الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب موانع الشهادة
قال المصنف رحمه الله: (ويمنع قبول الشهادة خمسة أشياء:
أحدها: قرابةُ الولادة. فلا تُقبل شهادة والدٍ لولده وإن سفل، ولا ولدٍ لوالده وإن علا في أصح الروايات. وعنه: تُقبل فيما لا يجر به نفعاً غالباً؛ نحو: أن يشهد أحدهما لصاحبه بعقد نكاح أو قذف. وعنه: تُقبل شهادة الولد لوالده، ولا تُقبل شهادة الوالد للولد).
أما كون قبول الشهادة يمنعه خمسة أشياء؛ فلما يأتي فيها.
وأما كون أحدها: قرابة الولادة؛ فلما يأتي في كون شهادة والدٍ لولده، وشهادة ولدٍ لوالده لا تُقبل.
وأما كون شهادة والدٍ أباً كان أو أماً أو جداً أو جدة لولده وإن نزل، وشهادة ولدٍ لوالده وإن علا لا تُقبل في أصح الروايات؛ فلأن الزهري روى عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنة، ولا ذي غِمْرٍ على أخيه، ولا ظِنّين في قرابة ولا ولاء» (1). وكل واحدٍ من الولد والوالد متهم بالنسبة إلى الآخر؛ لأن بينهما تعصيباً وكأنه يشهد لنفسه، ولهذا قال عليه السلام:«فاطمةُ بَضعَةٌ مني» (2).
وأما كون شهادة كل واحدٍ منهما تُقبل لآخر فيما لا يجر لنفسه نفعاً مثل ما مثله المصنف رحمه الله على روايةٍ؛ فلأن كل واحدٍ منهما لا ينتفع بما يحصل للآخر فتنتفي التهمة عنه في شهادته. فوجب أن ينتفى عدم القبول؛ لعدم مقتضيه.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (2298) 4: 546 كتاب الشهادات، باب ما جاء فيمن لا تجوز شهادته.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (4932) 5: 2004 كتاب النكاح، باب ذب الرجل عن ابنته في الغيرة والإنصاف.
وأخرجه مسلم في صحيحه (2449) 4: 1903 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل فاطمة بنت النبي عليها الصلاة والسلام.
وأما كون شهادة الولد لوالده تُقبل وشهادة الوالد لولده لا تُقبل على روايةٍ؛ فلأن شهادة الوالد لولده فيها تهمة من حيث إن مال الابن في حكم ماله؛ لأن له أن يتملكه فشهادته له شهادته لنفسه. بخلاف شهادة الولد لوالده؛ فلأن التهمة المذكورة منتفية فيها.
قال: (وتُقبل شهادة بعضهم على بعض في أصح الروايتين).
[أما كون شهادة بعضهم على بعض تقبل في رواية](1)؛ فلأن الله تعالى قال: {كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} [النساء: 135]. ولو لم تكن شهادة الولد مقبولة على الوالد لما أمر الله تعالى بها.
ولأن شهادة كل واحدٍ منهما على الآخر لا تهمة فيها.
ولأن التهمة في الشهادة له لا في الشهادة عليه.
وأما كونها لا تُقبل في روايةٍ؛ فلأن كل واحدٍ منهما لا تُقبل شهادته للآخر. فوجب أن لا تُقبل عليه قياساً لإحدى الشهادتين على الأخرى.
والأول أصح؛ لما تقدم.
والفرق بين الشهادة له والشهادة عليه: التهمة في الشهادة له وانتفائها في الشهادة عليه.
قال: (ولا تُقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه في إحدى الروايتين).
أما كون شهادة كل واحدٍ من الزوجين للآخر لا تُقبل في روايةٍ؛ فلأن كل واحدٍ منهما يرث صاحبه من غير حجب، ويتبسط في ماله عادة، وذلك يوجب التهمة في شهادته، والتهمة تمنع من القبول.
وأما كونها تُقبل في روايةٍ؛ فلأن النكاح عقد على منفعة. فلا يتضمن رد الشهادة؛ كالإجارة.
والأول أصح؛ لما تقدم.
ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته، ويسار المرأة يزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها. فكأن كل واحدٍ منهما يجر لنفسه نفعاً، ولذلك قال الله تعالى: {وقرن
(1) زيادة يقتضيها السياق.
في بيوتكن} [الأحزاب: 33]، وقال:{لا تدخلوا بيوت النبي} [الأحزاب: 53] فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه وسلم أخرى.
و«قال ابن مسعود للذي قال له: غُلامي سرقَ مرآة لزوجتي. قال له: مالُكم سرقَ مالكم» (1).
وأما القياس على الإجارة فلا يصح؛ لما بينهما من الفرق وهو وجود التهمة بين المتناكحين، وانتفاؤها بين المؤجر والمؤجرة.
قال: (ولا تُقبل شهادة السيد لعبده ولا العبد لسيده. وتُقبل شهادة الأخ لأخيه وسائر الأقارب، والصديق لصديقه، والمولى لعتيقه).
أما كون شهادة السيد لعبده لا تُقبل؛ فلأن مال العبد لسيده فشهادة السيد له شهادة لنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من باعَ عبداً وله مالٌ فمالهُ للبائع إلا أن يشترطهُ المبتاع» (2).
وأما كون شهادة العبد لسيده لا تُقبل؛ فلأن العبد متهم؛ لأنه يتبسط في مال سيده، ولا يقطع بسرقته. فلا تُقبل شهادته له؛ كالأب مع ابنه.
وأما كون شهادة الأخ لأخيه تُقبل؛ فلأنه من عدول المسلمين فيدخل في قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282] وغير ذلك من الآيات.
ولأن الأخ عدل غير متهم. فوجب قبول شهادته؛ كالأجنبي.
وأما كون شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض تُقبل؛ فلأنه إذا قُبلت شهادة الأخ لأخيه. فلأن تُقبل شهادة الأقارب بعضهم لبعض بطريق الأولى.
وأما كون شهادة الصديق لصديقه تُقبل؛ فلعموم النصوص المتقدم ذكرها.
ولأن الصديق إذا كان عدلاً لم يكن متهماً في شهادة صديقه.
وأما كون شهادة المولى لمعتقه تُقبل؛ فلأنه إذا قُبلت شهادة الأخ لأخيه. فلأن تقبل شهادة المولى لمعتقه بطريق الأولى.
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (28560) 5: 514 كتاب الحدود، في العبد يسرق من مولاه ما عليه؟
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (2250) 2: 838 كتاب المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط
…
وأخرجه مسلم في صحيحه (1543) 3: 1173 كتاب البيوع، باب من باع نخلا عليها ثمر.
فصل [المانع الثاني]
قال المصنف رحمه الله: (الثاني: أن يجرّ إلى نفسه نفعاً بشهادته؛ كشهادة السيد لمكاتبه، والوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال، والوصي للميت، والوكيل لموكله بما هو وكيل فيه، والشريك لشريكه، والغرماء للمفلس بالمال، وأحد الشفيعين بعفو الآخر عن شفعته).
أما كون الثاني مما يمنع قبول الشهادة: أن يجرّ إلى نفسه نفعاً بشهادته؛ فلأنه يلي الأول.
وأما كون ذلك يمنع ذلك؛ فلأن فاعله متهم في الشهادة، والتهمة تمنع من قبول الشهادة.
وأما كون ذلك كشهادة السيد لمكاتبه
…
إلى آخره؛ فلأن كل واحدٍ منهم يجرّ إلى نفسه نفعاً بشهادته. وبيان النفع في كل صورة مما ذكر ظاهر.
فصل [المانع الثالث]
قال المصنف رحمه الله: (الثالث: أن يدفع عن نفسه ضرراً؛ كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ، والغرماء بجرح شهود الدَّيْن على المفلس، والسيد بجرح من شهد على مكاتبه أو عبده بدين، والوصي بجرح الشاهد على الأيتام، والشريك بجرح الشاهد على شريكه، وسائر من لا تُقبل شهادته لإنسان إذا شهد بجرح الشاهد عليه).
أما كون الثالث مما يمنع قبول الشهادة: أن يدفع عن نفسه ضرراً؛ فلأنه يلي الثاني.
وأما كون ذلك يمنع ذلك؛ فلأن فاعله أيضاً متهم، والتهمة تمنع قبول الشهادة.
وأما كون ذلك كشهادة العاقلة
…
إلى آخره؛ فلأن كل واحدٍ يدفع عن نفسه ضرراً بشهادته. وبيان الضرر في كل صورة مما ذكر ظاهر.
فصل [المانع الرابع]
قال رحمه الله: (الرابع: العداوة؛ كشهادة المقذوف على قاذفه، والمقطوع عليه الطريق على قاطعه، والزوج بالزنا على امرأته).
أما كون الرابع مما يمنع قبول الشهادة: العداوة؛ فلأنه يلي الثالث.
وأما كون العداوة تمنع ذلك؛ فلأن في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غِمْرٍ على أخيه» (1). رواه أبو داود.
والغمر: الحقد.
ولأن العداوة تورث التهمة. فوجب أن تمنع الشهادة؛ كالقرابة القريبة.
وأما كون العداوة كشهادة المقذوف على قاذفه
…
إلى آخره؛ فلأن كل واحدٍ من الشهود عدو للمشهود عليه. وبيان العدواة في كل صورة مما ذكر ظاهر.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (3601) 3: 306 كتاب الأقضية، باب من ترد شهادته.
فصل [المانع الخامس]
قال المصنف رحمه الله: (الخامس: أن يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب ويعيدها فإنها لا تُقبل للتهمة. ولو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً قُبلت. ولو شهد كافرٌ أو صبيٌ أو عبدٌ فرُدت شهادتهم ثم أعادوها بعد زوال الكفر والرق والصبى قُبلت).
أما كون الخامس مما يمنع قبول الشهادة: أن يشهد الفاسق بشهادة فترد ثم يتوب ويعيدها؛ فلأنه يلي الرابع.
وأما كون ذلك يمنع ذلك فلأن فاعله متهم بأدائها؛ لأنه يُعيّر بردها وتلحقه غضاضة. فإذا أعادها كان متهماً.
وأما كون شهادته تُقبل إذا لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلاً؛ فلأن التهمة إنما كانت من أجل العار الذي يلحقه في الرد، وذلك منتفٍ فيما ذكر.
وأما كون شهادة الكافر والصبي والعبد إذا شهدوا في حال الكفر والصبى والرق ثم أعادوها بعد الإسلام والبلوغ والعتق تُقبل؛ فلأن رد الشهادة في الأحوال المذكورة لا غضاضة فيه فلا تقع تهمة في الإعادة. وبذلك يظهر الفرق بين رد الشهادة بالفسق وبين ردها بالكفر والصبى والرق.
قال: (وإن شهد لمكاتبه أو لموروثه بجرح قبل برئه فردت ثم أعادها بعد عتق المكاتب وبرء الجريح ففي ردها وجهان. وإن شهد الشفيع بعفو شريكه في الشفعة عنها فرُدت ثم عفي الشاهد عن شفعته وأعاد تلك الشهادة لم تُقبل. ذكره القاضي. ويحتمل أن تُقبل).
أما كون شهادة المكاتب لمكاتبه إذا ردت ثم أعادها بعد عتقه، وشهادة الوارث لموروثه بجرح قبل برئه إذا ردت ثم أعادها بعد برء الجريح: لا تُرد في
وجه؛ فلأن زوال المانع من قبول الشهادة هنا ليس من فعل الشاهد. فلم يمنع ذلك من قبول شهادته المعادة؛ كزوال الصبَى بالبلوغ.
ولأن رد الشهادة هنا السببُ لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها.
وأما كونها تُرد في وجه؛ فلأن الحاكم رد شهادة من ذكر باجتهاده فلا ينقض ذلك باجتهاده.
والأول أصح. ذكره المصنف في المغني وعلله بأن الأصل قبول شهادة العدل. وقياس الشاهد هنا على المردود الشهادة بالفسق لا يصح؛ لوجود التهمة في حق الفاسق وانتفائها.
وأما نقض الاجتهاد بالاجتهاد فهو جائز بالنسبة إلى المستقبل غير جائز بالنسبة إلى ما مضى، ولذلك قضى عمر رضي الله عنه في قضية بقضايا مختلفة قال:«ذلك على ما قضينَا وهذا على ما نقضي» (1). وقبول الشهادة هنا من النقض في المستقبل لا في الماضي.
وأما كون شهادة الشفيع بعفو شريكه في الشُفعة إذا أعادها بعد ردها لا تُقبل؛ فلأنه متهم في الشهادة؛ كالفاسق إذا أعاد شهادته المردودة لفسقه.
(1) أخرجه الدارمي في سننه (648) 1: 112 في المقدمة، باب الرجل يفتي بالشيء ثم غيّره.