ، أو الاعتراف» (2)، وذلك يدل على وجوب الحد.
(1) ساقط من د.
(2)
سبق تخريجه ص: 236.
قيل: ظاهره ذلك. لكنه معارض بما روي عنه «أنه أُتي بامرأةٍ حامل فادَّعت أنها أُكرهت قال: خلِّ سبيلها، وأنه كتب إلى أمرائه» (1).
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 236 كتاب الحدود، باب من زنى بامرأة مستكرهة.