الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب التعزير
سمي التعزير بذلك؛ لأنه يَمنع من تعاطي القبيح، والأصل في التعزير: المنع. ومنه: التعزير بمعنى النصرة؛ لأنه منع لعدوه من أذاه.
قال المصنف رحمه الله: (وهو التأديب. وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد، وإتيان المرأة المرأة، وسرقة ما لا يوجب القطع، والجناية على الناس بما لا قصاص فيه، والقذف بغير الزنى ونحوه).
أما قول المصنف رحمه الله: وهو التأديب؛ فبيان لمعنى التعزير. وفسره المصنف رحمه الله في المغني بالعقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها، وهو قريب مما ذكره هنا.
وأما كونه واجباً في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة؛ فلأن المعصية تفتقر إلى ما يمنع من فعلها. فإذا لم يجب فيها حد ولا كفارة وجب أن يشرع فيها التعزير؛ لتحقق المانع من فعلها.
وقال المصنف رحمه الله في المغني: ينبغي أن يتقيد قول أصحابنا في (1) وجوبه -يعني في وجوب التعزير- بما نص على التعزير فيه؛ كوطء بهيمة، أو جارية امرأته، أو جارية مشتركة، أو نحو ذلك مما لا بد من التعزير فيه؛ لأنه منصوص على تأديبه. فوجب؛ كالحدود. وما عداه يكون على (2) ما رآه الإمام إن رأى (3) أن المصلحة فيه وجب عليه وإلا لم يجب عليه؛ لأنه يروى «أن رجلاً أتى النبي
(1) في أ: يعني في.
(2)
ساقط من أ.
(3)
في د زيادة: الإمام.
صلى الله عليه وسلم فقال: إني لقيتُ امرأةً فأصبت منها ما دون أن أطأها. فقال: أصليتَ معنا؟ قال: نعم. فتلا عليه: {إن الحسناتِ يُذْهِبْن السيئات} [هود: 114]» (1).
وروي: «أنه قال في الأنصار: اقبلُوا من محسنهم، وتجاوزُوا عن مُسيئهم» (2)، و «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم في حكم حكمه (3) للزبير: أَن كان ابن عمتِكَ. فغضبَ النبي صلى الله عليه وسلم» (4) ولم يعزّره على مقالته.
وأما قول المصنف رحمه الله: كالاستمتاع إلى آخره؛ فبيان لمواضع وجوب التعزير ونظر (5) إلى عموم قوله: في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة.
فإن قيل: ما الدليل على كون هذه الأشياء معصية؟
قيل: أما الاستمتاع الذي لا يوجب الحد؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سيئة، ولذلك قال للرجل الذي قال:«لقيتُ امرأةً فأصبتُ منها ما دون أن أطأها: {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]» (6).
وأما إتيان المرأة المرأة؛ فلأن في الحديث: «إذا أتتِ المرأةُ المرأةَ فهما زانيتان» .
وأما سرقة ما لا يوجب القطع؛ فلأن ذلك داخل في قوله عليه السلام: «لا يحل مالُ امرء مسلمٍ إلا عن طيبِ نفسه» (7).
وأما الجناية بما لا قصاص فيه؛ فلأنه تعدى على الغير. أشبه الجناية التي فيها القصاص.
(1) أخرجه الترمذي في جامعه (3113) 5: 291 كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة هود.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه (3588) 3: 1383 كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقبلوا من محسنهم
…
».
وأخرجه مسلم في صحيحه (2510) 4: 1949 كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل الأنصار.
(3)
في أ: حكم به.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (2231) 2: 832 كتاب المساقاة، باب سَكْرِ الأنهار.
وأخرجه مسلم في صحيحه (2357) 4: 1829 كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم.
(5)
في أ: ونظرا.
(6)
سبق تخريجه قريباً.
(7)
أخرجه أحمد في مسنده (20714) 5: 72.
وأخرجه الدارقطني في سننه (92) 3: 26 كتاب البيوع.
فإن قيل: القياس المذكور يقتضي مشروعية القصاص في ذلك أيضاً والتعزير خلافه.
قيل: تعذر القصاص [لمعنى يختص به: من عدم انتهائه إلى موضع يقتص منه. وقد نبه على ذلك في مواضعه. فانتفاء القصاص](1) لمعنى يختص به لا يمنع من ثبوت الحرمة لوجهين:
أحدهما: أن القصاص يقتضي الإلحاق (2) مطلقاً. ترك العمل به في القصاص؛ لما ذكر. فبقي فيما عداه على مقتضاه.
والثاني: أن المواضع التي فيها القصاص إنما حرمت الجناية عليها؛ لما فيه من التعدي على الغير، وذلك بعينه موجود فيما لا قصاص فيه.
قال: (ومن وطئ أمة امرأته فعليه الحد، إلا أن تكون أحلتها له (3) فيجلد مائة. وهل يلحقه نسب ولدها؟ على روايتين. ولا يسقط بالإباحة في غير هذا الموضع).
أما كون من وطئ أمة امرأته ولم تكن أحلتها له عليه الحد؛ فلما يأتي من حديث النعمان بن بشير بعد.
ولأن وطء في فرج من غير عقد ولا ملك ولا شبهة ملك فوجب الحد؛ كوطء أمة غير زوجته.
وأما كونه يجلد مائة إذا أحلتها له؛ فلما روي «أن رجلاً يقال له عبدالرحمن بن حنين (4) وقع على جارية امرأته. فرُفعَ إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة. فقال: لأقضينّ فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كانت أحلَّتْها لك جَلدتُك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتُكَ بالحجارة. فوُجدت أحلتها له. فجُلدَ مائة» (5). رواه أبو داود.
(1) ساقط من د.
(2)
في د: الإحلاق.
(3)
ساقط من د.
(4)
في الأصول: جبير. وما أثبتناه من سنن أبي داود.
(5)
أخرجه أبو داود في سننه (4458) 4: 157 كتاب الحدود، باب في الرجل يزني بجارية امرأته.
[وأما كونه يلحقه نسب ولدها على روايةٍ؛ فلأنه لا يجب به الحد. أشبه وطء الأمة المشتركة](1).
وأما كونه لا يلحقه على روايةٍ؛ فلأنه وطء في غير ملك. أشبه وطء أمة غير زوجته.
وأما كون الحد لا يسقط بالإباحة في غير إباحة الزوجة أمتها لزوجها؛ فلأن الوطء حرام لا يباح بالإباحة، ومقتضى ذلك وجوب الحد مطلقاً. تُرك العمل به في إباحة الزوجة أمتها لزوجها؛ لما تقدم من الحديث. فيبقى فيما عدا ذلك على مقتضاه.
قال: (ولا يُزاد في التعزير على عشر جلدات في غير هذا الموضع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يجلدُ أحدٌ فوقَ عشرِ جلداتٍ إلا في حد من حدودِ الله» (2). وعنه: ما كان سببه الوطء كوطء جاريته المشتركة والمزوجة ونحوه ضرب مائة ويسقط عنه النفي، وكذلك يتخرج فيمن أتى بهيمة. وغير الوطء لا يبلغ به أدنى الحدود).
أما (3) كون التعزير لا يزاد فيه على عشر جلدات في غير هذا الموضع على المذهب؛ فلما ذكر المصنف رحمه الله من الحديث المتقدم ذكره عن أبي بردة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يجلد أحدٌ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدودِ الله» (4) متفق عليه.
وأما كون ما كان سببه الوطء يضرب فيه مائة على روايةٍ؛ فلأن حديث النعمان بن بشير دل على ضرب المائة فيمن وطئ جارية امرأته بإذنها. فيتعدى إلى وطء أمته المشتركة والمزوجة ونحوه؛ لأنهم في معناها.
(1) ساقط من د.
(2)
سيأتي تخريجه قريباً.
(3)
في أ: وأما.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه (6456 - 6458) 6: 2512 كتاب المحاربين، باب كم التعزيز والأدب.
وأخرجه مسلم في صحيحه (1708) 3: 1332 كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير.
وأما كون من أتى بهيمة على القول بوجوب التعزير فيه يتخرج فيه مثل ذلك؛ فلأنه وطء. أشبه وطء أمة امرأته.
وأما كون غير الوطء لا يبلغ به أدنى الحدود؛ فلأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من بلغَ حداً في غير حدٍ فهو من المعتدين» (1).
وعن عمر: «أنه كتب إلى أبي موسى: لا تبلغ بالتعزيرِ أدنى الحدود» .
وقال المصنف رحمه الله في المغني: ما كان سببه الوطء يجلد فيه مائة إلا سوطاً لينقص عن حد الزنى، وفي الحديث عن عمر:«في أمة بين رجلين وطئها أحدهما: يجلد الحدُ إلا سوطاً واحداً» (2). رواه الأثرم.
قال: (ومن استمنى بيده لغير حاجة عزر. وإن فعله خوفاً من الزنى فلا شيء عليه).
أما كون من استمنى بيده (3) لغير حاجة يعزر؛ فلأنه فعل محرماً. بدليل أنه وطءٌ منهي عنه من حيث إنه في غير محل الحرث، وفي الأثر:«لعنَ اللهُ ناكِحَ يده» .
وأما كون من فعل ذلك خوفاً من الزنى لا شيء عليه؛ فلأن ذلك حال ضرورة وحاجة. أشبه نكاح الأمة في حق الحر إذا خاف الزنى وعدم الطَّوْل.
وروى عبدالله بن أحمد بإسناده عن ابن زياد عن أبيه قال: «كانوا يفعلونه على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيهم» . والظاهر أنه كان يبلغه ولا ينكره.
ولأنه لا يجوز أن يقدم الصحابة على ذلك إلا بإذن.
وعن ابن عباس: «أنه سُئل عن ذلك قال: كان المهاجرونَ يفعلونه (4) في مغازيهم يستعفونَ به» ، وروي عن عكرمة.
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 327 كتاب الأشربة، باب ما جاء في التعزير وأنه لا يبلغ به أربعين.
(2)
أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه نحوه عن سعيد بن المسيب (28512) 5: 509 كتاب الحدود، في الجارية تكون بين الرجلين فوقع عليها أحدهما.
(3)
ساقط من د.
(4)
في د: يفعلون.
فإن قيل: الحديث الأول يدل على التحريم مطلقاً، [وفعل الصحابة يدل على الجواز مطلقاً](1). فما وجه التفرقة بين (2) خوف الزنى وغيره؟
قيل: يجب حمل الحديث على من فعل ذلك لغير حاجة، وفعل الصحابة على الخوف المذكور؛ لأن فيه جمعاً بين الحديث وفعل الصحابة، وفي المنقول عن الصحابة ما يدل على لحظ ذلك من أن الفعل المنقول كان في المغازي التي هي مظنة الخوف من الزنى؛ لعدم استصحاب الرجل لزوجته في الغزو عادة، ويعضده قول الراوي:«يستعفونَ به» ؛ لأن في هذا إشارة إلى ما ذكر.
فعلى هذا ظاهر كلام المصنف رحمه الله لا يشترط في الإباحة خوف العنت.
وقال أبو الخطاب في رؤوس مسائله: والاستمناء محرم إلا أن يخاف العنت ولا يجد طَوْل حرة ولا أمة. وهو شرط حسن يجب أن يلحظ إلا أن يكون المحتاج إليه له زوجة وهو في موضع لا يتمكن من وطئها؛ كمغازي الصحابة المذكورة.
(1) ساقط من د.
(2)
في أ: من.