الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب العاقلة وما تحمله
العاقلة من يحمل العقل. والعَقْل الدية. وسميت عقلاً؛ لأنها تعقل لسان ولي المقتول. وقيل: لأنها تمنع من الإقدام على الفعل. وقيل: إنما سميت العاقلة بذلك؛ لأنهم يمنعون عن القاتل. والعقل: المنع، ولهذا سمي بعض العلوم عقلاً؛ لأنه يمنع من الإقدام على المضار.
قال المصنف رحمه الله: (عاقلة الإنسان عصباته كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والولاء؛ إلا عمودي نسبه آباؤه وأبناؤه. وعنه: أنهم من العاقلة أيضاً).
أما كون عصبة الإنسان كلهم غير عمودي النسب من العاقلة؛ فلا خلاف فيه.
فإن قيل: ظاهر كلام الخرقي أن في الأعمام روايتين؛ كالولد (1).
قيل: قد صرح غيره من الأصحاب بأن العمومة من العصبة بكل حال.
وقال صاحب المغني فيه: لا أعلم غيره خلافاً.
وأما كون عمودي النسب وهم الآباء والأبناء ليسا من العاقلة على المذهب؛ فلما روى أبو هريرة قال: «اقتتلتِ امرأتان من هذيل فرمتْ إحداهما الأخرى بحجرٍ فقتلتها وما في بطنها. فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتِها وورثها ولدها ومن معهم» (2) متفق عليه.
وفي روايةٍ: «فجعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنتها، والعقلُ على العصبة» (3). رواه أبو داود والنسائي.
(1) في د: كالوالد.
(2)
سبق تخريجه ص: 18.
(3)
أخرجه أبو داود في سننه (4576) 4: 192 كتاب الديات، باب دية الجنين.
وأخرجه النسائي في سننه (4818) 8: 48 كتاب القسامة، باب: دية جنين المرأة.
وإذا ثبت هذا في الولد وجب أن يثبت في الوالد؛ لأنه في معناه.
وأما كونهما من العاقلة على روايةٍ؛ فلما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «قضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن عقلَ المرأةِ بين عصبتها من كانوا لا يَرِثُونَ منها إلا ما فضل عن ورثتِها، وإن قُتلتْ فعقلُها بين ورَثتِها» (1). رواه أبو داود.
ولأنهم عصبة. أشبهوا الإخوة. يحققه أن العقل موضوع على التناصر. وهم من أهله.
ولأن العصبة في تحمل العقل لهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه. فكانوا أولى بحمل عقله.
وأما كون قريب العصبات وبعيدهم من العاقلة؛ فلعموم ما تقدم.
ولأن العبد عصبة يرث المال إذا لم يكن وارث أقرب منه. فوجب أن يدخل في العاقلة؛ كالقريب.
وأما كون عصبات الإنسان من الولاء من العاقلة؛ فلأن الولاء لحمة كلحمة النسب.
قال: (وليس على فقير ولا صبي ولا زائل العقل ولا امرأة ولا خنثى مشكل ولا رقيق ولا مخالف لدين الجاني حمل شيء. وعنه: أن الفقير يحمل من العقل، ويحمل الغائب كما يحمل الحاضر).
أما كون الفقير ليس عليه حمل شيء مما يجب على العاقلة على المذهب؛ فلأن حمل العقل مواساة. فلا يلزم الفقير؛ كالزكاة.
ولأنه وجب على العاقلة تخفيفاً عن القاتل. فلا يجوز التثقيل به على من لا جناية منه، وفي إيجابه على الفقير تثقيل وتكليف لما لا يقدر عليه.
وأما كونه يحمل من العقل على روايةٍ؛ فلأنه من أهل النصرة. أشبه الغني.
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4564) 4: 189 كتاب الديات، باب ديات الأعضاء.
وأخرجه النسائي في سننه (4801) 8: 42 كتاب القسامة، ذكر الاختلاف على خالد الحذاء.
وأخرجه ابن ماجة في سننه (2647) 2: 884 كتاب الديات، باب عقل المرأة على عصبتها وميراثها لولدها.
وأما كون الصبي وزائل العقل ليس عليه شيء من العَقْل؛ فلأن الحمل للتناصر، ومن ذكر ليس من أهله.
وأما كون المرأة ليس عليها حمل شيء من ذلك؛ فلما ذكر في الصبي.
وأما كون الخنثى المشكل ليس عليه حمل شيء من ذلك؛ فلاحتمال كونه امرأة.
وأما كون الرقيق ليس عليه حمل شيء من ذلك؛ فلأنه أسوأ حالاً من الفقير. فإذا لم يحمل الفقير عقلاً فلئلا يحمل الرقيق ذلك بطريق الأولى.
وأما كون المخالف لدين الجاني ليس عليه حمل شيء من ذلك؛ فلما تقدم من أن حملها للنصرة، ولا نصرة لمخالف له في دينه.
وأما كون الغائب يحمل كما يحمل الحاضر؛ فلأنهما سواء في التعصيب والإرث. فوجب استواؤهما في حمل العقل؛ لأن الاستواء في العلة يوجب الاستواء في الحكم.
قال: (وخطأ الإمام والحاكم في أحكامه في بيت المال. وعنه: على عاقلته).
أما كون الخطأ المذكور في بيت المال على المذهب؛ فلأن الخطأ ممن ذكر يكُن في أحكامه واجتهاده. فإيجاب العقل على عاقلته تجحف بهم.
ولأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله. فكان أرش جنايته في مال الله.
وأما كونه على عاقلته على روايةٍ؛ فلما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه بعثَ إلى امرأة ذُكرت بسوءٍ. فأجهضتْ جنينَها. فقال عمر لعلي رضي الله عنهما: عزمتُ عليكَ أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك» (1).
ولأنه جان. فكان خطؤه على عاقلته؛ كغيره.
قال: (وهل يتعاقل أهل الذمة على روايتين).
أما كون أهل الذمة يتعاقلون على روايةٍ؛ فلأنهم أهل النصرة لبعضهم بعضاً. أشبهوا المسلمين.
(1) سبق تخريجه ص: 110.
وأما كونهم لا يتعاقلون على روايةٍ؛ فلأن مقتضى الدليل أن الدية تجب على الجاني (1)، وإنما أوجبها الشرع على العاقلة تخفيفاً، والذمي ليس كالمسلم في مشروعية التخفيف. فوجب أن لا ينتقل الحمل عنه إلى العاقلة. عملاً بمقتضى الدليل السالم عن المعارض الحاصل من مشروعية التخفيف عن المسلم.
قال: (ولا يعقل ذمي عن حربي، ولا حربي عن ذمي).
أما كون الذمي لا يعقل عن حربي؛ فلأنه لا تناصر بينهما.
وأما كون الحربي لا يعقل عن ذمي؛ فلما ذكر.
ولأن الحربي لا حكم لنا (2) عليه. فلا معنى للحكم بالعقل عليه.
قال: (ومن لا عاقلة له أو لم تكن له عاقلة تحمّل الجميع. فالدية أو باقيها عليه إن كان ذمياً، وإن كان مسلماً أخذ من بيت المال. فإن لم يكن فلا شيء على القاتل. ويحتمل أن تجب في مال القاتل وهو أولى كما قالوا في المرتد يجب أرش خطئه في ماله. ولو رمى وهو مسلم فلم يصب السهم حتى ارتد كان عليه في ماله. ولو رمى الكافر سهماً ثم أسلم ثم قتل السهم إنساناً فديته في ماله. ولو جنى ابن المعتقة ثم انجر ولاؤه ثم سرت جنايته فأرش الجناية في ماله لتعذر حمل العاقلة فكذا هذا).
أما كون من لا عاقلة له أو لم تكن له عاقلة تحمّل الجميع. تكون (3) الدية أو باقيها عليه إذا كان ذمياً؛ فلأنه ليس له أحد يحمل عنه؛ لأنه لا عاقلة له. وبيت المال لا يحمل عنه؛ لأن المسلمين لا يرثونه.
وأما كون ذلك يؤخذ من بيت المال إذا كان مسلماً؛ فـ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري المقتول في خيبر من إبل الصدقة» (4).
(1) في أ: فلأن مقتضى الدليل تجب على أن الدية الجاني.
(2)
ساقط من د.
(3)
ساقط من أ.
(4)
أخرجه أبو داود في سننه (1638) 2: 119 كتاب الزكاة، باب كم يعطى الرجل الواحد من الزكاة؟
ولأن المسلمين يرثون من لا وارث له. فَيَعْقِلُون عنه عند عدم عاقلته؛ كعصبته ومواليه.
وعن الإمام أحمد: لا يؤخذ من بيت المال شيء؛ لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين ومن لا عقل عليه. فلم يجز صرفه فيما لا يجب عليهم.
ولأن العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو كعصبة.
وظاهر كلام المصنف رحمه الله في المغني تصحيح هذه الرواية؛ لأنه ذكر أدلة الأولى وأجاب عن إرث المسلمين بالمنع. وأن صرف المال إلى بيت المال إنما هو على أنه فيء، ولهذا يؤخذ من مال من لا وارث له من (2) أهل الذمة.
وأما كون القاتل لا شيء عليه على المذهب إذا لم يمكن الأخذ من بيت المال؛ فلأن الدية لزمت العاقلة ابتداء. بدليل أنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر رضاهم. فلم يجب على القاتل؛ لأنه غير من وجبت عليه.
وأما كونه يحتمل أن تجب في مال القاتل؛ فلعموم قوله تعالى: {وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله} [النساء: 92].
ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبراً للمحل الذي فوّته، وإنما سقط عنه لقيام العاقلة أو بيت المال مقامه في الجبر. فإذا لم يوجد ذلك بقي واجباً عليه بمقتضى الدليل.
ولأن الأمر دائر بين أن يبطل (3) دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف. والأول لا يجوز لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني.
ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له، وإيجاب الدية على القاتل خطأ له نظائر، وذلك في الصور التي ذكرها المصنف رحمه الله:
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27848) 5: 445 كتاب الديات، الرجل يقتل في الزحام. نحوه.
(2)
في أ: ومن.
(3)
في أ: يظل.
أولها: المرتد لما لم تكن له عاقلة وجبت دية خطئه في ماله.
وثانيها: المسلم إذا رمى سهماً ثم ارتد ثم وقع السهم في المجني عليه تجب الدية في مال الرامي.
وثالثها: الكافر إذا رمى سهماً ثم أسلم ثم وقع السهم في المجني عليه.
ورابعها: إذا رمى من عليه ولاء لموالي أمه فانجر ولاؤه إلى موالي أبيه ثم وقع سهمه في شخص فالدية في ماله.
وأما كون ذلك أولى؛ فلأن اعتبار ما له نظير أولى من اعتبار ما لا نظير له، ولا يلزم من عدم وجوب الدية [على العاقلة إهدار دماء الأحرار في الغالب؛ لأنه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدية](1) كلها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدماء، وتفوت الحكمة في إيجاب الدية.
فعلى هذا تجب الدية على القاتل (2) بكمالها إن لم تكن عاقلة، وباقيها إن حملت العاقلة بعضها.
(1) ساقط من د.
(2)
في أ: العاقلة.
فصل [فيما لا تحمله العاقلة]
قال المصنف رحمه الله: (ولا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً ولا ما دون ثلث الدية. ويكون ذلك في مال الجاني حالاًّ؛ إلا غرة الجنين إذا مات مع أمه فإن العاقلة تحملها مع دية أمه. وإن ماتا منفردين لا تحملها العاقلة لنقصها عن الثلث).
أما كون العاقلة لا تحمل العمد؛ فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تحملُ العاقلةُ عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا» (1).
وروي عن ابن عباس موقوفًا عليه (2). ولم يعرف له مخالف فكان إجماعاً.
ولأن ذلك يتحمله القاتل وقد تقدم دليله في قول المصنف رحمه الله: فإن (3) كان عمداً محضاً ففي مال الجاني (4). فلم تتحملها العاقلة؛ لأن ذلك المتلف لا يتكرر تحمله.
وأما كونها لا تحمل العبد؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس.
ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته. فلم تحمله العاقلة؛ كسائر القيم.
ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة أطرافه. فلم تحمل الواجب عنه؛ كالفرس.
وأما كونها لا تحمل الصلح. وهو: أن يدعى عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس.
ولأن ذلك مال ثبت بمصالحته واعترافه.
(1) قال ابن الصباغ: لم يثبت متصلا. وإنما هو موقوف على ابن عباس. تلخيص الحبير 4: 61.
(2)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 104 كتاب الديات، باب من قال: لا تحمل العاقلة عمداً
…
(3)
في أ: إن.
(4)
ص: خطأ! الإشارة المرجعية غير معرّفة ..
ولأن ذلك لو حملته العاقلة لأدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقاً بقوله.
وأما كونها لا تحمل الاعتراف. وهو: أن يقر الإنسان على نفسه بجناية خطأ أو شبه عمد؛ فلما تقدم من حديث ابن عباس.
ولأن ذلك لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم، ولا يقبل إقرار شخص على غيره.
ولأنه متهم في أن يواطِئ من يقر له بذلك ليأخذ الدية من العاقلة ثم يقاسمهم فيها.
وأما كونها لا تحمل ما دون الثلث؛ فلما روى عمر رضي الله عنه «أنه قضى في الديةِ أن لا يحملَ منها شيء حتى تبلغَ عقل المأمومة» .
ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني؛ لأنه موجب جنايته وبدل متلفه. فكان عليه؛ كسائر المتلفات والجنايات. تُرك العمل به في الثلث فصاعداً تخفيفاً عن الجاني لكونه كثيراً يجحف به بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والثلثُ كثير» (1). فيبقى فيما عداه على قضية الأصل.
وأما كون دية العمد، والجناية على عبد، وما ثبت بالصلح والاعتراف وما هو دون الثلث غير غرة الجنين إذا مات مع أمه: في مال الجاني؛ فلما تقدم غير مرة من أن مقتضى الأصل وجوب الجناية على الجاني. تُرك العمل به فيما عدا ذلك لمعنى يختص به. فيبقى فيما ذكر على مقتضى الأصل.
ولأن العمد والثابت بالاعتراف يلزم الجاني لما تقدم في موضعه (2). فكذا بقية الصور قياساً للبعض على البعض.
وأما كون ذلك حالاً؛ فلأنه بدل متلف. فكان حالاًّ؛ كقيمة المتلف من المتاع.
(1) سبق تخريجه ص: 119.
(2)
ص: 187.
وأما كون العاقلة تحمل غرة الجنين؛ فلما روى المغيرة بن شعبة؛ «أن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنينِ بغرة عبدٍ أو أمةٍ على عصبةِ العاقلة» (2).
وأما كونها تحمل مع ذلك دية أمه؛ فلأن القتل خطأ والعاقلة تحمله.
وأما كونها لا تحمل غرة الجنين إذا ماتت الأم (3) منفردة ومات الجنين منفرداً؛ فلأن الواجب في ذلك غرة قيمتها خمس من الإبل، وذلك دون ثلث الدية، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث؛ لما تقدم. ولذلك قال المصنف رحمه الله: لنقصها عن الثلث.
قال: (وتحمل جناية الخطإ على الحر إذا بلغت الثلث. قال أبو بكر: ولا تحمل شبه العمد ويكون ذلك (4) في مال القاتل في ثلاث سنين. وقال الخرقي: تحمله العاقلة).
أما كون العاقلة تحمل جناية الخطإ على الحر إذا بلغت الثلث؛ فلما تقدم من حديث أبي هريرة المذكور أول الباب في حمل العاقلة الدية (5).
وفي تقييده بالخطأ والحر وبلوغ الثلث احتراز عن العمد والعبد وما دون الثلث. وقد تقدم أن ذلك كله لا تحمله العاقلة (6).
وأما كونها لا تحمل شبه العمد على قول أبي بكر؛ فلأنه فيه العمد من وجه. فوجب إلحاقه به.
فإن قيل: وفيه الخطأ من وجه. فلم لا يلحق به؟
قيل: لما كان فيه شبه من الخطأ والعمد ألحق بالعمد في كون الدية على القاتل وبالخطأ في كون ذلك مقسطاً في ثلاث سنين.
وأما كون ذلك يكون على القاتل في ثلاث سنين؛ فلما ذكر.
(1) في الأصول: فلأن.
(2)
سبق تخريجه ص: 126.
(3)
ساقط من د.
(4)
ساقط من أ.
(5)
سبق ذكره وتخريجه ص: 181.
(6)
ص: 187.
وأما كونها تحمله على قول الخرقي؛ فلما تقدم أول الباب في قوله: وإن كان شبه عمد.
قال: (وما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر لكن يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم. فيحمل كل إنسان منهم ما يسهل ولا يشق. وقال أبو بكر: يجعل على الموسر نصف دينار وعلى المتوسط ربع دينار (1). وهل يتكرر ذلك في الأحوال الثلاثة أوْ لا؟ على وجهين).
أما كون ما يحمله كل واحد من العاقلة غير مقدر؛ فلأن التقدير من الشرع ولم يرد منه فيه شيء.
وأما كونه يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم؛ فلأنه لا نص فيه. فوجب الرجوع في تقديره إلى اجتهاد الحاكم؛ كتقدير النفقات.
وأما كون الحاكم يحمل كل إنسان من العاقلة ما يسهلُ ولا يشق على المذهب؛ فلأن التحمل المذكور على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه. فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويجحف به؛ كالزكاة.
ولأن الإجحاف لو كان مشروعاً كان الجاني أحق به؛ لأنه موجب جنايته وجزاء فعله. فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى.
وأما كونه يجعل على الموسر نصف دينار على قول أبي بكر؛ فلأنه أقل شيء يجب في زكاة الذهب. فكان معتبراً به في حقه.
وأما كونه يجعل على المتوسط ربع دينار على قوله أيضاً؛ فلأن (2) ما دونه تافه لكون اليد لا تقطع فيه.
وذكر المصنف رحمه الله في المغني قول أبي بكر روايةً عن الإمام أحمد.
وأما كون ذلك يتكرر في الأحوال الثلاثة على وجه؛ فلأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة. فوجب تكريره بتكرر الحول؛ كالزكاة.
وأما كونه لا يتكرر على وجه؛ فلأن في إيجاب ذلك زيادة على نصف دينار، وذلك إيجاب لزيادة على أقل الزكاة. فيكون مضراً.
(1) في أ: وعلى المتوسط ربعاً.
(2)
في د: فلأنه.
فعلى الأول يجب على الموسر من العاقلة دينار ونصف؛ لأن المقدر يتكرر في الأحوال الثلاثة، وعلى المتوسط ربع دينار لا غير كذلك.
قال: (ويبدأ بالأقرب فالأقرب. فمتى اتسعت أموال الأقربين لها لم يتجاوزهم، وإلا انتقل إلى من يليهم. فإن تساوى جماعة في القرب وُزّع القدر الذي يلزمهم بينهم).
أما كون الحاكم يبدأ بالأقرب فالأقرب مما ذكر؛ فلأنه يُبدأ به في الإرث. فكذلك في العَقْل.
وأما كونه لا يتجاوز الأقربين إذا اتسعت أموالهم للدية؛ فلأنه حق يستحق بالتعصيب. فلم يتجاوز الأقرب؛ كالإرث.
وأما كونه ينتقل إلى من يلي الأقربين [إذا لم تتسع أموالهم؛ فلأن الأقربين](1) لو لم يكونوا موجودين لتعلقت الدية بمن يليهم. فكذا إذا تحمل الأقربون ما وجب عليهم وبقيت بقية.
وأما كون القدر الذي يلزم الجماعة يوزع بينهم إذا تساووا في القرب؛ فلأنه لا مرجح لبعضهم على بعض. فوجب التوزيع؛ كما لو كان الحق لهم.
(1) ساقط من أ.
فصل [في تأجيل الدية]
قال المصنف رحمه الله: (وما تحمله (1) العاقلة يجب مؤجلاً في ثلاث سنين في كل سنة ثلثه إن كان دية كاملة. وإن كان الواجب ثلث الدية كأرش الجائفة وجب في رأس الحول. وإن كان نصفها كدية اليد وجب في رأس الحول الأول الثلث وباقيه في رأس الحول الثاني. وإن كان دية امرأة أو كتابي فكذلك. ويحتمل أن يقسم في ثلاث سنين. وإن كان أكثر من دية كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره لم يزد في كل حول على الثلث).
أما كون ما تحمله العاقلة يجب مؤجلاً في ثلاث سنين في كل سنة ثلثه إن كان دية كاملة؛ فلما روي «أن عمرَ وعلياً جعلا ديةَ الخطأ على العاقلةِ في ثلاثِ سنين» (2). ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعًا.
ولأنه مال يجب على سبيل المواساة. فلم يجب حالاًّ؛ كالزكاة.
وأما كونه يجب (3) في كل سنة ثلثه؛ فلأنه لا مرجح (4) لبعض السنين على بعض.
وأما كون ثلث الدية تجب في رأس الحول إذا كان الواجب كذلك كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأن ذلك قدر ما يجب عليه من الدية الكاملة في رأس الحول الأول. فوجب أن يجب فيه القدر المذكور بالقياس عليه.
وأما كون الثلث من النصف المذكور يجب في رأس الحول؛ فلأنه قدر ما يجب من الدية الكاملة. فوجب؛ لتساويهما في وقت الوجوب.
(1) في أ: الذي تحمل.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (27429) 5: 405 كتاب الديات، الدية في كم تؤدى؟
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 8: 109 - 110 كتاب الديات، باب تنجيم الدية على العاقلة.
(3)
ساقط من د.
(4)
في أ: ترجيح.
وأما كون الباقي يجب في رأس الحول الثاني؛ فلأن ذلك محِل القسط الثاني من الدية الكاملة. فوجب أن يكون محِلاً لما ذكر.
وأما كون دية امرأة والكتابي كذلك. أي يجب ثلثاها في رأس الحول الأول، وباقيها في رأس الحول الثاني على المذهب؛ فلأن الواجب فيهما نصف الدية. أشبه دية اليد.
وأما كونه يحتمل أن يقسم ذلك في ثلاث سنين؛ فلأن ذلك دية نفس كاملة. أشبه دية المسلم.
وأما كونه لا يزاد على الثلث في كل حول إذا [كان الواجب أكثر من دية كما مثّل المصنف رحمه الله؛ فلأنه وجب مواساة. فلم يجب في كل حول](1) أكثر من ثلث الدية؛ كالدية الواحدة.
قال: (وابتداء الحول في الجرح من حين الاندمال، وفي القتل من حين الموت. وقال القاضي: إن لم يسر الجرح إلى شيء فحوله من حين القطع).
أما كون ابتداء الحول في الجرح الذي لا يسري من حين الاندمال على المذهب؛ فلأن الدية بدل عن (2) القصاص، والقصاص إنما يكون بعد الاندمال. فكذلك بدله.
وأما كونه من حين القطع على قول القاضي؛ فلأنه لو عفى عند القطع على الدية وجبت. فالقطع إذاً مآله إلى الوجوب. فوجب أن يكون ابتداء الحول منه؛ كحالة الوجوب في القتل.
وأما كونه في الجرح الذي يسري من حين الاندمال؛ فلأنه قتل.
وأما كونه في القتل من حين الموت؛ فلأنه حالة الوجوب.
(1) ساقط من أ.
(2)
مثل السابق.
قال: (ومن مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه. وإن مات بعد الحول لم يسقط ما عليه).
أما كون من مات من العاقلة قبل الحول أو افتقر سقط ما عليه؛ فلأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة. أشبه الزكاة.
وأما كون من مات بعد الحول لا يسقط ما عليه؛ فلأنه حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته. أشبه الدين.
ولأنه وجب عليه لحولان الحول. فلم يسقط؛ كالزكاة.
قال: (وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة. وعنه: في الصبي العاقل أن عمده في ماله).
أما كون عمد الصبي والمجنون خطأ؛ فلأنهما لا يتحقق منهما كمال القصد. فوجب أن يكون خطأ؛ كخطأ البالغ.
وأما كون ذلك تحمله العاقلة؛ فلأنه خطأ، والعاقلة تحمل الخطأ.
وأما كون عمد الصبي العاقل في ماله في روايةٍ؛ فلأن عقله يصحح عمده، والعاقلة لا تحمل العمد.
ولأنه (1) عاقل. أشبه البالغ العاقل.
(1) في د: فلأنه.